إن كان من وجه إيجابي واحد فقط من تداعيات مأساة انتشار فيروس كوفيد-19 والإغلاق العام الذي رافقه، فلعلّه إتاحة عدد كبير من الأفلام السينمائية على الانترنت لعموم الناس، بشكل مجاني أو شبه مجاني في كل أنحاء العالم. وفي فلسطين، حيث تقييد حرية الحركة والانتقال أمرٌ سابق لـ"كورونا" بكثير، ومتعلّق بظرف الاحتلال والعدوان والمحاصرة قبل الظرف الصحّي الطارئ، قرر القيّمون على مؤسسة الفيلم الفلسطيني* إنشاء منصة الأفلام الفلسطينية. فمع الإمعان المقصود في عزل فلسطينيي المناطق المختلفة عن بعضهم البعض وعن العالم، ومع حجر الجائحة التي يبدو أنها ستبقى – للأسف – بيننا لوقتٍ ليس بقصير، رغبت المؤسسة بخلق حلقة وصلٍ مع الجمهور تعوّض غياب نشاطات العروض السينمائية والمهرجانات المعتادة، فكانت هذه الفرصة الاستثنائية لنبش أفلام مهمة تتناول فلسطين وحكاياتها من منظورات شديدة التنوع.
جمعت المنصّة عدداً كبيراً من الأفلام الفلسطينية والعربية والعالمية التي تتناول فلسطين، من رِوائية ووثائقية، قصيرة وطويلة، وأفلام مستقلة، تجريبية، أو أفلام تحريك. يُعرَض فيلم واحد في الأسبوع بشكل مجاني لعموم الناس، وبدون اشتراكات، ليتمّ تبديل الفيلم كل يوم أربعاء بفيلم آخر يُتاح لأسبوع، وهكذا دواليك. علاوة على ذلك، فقد باتت المنصّة** تشكّل "قاعدة بيانات" تلمّ تحت اسمها أفلاماً منها الجديد والقديم والنادر الذي لم يُعرض على الانترنت من قبل. تدعو المنصّة كذلك صنّاع الأفلام عن فلسطين لمشاركة أفلامهم وعرضها على الجمهور عبر موقعهم لو رغبوا بذلك (1). على الموقع، وكذلك على صفحة فيسبوك الخاصة به، يُعرض الفيلم الأسبوعي، وأحياناً تضاف مقابلة مع صاحب العمل المعروض عبر خاصية اتصال الفيديو على الانترنت.
عرضت هذه الأفلام مجاناً، وكانت فرصة نادرة للاطلاع على ما قُدّم في السينما في فلسطين وعنها. وقد جاوزت المشاهدات بحسب منسقي المنصة 13 ألف مشاهدة للفيلم الأوّل، ونحو 25 إلى 50 ألف مشاهدة لأفلامٍ لاحقة بعدما تمّ الترويج للمنصة. بعض الأفلام الوثائقية شوهدت أكثر من 50 ألف مرة، وهو أمرٌ يدلّ على تنامي الاهتمام بمتابعة هذه الأفلام التي يكتشفها معظمنا للمرّة الأولى، ومنها ما يمكن عدّه وثيقة تاريخية هامة، مثل فيلم "شجرة الزيتون" المنتَج عام 1976، بإخراجه المشترك بين 6 مخرجين، والذي يعرض للنضال في مرحلة ما بعد عملية ميونيخ ويحمل دعوة للتضامن بين الحركات النضالية العالمية.
الحداثة المعكوسة في الصّورة الفلسطينيّة
28-05-2014
ومن الأفلام التي عُرضت مؤخراً، فيلم "متسللون" لخالد جرار: تسجيلي، تجتاز الكاميرا مع الفلسطينيين في مختلف المناطق كل أنواع الحواجز والعوائق ونقاط العبور وحيطان الفصل، في تجربة وثائقية حسيّة انغماسية. وعدا عن الوثائقيات، ثمة مجموعة من الأفلام الدرامية لمخرجين فلسطينيين، مثل "حكاية الجواهر الثلاث" لميشيل خليفي (عُرض على المنصّة بنسخته المرممة للمرة الأولى)، "عمر" لهاني أبو أسعد، "عيد ميلاد ليلى" لرشيد مشهرواي، "3000 ليلة" لمي المصري، وفيلم الخيال العلمي "في المختبر" للفنانة لاريسا صنصور الذي تدور أحداثه حول مفاعل نووي مهجور في بيت لحم، كما وفّرت المنصة فيلم "يافا، زمن البرتقال" لإيال سيفان الذي يتناول رمزية برتقال يافا كإرث مرئي ذو دلالات سياسية وتاريخية بالنسبة لفلسطين، تقابله "ماركة" تحمل اسمه لمنتج حمضيات إسرائيلي اكتسب شهرة عالمية.
