هذه قصة الوادي الذي غاب عنه القمر وحضرت السلطة والعولمة والأمن إلى لياليه فجعلتها أكثر قتامة، وبدلاً من أن يظلل ضياؤه بلونه الحليبي أطفال المنطقة، اخترق غبار الاسمنت صدورهم، ودمرت عمليات التحديث المشوهة ما تبقى من جمال في هذا الوادي. في ليالي اكتمال القمر، كانت البحيرات المالحة (الملاّحات) تعكس صورته وضوءه ليولد على الماء عشرات الأقمار..
إلا أن وادي القمر لم ينل تسميته تلك لأن قمراً يتلألأ في لياليه، بل لجمال المنطقة الخلاب وبيئتها الصحية. فالهواء النقي المتجدد الذي تجلبه رياح البحر المتوسط، الواقع على بعد بضعة كيلومترات الى الشمال، كان يمر فوق الملاحات التي تقوم بتصفيته وترشيحه. في المكان كل المقومات المطلوبة لبناء مجتمع حديث، وكان المستقبل يبدو واعداً. غير أن أبغض الحلول طبقت عليه. في 7 حزيران/ يونيو 1948، وبموجب مرسوم ملكي، قامت السلطات بتأسيس "شركة الإسكندرية لأسمنت بورتلاند". لم تكن الإنتاجية هائلة الحجم، إلا أن هذا المصنع كان بداية إعادة تشكيل المنطقة وتحويلها إلى حيز صناعي، وبالتالي إعادة تشكيل الحياة، من المعمار إلى العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، إلى الطبيعة البيئية.
توصيف
يقع المصنع المذكور قبل مساكن أهل المنطقة شمالا. أول ما حدث سريعاً نتيجة لهذه الخطوة من التحديث غير المخطط جيداً هو التغير البيئي للمنطقة. فالهواء المصفى الذي ينشر جواً لطيفا حملت رياحه أتربة الأسمنت إلى داخل البيوت والصدور. يقول أهالي المنطقة إن لديهم وثائق تثبت وجودهم في هذا المكان منذ 1930، أي قبل بناء المصنع. وتشير بعض الوثائق الأخرى إلى أن وجود السكان بالمنطقة يعود إلى عام 1910. وهناك حوزات قديمة عدة للمساكن تشير إلى هذا الأمر. والمنطقة المحيطة بوادي القمر شديدة الأهمية للبلاد كلها وليس فقط لمحافظة الإسكندرية، حيث يقع ميناء الدخيلة على بعد كيلومترات قليلة، كما هناك عدد كبير من المصانع، والأحياء السكنية التي يعمل أبناؤها في الاستخلاص الجمركي والاستيراد والتصدير والشحن والتفريغ. ويمتد هذا الإقليم من المنشية شرقاً حتى الكيلو واحد وعشرين غرباً. ويقع وادي القمر في منتصفه تقريباً، وتمر عبره حركة كبيرة لرؤوس الأموال والبشر والمعدات. ومع هذا يتسم المكان بفقر المعمار وسوء التنظيم والتخطيط، إضافة إلى بنية تحتية رثة. وازداد الأمر سوءاً حينما تحول شارع وادي القمر الرئيسي إلى ممر للطريق الدائري والساحلي، فأصبح أحد أبرز الشوارع قبحاً وتكدساً. ومع بنية تحتية ضعيفة وصيانة منعدمة، أهلكت الحافلات الطريق غير المرصوف بشكل جيد حتى صار مليئا بالحفر والمطبات...
