الشاشات تمتلئ بأحاديث عن السيد الجديد وهيبة الدولة التي بعثت من الرماد لتهزم شبح الثورة اليافع بخنجر الحكمة وسيف السيادة وأوهام الاستقرار والأمن والأمان. قنابل تنفجر في قلب العاصمة وأخرى في المحافظات الكبرى كالإسماعيلية والدقهلية، الأمن يغلق شوارع رئيسية في أكثر مناطق العاصمة حيوية وازدحاماً. وزارة الداخلية تضع أسواراً فوق الأسوار وجدراناً فوق الجدران، حتى صارت حركة قواتها في محيطها شبه معدومة. «أنصار بيت المقدس» تُسقط مروحية عسكرية، والجيش المصري يقصف بشكل شبه دائم شبه جزيرة سيناء المصرية. دولة تنتصر في معركة مع الوهم لتعلن استفتاء من طراز الستينيات بـ 98 في المئة، ولو أن العصر غير العصر لبَحثت أجهزتها وفتشت عن هؤلاء الـ2 في المئة الذين يعكرون صفو الإجماع والوحدة. هكذا هو المشهد المصري منذ شهور عديدة، وربما لسنوات مقبلة. لحظات من النصر والأمل، وشهور ممتدة من العجز والإحباط. دولة مهزومة وثورة متراجعة وسيد يداعب المخيلة الشعبية.
من يقرأ السطور السابقة سيصاب بقدر من الإعياء، بسبب بؤس الأحداث أو كثرتها أو جللها، فما البال بمن يعيش هذا الواقع بشكل يومي؟ وهذا تحديداً ما يمكِّن خطاب الدولة من التمفصل مع الواقع، ولكن الدولة نفسها لا تتمكن من النجاح. والنجاح المنشود هنا هو العودة لحالة الاستقرار والأمن والهيمنة على مقاليد الأمور بأشكال مختلفة من القمع والسلطة. «السيد» هو من يستطيع فرض حالة الاستثناء، ولكن «السيد» هو من يستطيع إعادة فرض النظام والاستقرار. المشكلة الحقيقية في تلك العملية أنها غير قادرة على الفكاك من جوهر مطالب «ثورة 25 يناير»، وهي في الوقت نفسه مدينة للفلول ومحاصرة بهم، وهم الذين كانوا جزءاً لا يتجزأ من «موجة 30 يونيو». ثم هي محاصرة بقوى إقليمية رجعية وضد جوهر 25 يناير وتدين لها، بسبب دعمها واسع النطاق للدولة والمؤسسة العسكرية على مدار الشهور السابقة. بل إن الدولة تدين بالفضل في البقاء على قيد الحياة لتلك القوى الإقليمية، وتحديداً السعودية والإمارات العربية المتحدة، وهو ما يعني أنها، إذا ما استمرت على هذا المسار، تكون منقوصة السيادة والهيبة في صلب وجودها. ولكن هذا ليس جديداً، فمنذ عهد مبارك وقبله السادات، والدولة منقوصة السيادة وقائمة على المعونات الخارجية. والمشكلة الجديدة هي الاستحقاقات الاجتماعية من ناحية، والاستحقاقات الإقليمية من ناحية أخرى. فأتباع نظام مبارك وأعمدته يحلمون بالعودة واسترجاع نفوذهم السياسي والاجتماعي، ومن ثم القبض بإحكام على النفوذ الاقتصادي. وفي المقابل، فقطاعات واسعة من الشعب لديها مطالب اجتماعية حقيقية تتمثل في الكرامة والحق في العمل والتشغيل وقدر كبير من العدالة الاجتماعية.
لحظة الاستدعاء... المتبادل
منذ اليوم الأول من الثورة، و«الدولة» تحاول العودة وتضميد جراحها بعد كل حدث أو فعل ثوري نال من شرعية وجودها. والمثير في الأمر أنها تحاول العودة طبقاً لعدة تعريفات كلاسيكية للدولة. فهى تحاول استرجاع احتكارها لممارسة العنف ونزع الشرعية عن أي بديل أمني آخر، وشيطنة أي نوع من أنواع العنف الثوري ضد مؤسساتها. ولم تكن الدولة في حالة تجانس في هذا الأمر. فالجيش منذ 28 يناير 2011 وحتى يومنا هذا قرر حمل هذا العبء بالكامل. بالمقابل، قررت «الداخلية»، المؤسسة الأولى المنوط بها هذا الدور، الانسحاب من المشهد بالكلية. واستمرت في الغياب حتى وقت متأخر لمعاقبة الجموع على سحقهم لها في الثورة. ولم تنجح الثورة في الانتصار في هذا الجزء وتكوين بديل أمني جديد، أو تحقيق تغير راديكالي في المؤسسة القديمة، وهو ما خلّف فراغاً كبيراً في العملية الأمنية في عموم الجمهورية، وما سمح لخطاب «الداخلية» حول الأمن والاستقرار بالنجاح داخل قطاعات عديدة، بالأخص مع استمرار حالة الفوضى وغياب تأمين الطرق والحياة اليومية واشتداد بعض أعمال البلطجة. وتلك قلصت الضغط الثوري والاصلاحي على جهاز الشرطة. ومع «30 يونيو»، كانت عودة جديدة للداخلية، عندما رفعت بعض الجموع شعار «الجيش والداخلية والشعب أيد واحدة». ووجد هذا الشعار أرضية أكثر خصوبة عندما اشتدت هجمات الإسلاميين والاشتباكات الأهلية، وفي مرحلة لاحقة حين دخلت مصر حالة من الإرهاب المسلح من خلال عمليات «أنصار بيت المقدس» من تفجيرات لمؤسسات الدولة السيادية مثل مبنى المخابرات في الإسماعيلية ومديرية أمن القاهرة والدقهلية، ومن اغتيال بعض ضباط الشرطة، وقتل العديد من الجنود في سيناء. وهو أمر يبدو في ظاهره شبيه بحالة الثمانينيات والتسعينيات التي شهدت مصر فيهما حرب مفتوحة على الارهاب بقيادة أمن الدولة سابقاً.
