أين قضاة مصر؟ هكذا يتساءل البعض. والإجابة ببساطة أن قضاة مصر في موقعهم الصحيح. لكن هذا لا يدفع إطلاقاً على الفرح والابتهاج. فموقعهم الصحيح هذا هو صلب المشكلة. منذ اليوم الأول لها، تقيم الثورة المصرية علاقة شديدة التعقيد والتركيب مع السلطة والمنظومة القضائية في مصر. ففي محطات كثيرة من عهد مبارك ، بدا القضاء كأنه أحد أدوات نصرة الحق بمواجهة الطغيان السياسي. فمثلاً، هناك العديد من الأحكام الصادرة عن القضاء الإداري جاءت مناصرة لحقوق الناس كحال قضية طوسون بالإسكندرية حين رفضت المحكمة الإزاحة القسرية للسكان من منازلهم عبر قوات الأمن ومحافظة الإسكندرية. وفي مجال آخر، كانت المنظومة القضائية هى من أقرّ الحد الأدنى للأجور وكثير من القضايا الأخرى. وبالتالي، كان البعض يرى في اللجوء للقضاء المصري ملاذاً آمناً، وينظر إليه على أساس امتلاكه لقدر من الاستقلال عن النظام السياسي.
دخول عصفور الى جيب حاوي
بعد الثورة، جمح الجناح الإصلاحي في مصر، المتمثل آنذاك في بعض القوى المدنية المؤطرة، مثل «الوفد»، وبعض النخب، وقطاع من الإسلاميين ممثلاً بالإخوان المسلمين، للنضال عبر القانون وطغى هوس بالقضاء والتشريع، لا سيما أن جزءاً من مطالب الثورة كان سيادة القانون وتحقيق دولة القانون. وتشير الأكاديمية والمحللة لما أبو عودة إلى أن حجم التشريعات والإعلانات الدستورية كان مهولاً ومن الصعب متابعته. وهنا تظهر إشكالية الصلة بين الثورة والقانون، وكيف يرتد القانون على الثورة كفعل من أفعال الثورة المضادة. ننسى دوماً أن السلطة والمنظومة القضائية هي أجزاء أصيلة من الدولة واستقرار النظام السياسي، بل يمكن القول إن القانون والمنظومة القضائية هما أحد أهم أجهزة الدولة الأيديولوجية، يعبران عن تقديس قيمة الدولة والنظام ويحملان في طياتهما التحيزات المعرفية والاقتصادية والاجتماعية لها. وهنا بيت القصيد. فدخول الثورة في جعبة القانون والقضاء هو بمثابة دخول عصفور إلى جيب الحاوي. فالقانون هو انعكاس لفعل الدولة. وما لم تؤسس الثورة نصها ودولتها، أو على الأقل تنجز استكمال هدم البنية القديمة، فهذا يعني السماح للثورة المضادة بالارتداد في ثوب القانون. ننسى دوماً أنه لا يوجد نظام سياسي ودولة، سواء من الطراز القمعي أم الديموقراطي، إلا من خلال مجموعة من التشريعات والقوانين، بل إن حالة الاستثناء والطوارئ نفسها هي حالة قانونية تتيح للدولة والسيد تعليق القانون باسم القانون لاستعادة هيبة الدولة ودورها، ومن ثَمَ الاستقرار وما يُزعم أنه السلام الاجتماعي.
تسخير القضاء وأسئلة أخرى
ويثار على الساحة المصرية الآن جدل حول ثلاثة أسئلة رئيسية عن القضاء وبالأخص بعد أحكام الإعدام الأخيرة، غير المسبوقة على مستوى عالمي. هل يتم تسخير القضاء في المعارك السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر الآن؟ هل يرفض القضاء أن يكون مستقلاً؟ هل هناك تعمد في تأويل النصوص القانونية ضد مصالح الثورة ومطالبها؟
حول تسخير القضاء، الإجابة صادمة: لا!
القضاء يفعل ما يفعل عن قناعة واستقلال، لا عن تسخير مباشر. فلدى بعض النشطاء السياسيين تصورات كرتونية عن إدارة السلطة التنفيذية للقضاء، وإبلاغه بالأحكام مسبقاً. بينما المدقق القريب من دوائر القضاء يعرف يقيناً أن الأمور لا تسير بهذا الشكل. بل إن القضاء يحكم بشكل مستقل ومتسق مع موقعه ذاتياً. تلك هى المأساة التي لا نريد تقبل حقيقتها. فأقصى ما ينطبق في هذا الأمر هو واقع ما يتم فتحه وما يتم تهميشه من ملفات وقضايا.
