يشكل سؤال إمكانيات أي نظام في قمع تمرد أو ثورة ضده هاجساً كبيراً لدى الباحثين في مجال دراسة الثورات والحركات الاجتماعية. وتدور حول هذا السؤال عدة إشكاليات وأسئلة أخرى مثل: مدى إمكانية أي حركة في النجاح، قدرة النظام على الصمود، إمكانية اندلاع حرب أهلية، مقدار العنف والدموية داخل التمرد، مدى تماسك أجهزة الدولة القمعية، مآلات الحركة.. حيث تحدد تلك الجوانب، وعلى الأخص منها مستوى العنف في سياق أي ثورة أو تمرد، ملامح المستقبل وشكل النظام والدولة المقبلين.
الجيش و25 يناير
حتى الآن لم يتبين ما إذا كان الجيش المصري قد تلقى أوامر بإطلاق الرصاص الحي أو قمع المتظاهرين أم لا. وظف الجيش إعلامياً وخطابياً عدم إطلاقه النار على الثوار، وبأنه من قام بحماية الثورة. كما تناول شرف الجندية والعسكرية، وأنه جيش لكل المصريين، وأنكرت قيادته العليا في ذلك الوقت (المشير محمد حسين طنطاوي) بأن مبارك أعطى أوامر للجيش المصري بقمع المتظاهرين. عدم قمع الجيش للموجة الأولى من الثورة المصرية حال دون شك من تصعيد مقدار العنف، بل حمى الجيش نفسه من تبعات مثل هذا القرار، إذ حافظ أولاً على وحدته وتجانسه العام والمؤسسي، وأكسبه ثانياً أرضية شعبية واسعة مكّنته من تسلم مقاليد الحكم كاملة دون مقاومة تذكر، ومنحه ثالثاً شرعية دولية في إدارة الدولة وتمثيلها عالمياً، وحافظ رابعاً على الدولة كأرض وسيادة.. أي أن جهاز الدولة متمثلاً في الجيش المصري استطاع الحفاظ على الدولة بمفهومها الكلاسيكي كسيادة على القرار. وظلت سيادته مبسوطة على الإقليم المصري حتى سيناء في ذلك الوقت. وهذا على الرغم من اختفاء "الداخلية" بالكلية وهزيمتها الثقيلة التي أفقدتها توزانها وحضورها الشُرطي والاجتماعي لمدة ثلاث سنوات تقريباً. ومكّن هذا الأمر الجيش من قدرة عالية على ردع الثورة وحصر شرعية الميدان في الحقلين الرمزي والاحتجاجي. وفي هذا، نجحت الدولة في حصار الثورة وتحويلها من فعل مباشر يقوم بالاستحواذ على السلطة وعلى قطاعات مجتمعية، إلى فعل يستحوذ فقط على الرمز. وظلت شرعية الميدان محصورة فقط بالمطالبة من الدولة والضغط عليها لتحقيق أهداف الثورة، ما قرر مسار الثورة إلى وجهة التحول الديموقراطي والإصلاحي وأنهى احتمال الوجهة الجذرية.
شرعية الميدان كانت بالفعل قوية للغاية آنذاك، وهي كانت سلطة سياسية بحد ذاتها، لكنها لم تستطع تحويل نفسها إلى شرعية قادرة على تقاسم السلطة بجدية، أي على إنتاج القرارات مباشرة لا عبر المجلس العسكري. وقد يكون هذا الأخير قد تعرض إلى اهتزاز كبير في سلطته، وكان مضطراً للانصياع لطلبات ورغبات الميدان رغماً عنه، إلا أنه نجح في التمترس على خط شديد الذكاء وهو أنه لن يمرر أي قرار إلا من خلاله وبموافقته، حتى ولو كان مرغماً عليه. والأهم، أنه كان منشغلاً بألا تخترق الثورة الدولة بأنسجتها المختلفة وشبكاتها الاجتماعية. ومن هنا، نجح في الحفاظ على الدولة كجهاز وسيادة وشرعية ومؤسسات، وأيضاً على منظومة السلطة كاملة، كشبكات ممتدة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والمؤسسية، تتمركز الدولة بقلب علاقاتها.. كانت هذه النتائج كلها هي مكاسب هذا التموضع الذكي من الجيش بين الثورة والدولة، نتيجة لعدم أخذه قراراً بالقمع المباشر.
