انتصارات جديدة، وإن جزئية، أحرزها عمال مصر في معركتهم الممتدة مع السلطة الحاكمة. كانت الأجواء مستقطبة حول المفاجأة التي طرحها الرئيس مرسي، مساء يوم 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 على الشعب المصري بإعلان دستوري فريد في نوعه، ومفزع في مآربه، لأنه يلغي عملياً سائر السلطات ويؤسس للاستبداد. وبإزاء المقاومة المتنوعة التي انتصبت في وجه ذلك الإعلان، وأدت إلى ما عرف بـ«موقعة الاتحادية» (اعتداء مجموعات من الإخوان في 5 كانون الأول/ديسمبر على المعتصمين)، ألغاه الرئيس في 8 كانون الأول/ ديسمبر. لكن تلك كانت محاولة التفافية، أبقت في الواقع على كل آثار الإعلان المذكور، وعبرت عن تمسك السلطة القائمة بإقصاء القضاء عن الرقابة على مشروعية الجمعية التأسيسية، ومجلس الشورى، بانتظار تمرير الدستور. واستمرت المعركة دائرة حتى منتصف كانون الأول، بخروج المصريين للتصويت في المرحلة الأولى من استفتاء انشغل المؤيدون والرافضون والممتنعون عن التصويت، في متابعة مساره، والتشاحن على خلفية ما شابه من تجاوزات وانتهاكات وشبهات تزوير، ثم انشغال السلطة وحلفائها بالاستمتاع بنشوة الانتصار في معركة الدستور، والتمكن من تمريره، ومحاولة الآخرين التخلص من الإحساس بالهزيمة، أو الضعف، أو اليأس، والتفكير في استراتيجية وأدوات إدارة المعركة في الفترة المقبلة.
ازدياد التحركات العمالية
ثمة طرف وسط كل هذه الأجواء يناضل في هدوء، وبعزيمة مصدرها الاقتناع بضرورة النصر في معركته من أجل الحق في حياة كريمة. هذا الطرف هو عمال مصر الذين يستكملون حركة نضالية جددت مسارها وكثفت نشاطها منذ سنوات، وكانت أحد أهم عوامل قيام ثورة يناير. وعلى الرغم من تولي البلاد قيادة جديدة يفترض أنها تعهدت بتحقيق أهداف الثورة التي تأتي على رأسها «العدالة الاجتماعية»، إلا أنه منذ تولي الرئيس مرسي، استمرت الاضرابات العمالية بل زاد عددها في كثير من القطاعات. كما انتهجت السلطة الأساليب نفسها التي كان يتبعها نظام مبارك في التعامل مع تحركات العمال ومطالبتهم بحقوقهم.
لم يتجاوز رد الفعل الحكومي إطار المُسكّنات مما أفضى إلى تعميق الأزمة، واستمر عدم الإصغاء الجيد للعمال، وتجاهل السببين الرئيسيين لإضرابهم، وهما: «الأمان الوظيفي، والأجر العادل». لم تعِد الحكومة النظر في ضبط العلاقة بين العامل وصاحب العمل، وتحسين ظروف وبيئة العمل، ولم يحصل العمال على أجر عادل، ولم توضع معايير عادلة للحدين، الأدنى والأقصى للأجور، أو رفع معدلات الدخل بشكل عام. فضلاً عن أن تصعيد العمال بالإضراب جاء بعد يأسهم من تطهير مؤسساتهم من العناصر الفاسدة. فقد انتظروا حملة تطهير واسعة بعد الثورة، يتم خلالها عزل القيادات الفاسدة، ومحاكمتها على إهدار المال العام، لكن عدم حدوث ذلك، مع تردّي أوضاعهم المعيشية، أصابهم بالإحباط، ودفعهم إلى الإضراب.