النائب العام الذي يرتبط برئيس الجمهورية لديه هذه السلطة. وهو الأمر الذي رأيناه على مر الحقب، منذ عبد الناصر إلى السادات ومبارك ومرسي. ومن بعد هذه المرحلة، تعاود المنظومة للعمل طبقاً للنص. فالبنية القضائية والقانونية هي بطبيعة الأشياء وحقائق الأمور ضد فكرتي الثورة والتمرد، فكلاهما أفعال «خارجة عن القانون» ومهددة للدولة في صلب وجودها، حيث أن الثورة هي رفع للقانون وخروج عليه. ويرجع هذا الأمر في المقام الأول الى التحيزات المعرفية التي يتأسس عليها الحقوقي منذ الجامعة ثم النيابة العامة إلى أن يصبح قاضيا. فعقلية هذا الأخير لا تتصور العالم خارج التشريعات والدولة الحديثة أو بنية النظام العالمي.
وفعل التمرد هو خطر داهم لا يقبل التهاون به، أو حتى تأويل النص القانوني بشكل أكثر تسامحاً أو أقل قسوة معه، بينما انتهاك الدولة متمثلاً في أجهزتها التنفيذية، وإن كانت باطشة ومستبدة، فهو خرق أو سوء استخدام لحقها في الحفاظ على النظام والدولة. ولهذا، يبحث القاضي عن بعض الثغرات للتخفيف عن أحد تجار المخدرات أو تبرئة أحد ضباط الشرطة من قتلة الثوار، ويذهب بالمقابل للتضييق على النشطاء السياسيين بسبب خرق قانون التظاهر! وهو ما حدث مع لؤي قهوجي وعمر حاذق وإسلام حسنين في قضية «وقفة خالد سعيد» بالإسكندرية حيث حكم عليهم بالسجن ثلاث سنوات لخرق قانون التظاهر. ومن هنا أيضاً يمكن أن نفهم طبيعة التوتر بين أفعال الثورة وتصورات القضاء والقانون. فالأولى، بأشكالها الراديكالية الميدانية، هي أفعال اقتحام واشتباك مع منظومة السلطة و«خرق لجسدها» في محاولة لهدمها، وبالتالي فهي تتصادم مع المؤسسات كجدران ومبان وأشخاص، بينما القضاء جزء من تلك المنظومة، ويستبسل في الدفاع عنها. ولقد أعرب أحد القضاة مؤخراً عن رؤيته للأمر في تعليق شخصي بعد النطق بالحكم في أحدى قضايا قتل الثوار: يرى هؤلاء الضباط أبطالاً، وأنه لو كان بيده لكرمهم بدلا من تعريضهم للمحاكمة في المقام الأول. ولا ينبغي أن ننسى التصريحات النارية عبر السنوات الأربع السابقة لكل من بطلي القضاء المصري تهاني الجبالي وأحمد الزند. وقد تجلت بوضوح شديد طبيعة التحيز الاجتماعي للقضاء حينما تم الحديث عن تعيين أبناء القضاة في سلك النيابة، بحجة أنه لا يمكن السماح للرعاع وأبناء الطبقات الدنيا بالتحكم بمصير القضاء الشامخ. والحقيقة إن تعيين أبناء المستشارين في سلك القضاء هو أحد أهم أدوات منظومة السلطة لإعادة إنتاج نفسها من حيث التحيزات الطبقية والمعرفية.
ننسى أو نتناسى أن الثورة المصرية، مثلما هددت المنظومة الأمنية وكسرتها أحيانا على المستوى المادي والمعنوي، فهي أيضاً كدرت صفو المنظومة القضائية وأبنائها على المستوى المعنوي، وضغطت عليهم بشكل كبير، تسبب لهم بالشعور بعدم الاستقلالية، بل وأحيانا بالقهر المعنوي، حيث أن القضاة اضطروا، طبقاً لبعضهم، للتحقيق في قضايا ومع أشخاص ورموز لإرضاء وتسكين الغضب الجماهيري، بينما يرون هم هؤلاء الرموز كشخصيات وطنية عريقة. وقامت الثورة بشكل مستمر بالتجمهر أمام النيابات والمحاكم للضغط الجماهيري وتسييس القضايا المختلفة، وهو ما يعتبره القضاة ضغطاً غير مقبول على سير العملية القانونية ومساً باستقلاله. كما اننا نغفل أن الثورة وضعت على الساحة بشكل ملح السؤال الاجتماعي والتحيزات الطبقية، وقامت بمساءلة ومهاجمة أجهزة الدولة السيادية كافة، ولم ينج القضاء الشامخ من النقد. والحقيقة إن فكرة النقد في حد ذاتها هي فكرة مرفوضة من الأصل داخل تلك المنظومة، حيث كهنة المعبد لا يسمحون بنقدهم من خارج قنوات المعبد. فهم حراس النص والسلطة عليه.