ولكن لماذا لم يقمع - والقصد بالقمع هنا هو الدخول في مواجهات مباشرة وواسعة مع الجماهير - الجيش الموجة الأولى من الثورة؟ الفرضية الأولى في الإجابة عن هذا السؤال، من قبل الجيش نفسه والنخب السياسية وبعض الثوار، هي أن تركيبة الجيش المصري تركيبة وطنية نتيجة لتاريخه وتكوينه، ولكونه جيشاً نظاميّاً قوامه الرئيسي من التجنيد الإجباري من عموم الجمهورية. وعموما، هناك جدل نظري كبير حول طبيعة الجيوش وقدراتها على القمع، يمكن تلخيصه برأيين كبيرين: الأول يتبناه جاك غولدستون الذي يرى أن قدرة الجيوش النظامية على القمع أعلى بكثير من غيرها، لتماسكها المؤسسي والإيديولوجي. بينما يرى وليم زارتمان أن الجيوش النظامية أميل للانسحاب من المواجهات الجماهيرية الواسعة، ويدلل على ذلك بحالتي مصر وتونس، حيث فضل الجيشان قرار عدم المواجهة خوفاً من تفكك المؤسسة وتركيبتها الشعبية. يرتكز رأي زارتمان المتقارب مع رأي النخبة المصرية على أمرين وجيهين. الأول هو أن تركيبة أي جيش في العالم تحدد قدرته على قمع مواطنيه في مواجهة مفتوحة، حيث إنه لو كان قوام الجيش من المواطنين فسيتردد أفراده في إطلاق النار على بقية أبناء الوطن في مواجهة يعلم الجميع أن الجميع منخرط بها. ثانيا لو اتخذ القرار واضطرت بعض الفرق للاشتباك، فمن المتوقع حدوث انقسام واسع داخل الجيش نفسه في مراحل لاحقة في حال استمرار القمع. ثالثاً، تحدد الإيديولوجيا ملامح كبيرة من قدرة الجيوش على القمع، حيث تُعرِّف العلاقة مع الواقع ومن هو العدو، والجيش المصري، على الرغم من تناقضاته التي تصل إلى حالة الفصام أحيانا (بعد اتفاقية كامب دافيد مثلاً)، إلا أن إيديولوجيته ظلت قائمة على وضع إسرائيل في خانة العدو الأول، وتقديس الشعب تقديسا ميتافزيقيا أحيانا، بينما تاريخياً، لم تتورع الداخلية المصرية عن قمع الجماهير ومواجهتها في كل ثورات وتمردات مصر الحديثة، فيما كان الجيش يؤثر الانسحاب، باستثناء إخماده لتمردات الصعيد ضد التجنيد الإجباري أثناء فترة محمد علي. وتشكل الإيديولوجيا الوطنية عماد الجيش المصري ورؤيته لنفسه كحامل لواء الاستقلال الوطني والتحرر من الاستعمار منذ تشكله الثاني أثناء فترة عرابي، ثم تشكله الثالث أثناء الاحتلال الانكليزي الذي انتهى بظهور الضباط الأحرار وانقلاب 1952. وأثناء فترة الاضطراب (1952-1954)، تردد الجيش في قمع التظاهرات الكبرى التي اتسمت بتنوع شعبي، بينما كانت الداخلية في المواجهة. حتى أنّ عدداً من قيادات الجيش قالت لعبد الناصر "إننا خرجنا باسم الشعب، وإذا كان الشعب لا يريدنا فعلينا العودة". وفي انتفاضة 1977 طلب الجيش من السادات سحب الداخلية والتراجع عن القرارات حتى يتسنى له السيطرة على الوضع في شوارع مصر، مع إيثار عدم المواجهة مع الجماهير.. حتى وصلنا إلى لحظة 25 يناير.
يتسم الرأيان القائلان بقدرة الجيوش النظامية، سواء على القمع أو على التردد في سلوك سبله، بقدر كبير من الاستاتيكية. فالمقاربتان تغفلان عوامل السياق والتأطير: أطرت الثورة المصرية نفسها منذ يومها الأول كثورة شعبية متعددة الأطياف، وقدمت خطاباً قوياً يحاول وضع الشعب والجيش كيد واحدة في معركة التحرر. كما لا يمكن أن نغفل عامل التناقض الكبير بين الجيش والنظام السياسي لمبارك آنذاك وذراعه المركزية المتمثلة في "الداخلية" التي توغلت وتسيدت على المجتمع وحتى على الجيش نفسه، حيث تعددت الاشتباكات والمشاحنات بينهما في سنوات ما قبل الثورة وامتدت حتى بعدها، وقام أفراد من الجيش أكثر من مرة بالهجوم على عدة أقسام من "الداخلية"، أبرزها واقعة "قسم 15 مايو" حين قام طلبة بالكلية الحربية بمهاجمه مركز للشرطه يقع جنوبي العاصمة المصرية فى آذار/ مارس 2009، وأفادت الأنباء وقتها أن الطلبة كانوا ينتقمون لسوء المعاملة التي تعرض لها أحد زملائهم فى المركز، بسبب تغول الداخلية وانتهاكها للتراتبية المتعارف عليها. وكان مشروع توريث جمال مبارك يسبب أرقاً كبيراً للجيش وينذر بنهاية سيادته وهيمنته على الدولة لمصلحة رجال الوريث ذاك، والداخلية بقيادة حبيب العدلي. كما أن عنصري المفاجأة المتمثلين في أحداث 25 يناير وما تبعها من تنظيم سريع لبعض التجمعات الشبابية والحركات الاحتجاجية، وسرعة انهيار "الداخلية" بعد ذلك بأيام، قوّضت فرص الجيش في الاستعداد لمعركة المواجهات المباشرة مع جماهير محتجة، بالأخص على مستوى الخطاب وتأطير الحدث وتصنيفه في خانة العدو الذي يجب قتله وإبادته. وهو أمر يأخذ قدراً كبيراً من الإعداد والتدريب حتى يتسنى للمؤسسة ممارسة القدرة على القتل والشحن المعنوي لقواتها.
