"الدولة الضعيفة"، "الدولة الرخوة"، "دولة ملوك الطوائف".. مصطلحات استخدمت سعياً لوصف وربما لفهم ما طرأ أخيراً من تحولات على الدولة المصرية.
في ما مضى
نجحت "دولة يوليو" في الستينيات من القرن الفائت في الاستحواذ على أدوات الإنتاج، والإيديولوجيا، وأدوات القمع وآلة العنف وكل ما يتعلق بالأمن، الوجدان، التخطيط (من التوظيف إلى الإسكان)، الأجساد، الرموز، الشعارات، الخطاب، والثقافة. وبالخلاصة، ما يسمى احتكار القرار والسيادة الكاملة عليه. وآنذاك، تضاعفت قوتها في ظل مشروع قومي ضخم وقصة كبرى تتمحور حول الاستقلال والسيادة والقومية العربية. وحاولت تلك الدولة استيعاب أكبر قدر من الجمهور داخل جهازيها البيروقراطي والأمني، وتشكلت حينها طبقة وسطى جديدة بشريحة أمنوقراطية واسعة أثرت من علاقتها بالأمن أو من عملها به.
كان "الاتحاد القومي" أول محاولة من عبد الناصر لبناء تنظيم سياسي للدولة ضمَّ كل السكان طبقاً لدستور 1958. ثم تحول "الاتحاد القومي" إلى "الاتحاد الاشتراكي" و "منظمة الشباب"، وكان كلا التنظيمين هما سبيل الحراك الاجتماعي والترقي في مصر. وفي الفترة حتى 1958، نجح عبد الناصر وزكريا محيي الدين في إعادة بناء الأجهزة الأمنية بشكل أكثر قوة وتماسكاً وسيطرة على المجتمع مما عرف بـ "القلم السياسي" في عهد الاستعمار، فقد عجز الإنكليز عن تحقيق ذلك. وتحول الحقل الأمني إلى الاستقلالية الشديدة عن بقية أجهزة الدولة، بل إلى الهيمنة عليها وعلى المجتمع. ولأسباب عديدة، كانت "الداخلية" هي الأقل حظاً في هذه الكتلة الأمنية المهيمنة، فهي ظلت موصومة بعبء تبعيتها للاستعمار الإنكليزي، كما بسبب أنه ظهرت أجهزة أكثر قوة وقرباً من الحاكم والنخبة الجديدة، وبسبب توسع دور مصر الإقليمي، ما استدعى أن تعود المهمة الأكبر إلى جهاز "المخابرات العامة" (بقيادة صلاح نصر لاحقاً)، وهي تولت حماية "النظام الجمهوري" من أعدائه في الداخل والخارج. وهكذا انحصر دور الداخلية المصرية في هيمنتها على جانب كبير من البيروقراطية اليومية والعمل الشُرطي. ولكن سرعان ما بدأ الحلم الناصري يضطرب. فبحلول عام 1965 بدا واضحاً أن ثمة خللا كبيرا وعطبا كثيرا في الداخل. وبدت ماكينة الدولة الجديدة عاجزة عن تحمل هذه البيروقراطية الضخمة والمترهلة، ثم جاءت هزيمة اليمن، ولحقتها الهزيمة الكبرى في 1967، وظهر أن الدولة كآلة حرب وسيطرة اجتماعية عاجزة عن خوض معركتها المركزية ضد العدو الأول في تل أبيب. سقط مشروع "دولة يوليو" إلا أن ما أفرزه من آلة كبيرة سيمضي قدماً لعقود طويلة. لم تكن مصادفة أن يُشرَع في بناء كل من "معهد أمناء الشرطة" و "الأمن المركزي" في 1968، بعد سنة واحدة من الهزيمة. كانت هذه هي الاستجابة الفعلية للهزيمة وتدشيناً لمرحلة جديدة في الحكم من خلال الضبط الشُرطي. ووقعت أولى المواجهات مع الطلاب في العام نفسه، ومذاك لم يكف الأمن المركزي عن الظهور المتكرر في الميادين.
لم تَخلُ تلك الفترة من الصراعات الداخلية بل وحتى من محاولات الانقلاب العسكري، إلا أنها ظلت داخل الدولة ولم تتحول لصراعات قادرة على الاستحواذ على أجهزة بأكملها أو تكوين حلفاء من قوى اجتماعية خارج جهاز الدولة. وهو مختلف بالكلية عما حدث في العقد الأخير من حكم حسني مبارك. وفي نهاية المطاف، كانت الصيغة الأهم في علاقة الدولة بالمجتمع في عهد عبد الناصر هي العدالة الاجتماعية والأمن الاجتماعي في مقابل الحرية.