انتهاج أساليب النظام السابق
تتعامل الحكومة مع إضرابات العمال بشكل انتقائي، فتستجيب لمطالب بعض العمال دون آخرين، وخاصة إذا كان الإضراب في قطاع حيوي ومهم، ويؤدي إلى ارتباك عام يمس حياة المواطنين بشكل مباشر. وهي تفعل ذلك تجنباً لاندلاع غضب شعبي، ومع ذلك فإن تحركها يأتي متأخراً بعد وقوع تصعيد المطالب بالإضراب. وعلى سبيل المثال، إضراب عمال مترو الأنفاق بالقاهرة، وامتناعهم عن تشغيل خطوط المترو الثلاثة في 14 تشرين الثاني /نوفمبر 2012، الأمر الذي هدد بأزمة كبيرة، نتيجة تعطل حركة المرور في العاصمة، فاضطرت الحكومة إلى تلبية مطالب العاملين بالشركة المصرية لإدارة وتشغيل المترو، واستبعاد رئيس مجلس إدارة الشركة. فض العمال إضرابهم، وانتظمت حركة قطارات المترو خلال دقائق. لكن الحكومة اعتبرت الإضراب إهانة لها، لأن رؤيتها لهذه الوسيلة في المطالبة بالحقوق لم تتغير. فراح وزير النقل يعلن أن ما حدث لن يتكرر، وأكد نيته وضع خطة لمواجهة هذه الإضرابات، والتعامل معها قبل حدوثها، ومواجهتها بالشرطة من خلال «القبض على المحرضين على الإضراب قبل تنفيذهم لمخططهم، وإحالتهم للنيابة»، مكرراً صور الفشل المتتالي لوزارة النقل في التعامل مع ملف عمال النقل العام.
العمال يسجّلون انتصارات
لم تثنِ هذه السياسة المسوِّفة أو الترهيبية عمال مصر عن الاستمرار في نضالهم. كما لم يكبحهم الادعاء أن العمال المضربين يتحملون مسؤولية الخسائر التي تلحق بالاقتصاد المصري بالمليارات (30 مليار جنيه، كما أعلن وزير القوى العاملة المصري جراء الإضرابات العمالية المستمرة). وخلال معركة الدستور، اقتنص عدد من عمال مصر في قطاعات مختلفة بعض حقوقهم. ففي 17 كانون الأول، وبعد دخول العمال بمجمع مصانع الألومنيوم بنجع حمادي في اعتصام مفتوح للمطالبة بصرف أرباح الشركة كاملة، (إذ قامت إدارة الشركة بخصم شهرين من أرباح العمال السنوية كضريبة «كسب عمل»)، استجابت إدارة شركة «مصر للألومنيوم» لمطالب العمال، ووافقت على صرف أرباح 12 شهرا كاملة، وتقديم موعد صرفها. وبناء على هذه الاستجابة، أنهى العمال اعتصامهم، لا سيما أنه تم الاتفاق على عدم المساس بالمرتبات وحافز الإنتاج، وتعهدت الإدارة بدراسة زيادة الحافز.
انتصار آخر سجّله عمال الشركة الشرقية للدخان «إسترن كومباني»، إحدى شركات قطاع الأعمال العام بالجيزة، ولها فروع أربعة. ففي 19 كانون الأول 2012، وبعد إضراب استمر لمدة يومين، رضخت الشركة القابضة لقطاع الأعمال لمطالب العمال برحيل رئيس مجلس إدارة الشركة، وانتداب آخر لفترة موقتة، كما تمت الموافقة على رفع الأرباح إلى 42 شهراً، مع صرفها دفعة واحدة، بداية كل عام، بدلاً من صرفها على ثلاث دفعات. ووافقت الإدارة على صرف بدل طعام (400 جنيه)، مع تشكيل لجنة لبحث مطالب العاملين الخاصة بتثبيت العمالة الموقتة، وتوفير العلاج الطبي لأسر العاملين ضمن نظام الرعاية الذي يقتصر على العامل بمفرده، وترشيد الإنفاق على مكافآت كبار موظفي الشركة، مع وقف المكافآت الكبيرة للإدارة العليا أو توزيعها على جميع العاملين وفق نظام يرتضيه الجميع.