سنوات الثورة والحدود التي اتسعت
بمجرد انتهاء حقبة الـ "18 يوماً المجيدة" التي شهدت تقارباً كبيراً بين الجماهير والجيش المصري، بدأ المجلس العسكري في إنتاج خطاب قوي يُؤطر الثورة كفعل خطر على هيبة الدولة ويسعى لتفكيكها. وبعدها بدأ يربط الثوار بالخيانة والعمالة للخارج. وعلى الأرض، ويوماً بعد يوم، اكتسب الجيش قدرات أوسع على القمع انتهت بالمذبحة الأولى في ماسبيرو عندما قامت قوات تأمين مبنى التلفزيون بقمع احتجاجات الأقباط في أيلول/ سبتمبر 2011. إلا أنها لم تكن كافية لتوسيع قدرته على القمع والبطش بجموع أوسع تتسم بالتنوع. وهكذا انخرط في بدايات معارك شارع "محمد محمود"، ورأى الجميع المشهد البشع، من سحل الشباب وإلقاء بعض الأجساد كأكياس القمامة، وهي التي لا نعلم حتى الآن إن كانت لقتلى أم لمن أنْهِك ضرباً. إلا أنّه، مع اشتداد المعركة، قام الجيش بالانسحاب وبتصدير الداخلية في الواجهة. وبعد "محمد محمود"، بدا واضحا أن الجيش سيبدأ بالانخراط بكل عنف في الصراع الدائر بين الثورة والدولة بقيادته. وبالفعل، لم تمر أسابيع قليلة حتى اندلعت اشتباكات مجلس الوزراء، التي انخرطت بها قوات المظلات في قمع وحشي كانت أبرز مشاهده تعرية فتاة كانت ترتدي عباءة سوداء والقفز على جسدها العاري. ظلت الأمور في تصاعد مع استمرار حدة الصراع والمطالبة بإسقاط "حكم العسكر"، وقام العسكر بالإيغال أكثر فأكثر في استخدام العنف ففض اعتصام العباسية بمنتهى القوة في ساعة الذروة التي تشهد قمة الحشد يوم الجمعة 2 أيار/ مايو 2012 حيث اندلعت مواجهات عنيفة بين المحتجين والشرطة العسكرية بسبب محاولات الوصول لوزارة الدفاع.
الأخطر سيأتي حينما سيقوم الجيش بثاني أكبر مذبحة في تاريخ مصر الحديثة بعد مذبحة المماليك، بل ربما تكون "مذبحة رابعة" هي الأكبر في التاريخ الحديث حيث إنّ مذبحة المماليك جاءت في بدايات حكم محمد علي، حين لم تكن الدولة ومؤسساتها قد استكملت بعد. على الأرض، كان بطل المذبحة الرئيسي في رابعة والنهضة هي قوات الداخلية بمساعدة الجيش.
اتسمت أغلب الوقائع السابقة إما بصغر حجم التظاهرات أو بطابعها الفصائلي. ولكنها وسَّعت كثيرا قدرة الجيش على القمع والقتل، ولو أنها ظلت محصورة في تأطير محدود لعدو واحد في كل مرة وعلى نطاق محافظة أو اثنتين. فحتى الآن، لم تختبر قدرة الجيش في مواجهة مفتوحة متنوعة الاطياف وعلى نطاق جغرافي واسع. وليس الغرض من هذه الاشارة تبرير ما حدث من مذابح، ولكن القصد أن تلك الوقائع افتقدت العامل الأهم في تقييم قدرة الجيش على القمع الواسع، وهو مواجهة جمهور كبير متشكل من أطياف المجتمع المصري. مثل هذه المواجهة هي ما يمكنها أن تضع ايديولوجيته وتركيبته في اختبار حقيقي، حيث سيكون هو محور الصراع ومركزه، وليس كما في العهود والانتفاضات السابقة. لا شك بأن قدرة الجيش على القمع اتسعت بشدة، وذاقت قواته طعم الدم المصري كما لم يحدث في تاريخ المؤسسة من قبل. إلا أن قدرته على قتل الجمهور من دون أن تتحول المواجهة إلى صراع بين الجيش وفصيل سياسي بعينه أو مجموعة من المتشددين، يظل سؤالاً مفتوحاً على التاريخ. والإجابة عنه ستعتمد أيضاً على شكل التأطير الذي ستقوم به الموجة الثورية لصراعها مع الجيش، وعلى أفراد وضباط القوات المسلحة، وعلى طبيعة الخطاب الثوري وتصويره للصراع وللعدو.