إن الدولة تكاتفت بشكل واسع مع بعضها البعض خوفاً من الدهماء والغوغاء. فالقضاة تمت حمايتهم من قبل الجيش واستضافتهم في مقرات الجيش والمخابرات أثناء التحقيقات الخطرة. وبالتالي فأصل الحماية عند القضاة نابعة من أجهزة الدولة لا من الشعب.
يلعب القضاء إذًا بشكل مستقل ويحكم بما يراه. فالقضاء لم يكن على وفاق مع حكم الإخوان منذ اليوم الأول، واشتد الصراع إلى حد تسيّس القضاة بل وتحولهم لحركة اجتماعية في أواخر حكم مرسي. ودخلوا كفاعل سياسي واجتماعي واضح في صراع داخلي على السلطة والاستقلال طبقاً لهم. ولم يتورع الإخوان عن فتح هجوم ناري مع أول خلاف مع القضاة. وهو ما زاد من تماسك المؤسسة الداخلي وشراستها الخارجية. ولم تكن هذه المعركة الشرسة من أجل تحقيق العدل أو المطالبة بتصحيح وإصلاح المنظومة القضائية، وإنما كانت ضد محاولة الإزاحة والاستبدال التي أراد الإخوان القيام بها، ووراثة المنظومة القضائية وضمها لصفهم.
وكذلك فمعركة القضاة ضد مبارك في 2008 (ونسبياً في 2005) جاءت كرد على الانتهاكات الصارخة والإهانة غير المسبوقة لهم (احتقار مبارك لنادي القضاة حيث آخر لقاء له به تم في 1986، تغول السلطة التنفيذية، والحكم بقانون الطوارئ، وعدم تنفيذ العديد من الأحكام القضائية، رفض أحكام القضاء بما يخص انتخابات 2006 التشريعية، ضرب القضاة أحيانا من قبل الشرطة، إنشاء «مجلس الهيئات القضائية الاعلى» كهيئة سياسية...). وتمت تسوية الأمر بالتعهد بحفظ هيبتهم بشكل عام وزيادة مرتبهم 400 جنيه، ثم مد عمر المعاش.
وفي اللحظة الراهنة يرى القضاء الإخوان ومن في صفهم من الإسلاميين كتهديد للأمن القومي وتهديد لبقاء واستمرار الدولة، ويذهب لأقصى ما تسمح به التشريعات والقوانين. والتشريعات تسمح بما يحكم به. ويبدو أيضاً أن هناك تعجلا عاما في الأحكام بسبب زخم الأحداث وسرعة تداولها والحجم الهائل من المتهمين، حيث تتدارك بعض أحكام القضاء بعضها الآخر، مثل ما حدث مع قضية «بنات سبعة الصبح»، حيث صدر الحكم في الجولة الأولى بالحبس 11 عاماً، ثم تدارك الاستئناف الأمر وحكم بالبراءة لعدم التماسك القانوني للقضية.
عن أي استقلال نتحدث؟
الطرف السياسي الثوري لا يريد في الواقع استقلال القضاء، بل يريده أن يتحيز بشكل واضح لتحقيق العدل والمساوة وأهداف الثورة. بينما الدولة وهي الأكثر اتساقا مع نفسها، وتريده أن ينحاز لموقعه داخل بنية السلطة والدولة. والاستقلال بالنسبة للقضاة هو عدم التدخل السافر في أحكامهم، عدم المساس بهيبتهم وإهانتهم، والحفاظ على مكاسبهم الاجتماعية والاقتصادية، والحفاظ على الدولة من التمرد والثورة. هاجس المنظومة القضائية هو الإطار القانوني المهيكل. لا يهم إن كان استبدادياً، أو فاشياً أو حتى استعمارياً.
المهم أن يستطيع القاضي الحكم بالنص... القضاء المصري الشامخ العريق هو من أعدم أحرار دنشاوي في عهد الاستعمار (1906)، وهو من حاكم عرابي ورفاقه بتهمة التمرد، وهو من حاصر وحكم على محمد فريد (السياسي والحقوقي المطالب بالجلاء ومؤسس النقابات)، وهو من يحاكم الآن ماهينور وعلاء عبد الفتاح ومحمد حسني وعمر حاذق ومئات الأحرار. إن سؤال الاستقلال تجب إعادة صياغته وعدم اختزاله في مجموعة من الإجراءات والقوانين، بل هو سؤال حول من يضع النص وكيف تتم إدارته وتفعيله. حتى انه يمكن نصح الثورة بأن تكف عن طلب استقلال القضاء، وإلا رأينا المزيد من أحكام الإعدام!