ثم جاءت الخصخصة
مع تبني الدولة المصرية سياسات الخصخصة منذ التسعينيات من القرن الفائت، وطبقاً للباحثة العمالية فاطمة رمضان، قامت "الشركة القابضة للصناعات الكيماوية في 1999 ببيع أسهم تقدر بـ73.643 في المئة من رأس مال شركة الإسكندرية لأسمنت بورتلاند"، فازداد الإنتاج حتى أصبح هائلا، مما جعل كميات الأتربة غير قابلة للتحمل. وبحلول عام 2001، أصبحت الشركة ملكاً لـ "لافارج" الفرنسية، فقام المالك الجديد ببناء برجين وخطين جديدين للإنتاج، مع غياب المصافي الجيدة للهواء حيث الموجود منها لا يطابق معايير الجودة الدولية. ثم انتقلت الملكية لمجموعة "تيتان" اليونانية في 2008. وفي 2014، قامت الشركة بمخاطبة البورصة المصرية لتعلمها بأنها سوف تستخدم الفحم ابتداء من منتصف 2015 "نظراً لعدم توفر الغاز اللازم لها". وتشير رمضان أنه عندما اشترت شركة تيتان اليونانية المصنع، كان عدد العمال 2503 عمال، بينما يبلغ عدد عمال الشركة الآن 320 عاملًا فقط. وقد حل محل المصروفين عمال موقتون، يقومون بالعمل في ظل حماية اجتماعية أقل. وتنتج الشركة 1.6 مليون طن متري من الكلس سنوياً بنسبة 3.3 في المئة من إجمالي إنتاج مصر. وقد وصل حجم الإنتاج السنوي لمصر من الاسمنت فى 2013 إلى 50 مليون طن، بينما لا يتجاوز إجمالي الاستهلاك 35 مليون طن. وتستحوذ مصانع الإسمنت الأجنبية على 80 في المئة من الإنتاج. وقد تمت إدانة الشركات فى عام 2008 بسبب اتفاقها معا على رفع الأسعار في السوق المحلية.
خصخصت هذه الشركات لمصلحة شركات عالمية حتى وصلت لحد الهيمنة الكاملة على هذا القطاع في عهد مبارك. وهناك إشكالية كبيرة حول طبيعة إسهام هذه الشركات في تطوير الاقتصاد المصري ودعمه. فتجربة تيتان تشير إلي أن حجم العمالة التي يقوم المصنع بتشغيلها لا تذكر، كما أن دورة الانتاج تنتهي إلى الخارج. إلا أن المسؤولين يصرون على أهمية دور هذه الصناعة المركزي في الاقتصاد المصري. أكد المهندس مدحت اسطفانوس رئيس شعبة الاسمنت بغرفة مواد البناء باتحاد الصناعات ونائب الرئيس التنفيذى لمجموعة "تيتان" للاسمنت لـ "عالم المال" أن صناعة الأسمنت من الصناعات الوطنية التي تساهم بنحو 375 مليار جنيه من الناتج القومي سنوياً، وما يمثل نحو 30 في المئة من الناتج القومي الإجمالي البالغ تريليون وربع مليار جنيه تقريبا. وتقترب قيمة حصيلة خزانة الدولة من المصروفات السيادية المفروضة على صناعة الأسمنت وحدها من 10 مليار جنيه سنويا. وتصل أرباح تيتان إلى 20 في المئة من متوسط الأرباح في السوق المصرية. وتشير الإحصائيات أن معدل أرباح شركات الإسمنت في مصر من الأعلى في العالم، وهو ما يجعل السوق المصرية أرضاً خصبة لهذه الشركات العالمية، بسبب انهيار المعايير البيئية ورخص العمالة وعدم حماية حقوق العمال ودعم الطاقة الذي توفره الدولة.
الأهالي يقاومون
يبلغ عدد سكان وادي القمر حوالي 65 ألف نسمة، يعاني أغلبهم طبقاً لوزارة الصحة من أمراض صدرية مزمنة وتحجر رئوي نتيجة استنشاق مادة "البايباس" الناجمة عن صناعة الإسمنت.