يتبدّى مدى التنوّع واتساع الموضوعات والأساليب البصرية في الأفلام المعروضة والتي تُكسب المبادرة أهميتها، خصوصاً في الظرف الراهن حيث لا يًتاح حضور عروضٍ في المساحات غير الافتراضية، بل أيضاً مع السعي الإسرائيلي الحثيث لضمّ الضفّة والإمعان في طمس الصوت الفلسطيني على المنصات العالمية.
____________
من دفاتر السفير العربي
كاميرات نساء فلسطين وشاشاتهن
____________
وبحسب ما صرّحت مي عودة، منسقة منصة الفيلم الفلسطيني، يهدف المشروع لدعم الجهد المحلي العالمي المتعلّق بفلسطين وإتاحة مشاهدة محتوى ذي صلة بالقضية "للمشاهدين الفلسطينيين ولكل الشعوب الصديقة". أمّا بخصوص تعقيدات الحصول على حقوق النشر والتواصل مع الموزّعين وسواها من الإشكاليّات، ومع الحاجة لإنجاز المشروع بأسرع ما يمكن لمواكبة فترة التباعد الاجتماعي، فقد كانَ أن اعتمد منسّقو المنصّة توجيه رسالة لأغلب صنّاع الأفلام الفلسطينيين، وقد استجاب عدد كبير جداً منهم للدعوة ووافقوا على عرض أفلامهم على الموقع. تحدّثت عودة في مقابلة مع إذاعة مونت كارلو عن مشكلة عامّة في توزيع الأفلام العربية والفلسطينية، واعتبرت أنّ تجربة العرض الافتراضي ونسبة المشاهَدات المشجِّعة إنما تدلّ على وجود جمهور حقيقي مهتمّ بمثل هذه الأفلام، "وهو ما يجب أن يُستثمَر فيه في مرحلة ما بعد الجائحة". إلى الآن، يبدو أنّ العروض مستمرّة على المنصّة مع أفلام جديدة لغاية آخر شهر آب/ أغسطس 2020، وربما أكثر. الأكيد أنّ المشروع يتيح أفقاً جديداً لإمكانيات العرض والمشاهدة والتوزيع على الانترنت في فلسطين والعالم العربي في المرحلة القادمة، أسوةً بالمنحى الذي تأخذه السينما في عالم ما-بعد الجائحة. فلعلّ ذلك يكون محفّزاً لحركة ترميم وأرشفة وعرض جديدة لأفلام عربية لم يكن من السهل الوصول إليها سابقاً.
***
هذا الأسبوع (من 22 إلى 29 تمّوز/ يوليو 2020):
تعرض المنصّة حالياً فيلم "عائد إلى حيفا" (1982) الذي يعتبره كثر "أول فيلم روائي فلسطيني"، وإن لم يكن مخرجُه فلسطينياً (من إخراج قاسم حَول العراقي الذي عمل طويلاً مع مؤسسة السينما الفلسطينية). الفيلم أُنتِج بالكامل بأموال فلسطينية جُمعت بجهود من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهو مقتبس عن رواية الكاتب الفلسطيني الكبير غسّان كنفاني. ويُعرض هذا الفيلم بالتعاون مع معرض كتاب جمعية الثقافة العربية.
رابط للمشاهدة: https://www.palestinefilminstitute.org/en/pfp
*مؤسسة الفيلم الفلسطيني هي مؤسسة وطنية تُعنى بدعم وحفظ وترويج السينما الفلسطينية. تعمل المؤسسة على تقديم الاستشارات وتطوير الأفلام، وزيادة فرص الوصول لمصادر التمويل وإتاحة مساحة للتواصل ما بين المواهب السينمائية والخبراء في هذا المجال. مؤسسة الفيلم الفلسطيني متجذرة في تقاليد السينما الملتزمة وتاريخ الممارسات السينمائية المستقلة كأداة للتغيير الاجتماعي.
**منصة الفيلم الفلسطيني مبادرة من مؤسسة الفيلم الفلسطيني بالإشتراك مع مجموعة من صناع الأفلام من فلسطين والمؤسّسات الثقافية الفلسطينية، هدفها نشر السينما الفلسطينية في فترة العزلة المتعلّقة بجائحة كورونا، وما بعدها.
1-للتواصل مع المنصّة: info@palestinefilminstitute.org