المؤسسات والمسؤولية
ظلت الدولة محتفظة بطابعها المؤسسي وجملة المسؤوليات المركزية، مثل التعليم والصحة والأمن، أي أنها استمرت تقدم هذه الخدمات للمجتمع عبر مؤسساتها المباشرة، دون تحويلها إلى سلعة تقدمها الدولة للزبون المحتمل، ودون إسناد هذه المهمات لوكلاء. ومع ترهل الدولة، تراخت قبضتها في فرض القانون وبدأت مؤسساتها في الانزلاق نحو مزيد من عدم الكفاءة بل أحياناً من الغياب. جاء الانفتاح الاقتصادي في 1976 ليعيد تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع مرة أخرى، مع الحفاظ على "دولة يوليو" (هيمنة وغلبة الأجهزة الأمنية، غلق المجال العام، حظر السياسة كقاعدة، العداء للتنظيم، الطابع الذكوري مضافاً إليه رجعية صريحة، الاستحواذ والسيطرة على أدوات الإنتاج المعرفي)، ولكن بلا "مشروع"، وهذه المرة بمسؤوليات أقل، وبمزيد من عدم الكفاءة، وتفشي الفساد في كل ركن من أركانها وعلى كل المستويات، من الموظف إلى الوزير: فساد هيكلي وبنيوي يعيد إنتاج نفسه ولا تستقيم الحياة اليومية بدونه. الأخطر في الأمر أن حقبة الانفتاح شهدت تحولات جذرية داخل المجتمع أدت الى تغيير معالمه المادية وبعد ذلك المعنوية، فتبدلت أهمية الإنتاج ومحاولة إيجاد إنتاج وطني لمصلحة التركيز على التجارة. وأدى ذلك إلى صعود طبقات جديدة، وإلى تحالفات دولية جديدة، وأنماط استهلاك مختلفة بالكلية عما سبقها، بالإضافة الى إيقاع حياة وخطاب ولغة سياسية مختلفة، حيث اختفت من الخطاب السياسي مفردات ومفاهيم التحرر الوطني، المعركة، الصراع مع القوى الإمبريالية، التقشف.. لمصلحة أحلام الرخاء والاستقرار والاستثمار.
خصخصة الأمن
إحدى أخطر المراحل في حقبة الانفتاح هي الشروع في خصخصة جزء من الأمن وتقديم هذه الخدمة بطابع مؤسسي خارج عن أجهزة الدولة الرسمية. كان من المتوقع حدوث مثل هذا الأمر في ظل توسع شركات الاستيراد والتصدير، وبعض التوسع العقاري، وازدهار أنماط جديدة من التجارة وتوسعها. إلا أن أول شركة أمن خاصة جاءت بطلب من الولايات المتحدة الأميركية لتأمين سفارتها بالقاهرة، خاصة بعد التظاهرات المعادية لاتفاقية السلام مع إسرائيل. وتأسست شركة "كير سيرفيس" في 1979، أي بعد عامين من انتفاضة 1977 وعام على اتفاقية كامب دافيد 1978. هذا يثير سؤال السيادة، حيث يُعتبَر التأمين أمراً مركزياً من اختصاص الدولة. إلا أن التدقيق في هذه المسألة يستدعي استدراكات، فقد شهدت إنكلترا منذ بدايات القرن العشرين ظهور شركات الأمن الخاصة، كما تقوم "بلاك ووتر" بتأمين العديد من المؤسسات الأميركية، ولم ينتقص ذلك من سيادة تلك الدول. الموضوع هو إذاً كيفية استجابة الدولة المصرية لهذا التغيير، فهي أصرت على إعادة إنتاج وتوزيع دورها بشكل جديد، واستحدثت آلية ستتحول إلى نسق سيتكرر كثيراً في العقود اللاحقة. أنشأت السلطة إذاً شركة "كير سيرفيس"، واشترطت أن يكون مجلس الإدارة من أعضاء مصريين وأجانب. وكان الأعضاء المصريون هم اللواء عادل ابراهيم عمارة رئيس مجلس الإدارة، الذي سيصبح بعدها (وحتى الآن) رئيس شعبة شركات الحراسة والبيئة بالغرفة التجارية في القاهرة، أسامة أحمد زكي (عضو منتدب) وعمرو أحمد زكي (عضو مجلس الإدارة)، أبناء اللواء أركان حرب أحمد زكي عبد الحميد رئيس هيئة التنظيم والإدارة بالقوات المسلحة ورئيس مجلس إدارة شركة "كير سيرفيس" سابقا ورئيس الاتحاد المصري للغرف السياحية سابقا. وكما هو واضح، فهؤلاء رجال من القوات المسلحة، أصحاب رتب عالية، أو أبناؤهم. وهذا يضمن أمورا عدة: أولاً السيطرة على هذه المؤسسات من خلال رجال من الجيش، ضمان بروتوكول عمل يلزم هذه الجهات التنسيق مع الأجهزة السيادية (أي الجيش والمخابرات العامة والحربية) ومع الداخلية، تحويل هذه المؤسسات إلى مكافآت نهاية خدمة للضباط المقربين من نظام الحكم وأقاربهم. وهذا أمر شبيه جداً لما يحدث في القضاء، وخاصة مع زيادة وتيرة التوريث داخل المنظومة القضائية، حيث تتم مكافأة المستشارين بالتعيين في الشركات الاقتصادية والمالية الكبرى. وتضمن هذه الآلية أيضاً إدخال الضباط المتقاعدين وضباط الشرطة (وخاصة من فرعي أمن الدولة والمباحث العامة) إلى هذه الماكينة الجديدة التي نشأت من التلاقي بين الدولة والقوى الخارجية ورأس المال. وفي المقابل فرأس المال هو الآخر لا يمانع ولا يقاوم هذه الآلية حيث إنها ضمانته الأساسية لتجاوز عقبة البيروقراطية المعقدة والفاسدة، كما أنه يحتاج إلى الضباط لإدارة العديد من الأمور التقنية في هذا المجال والاستفادة من خبراتهم الشرطية أو في عقد ما يلزم من صفقات للمعدات مع الجيش.