في عام 2006، ومع قدوم ملاك الموت وتدمير صحة أطفال الوادي، بدأ الأهالي ينظمون أنفسهم للنضال ضد المصنع. وقد أدى ذلك إلى تشكيل لجنة عامة كانت تمثل السكان – أو تسعى إلى تمثيلهم – وتقوم بتعبئتهم. ولدت لجنة وادي القمر ككيان يدافع عن حق الناس في حياة آمنة وصحية، وقد تشكلت من مجموعة من الشباب إلى جانب بعض المحامين. تبنى نضالهم خطابا واضحا بشأن حقوق الإنسان والحقوق الاجتماعية، مع الربط بين الحقوق. كما سعى هذا الخطاب إلى كشف علاقات القوة في هذه المنطقة التي تمنع الأهالي من تحقيق مطالبهم. وبدأت مجموعات أخرى من خارج وادي القمر أيضاً بالاهتمام بهذه القضية. ففي 2006 أيضاً بادر أحمد عبد الكريم، وهو مؤلف مسرحي وأحد الكوادر الاسكندرانية المهتمة بالعمل العام والمجتمع المدني، ومعه نشطاء من المجتمع المدني، بخلق مجموعة تسمى "برس أكشن زون"، كانت تسعى الى خلق إعلام بديل وتشبيك القضايا المختلفة. وقامت المجموعة مع اللجنة بالتواصل مع "مركز دعم التنمية" بالقاهرة، الذي أسهم بدور كبير في إعداد الكوادر وتقديم الخدمات القانونية والتدريبات المختلفة، من أجل بناء المهارات والتنظيم. كما قام بالربط بين المجموعات المحلية الناشطة في مجتمعاتها لتبادل الخبرات والقضايا.
انعكس هذا العمل في ارتفاع الوعي بالقضية على المستويات المحلية والوطنية والدولية. وقام الشباب من أعضاء اللجنة بالاتصال بحركات اجتماعية في العالم ومنظمات غير حكومية تناضل من أجل قضايا مماثلة في الولايات المتحدة والبرازيل وأوروبا.. كما اشتركت مجموعات سياسية أخرى (على استحياء) في دعم القضية والترويج لها. وفي عام 2006 أيضاً، زارت المناضلة التي ما زالت معتقلة، ماهينور المصري، وهي حقوقية كذلك، وادي القمر مرات عدة للاطلاع على أحوال الأهالي.
أوروبا تصدر التلوث
استنتج كل هؤلاء الناشطون أن قيم سياسات السوق لا تبالي بقيم الإنسانية، وأن معونات التنمية عبارة عن ممارسة للسلطة بامتياز، ففرنسا التي احتفلت بإغلاق آخر مصنع للاسمنت في أوروبا، نقلت في الواقع نشاط مصانعها إلى أماكن أخرى من العالم، تحت مسمى مساعدتها تنموياً، لأنها فقيرة ولا تحميها سلطاتها، فصار آلاف الناس في وادي القمر يعانون من نفايات هذه المصانع. وتدافع السلطات المصرية عن تشجيع الاستثمارات الأجنبية، ومنها هذا المصنع، بحجة تقليص البطالة والفقر. وبالمقابل، فالناس بحاجة ملحة للحصول على أي فرص عمل.. ومن خلال تقاطع هذه المفاصل، تنجح علاقات القوة والسلطة في خداع الناس ليس فحسب لقبول "المساعدة" المزعومة، بل للمطالبة بها. وعند اكتشاف الخديعة، يستيقظ الناس المحبطون ليجدوا أنفسهم منخورين بالأمراض وَبِكمٍّ كبير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية.
يظل المصنع على هيئة المنقذ، بل في صورة المصدر الأساسي للرزق لمن يعملون فيه. ثم يبدأ المجتمع ينقسم على نفسه، فهناك من يناضلون ضد المصنع، وآخرون يودون الانضمام إلى هذه المعركة، ولكنهم يخشون فقدان مصدر رزقهم. وكالعادة، يظهر على السطح الانتهازيون الذين يسعون إلى الاستفادة القصوى من الأزمات. هناك أربعة جهات رسمية تلعب دورا بارزا في ديمومة هذا الوضع المزري بوادي القمر: المحافظة والمجالس المحلية، وزارة الداخلية، المصنع، ووزارة البيئة. المحافظة تستفيد مباشرة من وجود المصنع ولها حصة من المحاجر، هذا بدون التطرق إلى الفساد. والأجهزة الأمنية ساهمت بطريقة أساسية في استمرار وضع بيئي وحضري متدهور. ووزارة الداخلية تساعد المصنع في القضاء على أي حركة اجتماعية معادية لوجوده في الإسكندرية. فقد قامت قوات الأمن المركزي بمنع عدد من التظاهرات الاحتجاجية في المنطقة التي نادت بنقل المصنع. أما وزارة البيئة فتتهاون ولا تتخذ اي مواقف جادة.