وفي 23 كانون الأول /ديسمبر، أنهى عمال مشروع المحاجر التابع لمحافظة السويس إضرابهم عن العمل واعتصامهم الذي استمر أربعة أيام، بعد أن قرر المحافظ ومجلس إدارة مشروع المحاجر، زيادة رواتبهم 500 جنيه لكل العاملين بمنطقة جبل عتاقة، الذين أعلنوا رفضهم الظلم الوظيفي، وطالبوا بإعادة الهيكلة الوظيفية الخاصة بالرواتب.
وقد سبقهم عمال النيل لحليج الأقطان بالمنيا، الذين رضخت لضغوطهم إدارة الشركة، وأقرت صرف مستحقاتهم، وهي أجر 11 شهرا، و35 في المئة من الأرباح. وقد كانت شركة النيل قد بيعت للقطاع الخاص بعُشر سعرها، ثم تعنتت مع العمال، ولم تصرف لهم اجورهم. ولا يزال العمال مستمرين في الضغط على الإدارة لتحقيق كافة مطالبهم، وعازمين على استكمال نضالهم لتنفيذ حكم المحكمة في قضيتهم، الذي قضى بعودة الشركة من الخصخصة للقطاع العام.
أما عمال شركة غزل كفر الدوار، فقد استطاعوا عزل رئيس النقابة في الرابع من كانون الأول /ديسمبر، بعد أن حملت القيادات العمالية النقابة مسؤولية تأخر تنفيذ قرار الزيادة (25 في المئة) لبدل طبيعة العمل، ما دفع النقابة تحت ضغط العمال بالشركة، إلى عقد اجتماع طارئ لمناقشة الموقف، وترتب على ذلك عزل رئيسها.
ويستمر أيضا عمال ميناء العين السخنة في نضالهم ضد إدارة شركة دبي للموانئ في ميناء العين السخنة، لإرغام الشركة على عدم الفصل التعسفي للعمال الذين طالبوا بالحق في التنظيم في نقابة مستقلة تعبّر عنهم وعن مصالحهم داخل الشركة، واستطاعوا أن ينتزعوا حقهم في مكافأة نهاية الخدمة كما ينص عليها قانون العمل، وهي المكافأة التي حرمت الشركة العاملين منها من دون وجه حق، مستخدمة وسائل لترهيب العمال بفصلهم. وكان عمال الميناء قد اضربوا من أجل ذلك المطلب في السابق، وتدخلت الحكومة ووقعت اتفاقية عمل جماعي بين النقابة المستقلة والإدارة، في تشرين الأول، بحضور مستشار الرئيس، وممثل وزارة القوى العاملة، وجميع المسئولين بمحافظة السويس. وتم فض إضراب العمال على ضمانة وزارة القوى العاملة، وهؤلاء المسؤولين. إلا ان الشركة الإماراتية ضربت باتفاقها مع الحكومة المصرية ومؤسسة الرئاسة عرض الحائط.
الدستور الجديد ضد العمال
تستمر مقاومة عمال مصر على الرغم من أن الدستور الجديد الذي أُقر يُجيز فصل العامل من عمله تعسفياً، ويهدّد الحرية النقابية، ويمثل تعدّياً واضحاً على معناها، ويقيّد حق العمال في ممارسة الإضراب السلمي، ويجيز عمل الأطفال حتى في سن التعليم الإلزامي، وفقًا لما جاء في المادة 70، ويفتح الباب أمام تقنين العمل الإجباري.
الدستور الجديد ينص في المادة 14 على «حد أدنى يكفل حياة كريمة لكل مواطن»، دون أن يوضح مقومات الحياة الكريمة التي يقصدها. وهو يسمح باستثناءات في تطبيق حدود الأجور (خصوصاً الحد العالي أو الاقصى منها التي عينها للإدارة في القطاع العام فحسب) ما يساعد على استمرار منظومة الفساد القائمة. ولم يضع الدستور الجديد نسبة بين الحدين، الأدنى والأقصى، ما يزيد من الفجوة بينهما، ولم يربط الأجور بالأسعار، ما يجعل الحد الأدنى عاجزاً عن تغطية الاحتياجات الأساسية للعمال وأسرهم... تلك الحياة الكريمة المشار إليها.