بحلول نهاية الثمانينيات، توسعت الدولة وفق هذا الاتجاه في عدة مجالات، فأصبح هناك مصانع وشركات وتوكيلات عالمية ومحلية وعربية و "مولات" تسوّق ضخمة وفق هذه الأسس من "الشراكة". وهو ما أوجد فرصة لم تكن موجودة من قبل لقيام الدولة بتفكيك نفسها في حيز ما، والتشظي في مساحات أخرى عبر رجالها، وفرض نسق من التعاون. كما أن الأمر تحول أيضاً إلى بيزنس مربح للقضاة والضباط ورجال التجارة والأعمال المقربين من السلطة، سواء بحكم النسب أو الولاء. وفي 1988، أنشأ الجيش "شركة النصر للخدمات والصيانة" ("كوين سيرفس") لتنافس هي الأخرى في السوق.
القادمون من التسعينيات
إلا أن ازدهار هذا النسق المتجاوز للمجال الأمني "الخاص" تحقق مع اشتداد النيوليبرالية مطلع الألفية الثالثة، وتحديداً بعد توسع البنوك، وتفريخ المدن الجديدة مثل "التجمع الخامس" و "السادس من أكتوبر"، وانتعاش "العاشر من رمضان".
من هي القوى القادمة من التسعينيات والصاعدة الآن؟ ظهر جمال مبارك كنجم في عالم السياسة وكالوريث المرتقب، وكانت الداخلية المصرية الأقرب إلى مبارك شخصياً، وهي الخارجة لتوّها بنصر من "معركة الإرهاب" استمرت ما يزيد عن عقدين (بفضل ما أجرته المجموعات الإسلامية التي قتلت السادات وحملت السلاح مما عرف كـ "مراجعات"، وبفضل سحق العديد من خلايا هذه المجموعات كذلك). وشهد هذا العقد إطلاق يد الداخلية وجمال مبارك ورجاله والقوى النيوليبرالية على كل المجتمع. خاصة أن الضغوط الخارجية، متمثلة في مطالبة كل من البنك وصندوق النقد الدوليين والولايات المتحدة بتطبيق ما عرف بـ "التكيّف الهيكلي"، واشتداد عمليات الخصخصة في التسعينيات مهدت الأرض لرجال الأعمال. لا شك بأن الجيش هو الآخر قد استفاد على المستوى المادي من هذه التحولات. إلا أن سؤال الحكم والسيطرة يبقى هو الأمر المركزي في بلد مثل مصر ما زالت الدولة فيه تتحكم بآلية توزيع الثروة، وما زالت هي ماكينة الهيمنة الأولى في البلاد.
حملت السنوات العشر من 2000 إلى 2010 تحولات كبيرة في بنية الدولة المصرية والمجتمع، وشهدت صراعاً مكتوماً بين البيروقراطية القديمة والجيش من جهة، ورجال مبارك والنيوليبرالية والداخلية من الجهة الأخرى. وانتهى الأمر بالانفجار الكبير في 2011. حينها انكشفت بعض ملامح الصراع داخل بنية الحكم في مصر، والتصدع، إلا أننا حتى هذه اللحظة لا نعلم إلا القليل.
يبقى السؤال الأساسي مطروحاً وإن عصي على الإجابة: هل نجحت الدولة في إعادة توزيع أدوارها من خلال هذه النسق من التفكك والتشظي إلى مجالات أخرى وبأدوات الاختراق و/أو المزاحمة، خاصة لأن هذه الدولة أعلنت بوضوح عن رغبتها في التخلي عن مسؤولياتها وأدوارها المركزية تجاه المجتمع. أم أن هذا الذي يجري ليس سوى استمرار في انزلاق الدولة نحو التحلل والتفكك الكاملين، خاصة بعدما فقدت قدرتها في التنشئة/التربية والضبط الاجتماعي والإيديولوجي للأفراد؟