ولكن الفرق الجوهري الذي ينتقص من سيادة الدولة هذه الأيام، ويختلف جذرياً عن الحقب الماضية، هو أن الدولة استدعت المواطنين في تلك الحرب. ويمكن القول إن الاستدعاء كان متبادلا. فالجموع استدعت تدخل الجيش ضد الإخوان وباركت حمله للواء الحرب ضدهم وضد بعض الأطراف الإسلامية. وكان ذلك بغرض إنقاذ الجيش لنفسه من الدخول في أتون حرب أهلية واسعة النطاق تنتهي بالنسبة له بتفككه، وتنتهي بالنسبة للجموع بعدد مروع من القتلى. وهكذا دخلت الدولة بجيشها كسيد يقطع في 30 يونيو استكمال الحركة الثورية، بمباركة شعبية، خوفاً من الدخول في حالة اللادولة وحرب الكل ضد الكل. وهو ما عبر عنه صراحة السيسي حينما قال في إحدى خطبه: «الجيش يقتل، أحسن ما الناس تقتل بعض». ثم ظهر المشير في أقصى لحظات الدولة قوة وإلهية وهو يستدعي المواطنين لتفويضه الحرب على الإرهاب. وبالفعل عادت الدولة مرة أخرى لتُظهر جانبها الميتافزيقي المخلّص للتاريخ والإنسان. وذهب الناس طواعية لمحراب الدولة مقدمين لها قربان التفويض، ومعه الأمل في بعث وخلق سيد جديد من رماد الحرب والثورة. وهنا، احتفظت الدولة لنفسها بأحد أهم التعريفات، وهي كونها المخلِّص من حرب الكل ضد الكل، وإله الاستقرار، بل والسيد في اتخاذ القرار. وظهر السيسي في محاولة شرسة للاستحواذ على عناصر ودوائر الوحدة السياسية: الدولة والحركة والشعب. إلا أن الأمر كان يحمل في ذاته عوامل تفككه وتناقضه، المتمثل في الاستدعاء. فـ«السيد» يقرر مباشرة، ويسيطر من دون إبلاغ، ويقاتل من دون تفويض، وينجح وينتصر من دون استدعاء.
الجموع كشريك فعلي في الأمن
الأسوأ من ذلك هو أن «الجموع» تلك هي من قام بحماية جهاز الداخلية وقوات الأمن في مواقع عديدة. وهنا، فنحن لا نتحدث عن بعض التظاهرات التي تمجد الدولة أو تخلق مساحة لزعيم أو تندد بالديموقراطية، بل عن شريك فعلي في عملية الأمن يسمى «الجموع»، وهو حاضر بشكل جسدي وقتالي لا بشكل رمزي وداعم. ومع اشتداد الحرب، بدا أن الدولة أضعف من الجموع، حيث انتَهكت التفجيرات، وعدم قدرتها على السيطرة، حيزا كبيرا من هيبتها وسيادتها. ففي التسعينيات، الشرطة حاربت والشرطة انتصرت. أما الجموع فكانت تشاهد الحرب مسجَّلة على شاشات التلفاز المصري، بينما يمتعض الأهالي من أحداث العنف واضطراب الاقتصاد وانهيار السياحة. أما الآن، ففي أحيان كثيرة يشاهِد رجال الأمن الجموع تقاتل وتنتصر، والأسوأ أن يختبئ رجال الأمن وراء الجموع. ولهذا لم يكن صدفة أن يُقر أكثر من قائد في الجيش المصري أن من قام بحماية الاستفتاء هم أفراد الشعب الذين نزلوا إلى مكاتب اللجان. ورجال الأمن كانوا في حالة توتر شديد إلى أن امتلأت تلك المكاتب بالنساء فبدأوا بعد ذلك بالاطمئنان.
في الظاهر، يبدو أن السيسي (والجيش المصري) استطاع إحكام قبضته على المجتمع المصري، وأنه حظي بنصر مظفر. إلا أن العمل الميداني يظهر حقيقة أخرى. فقطاع واسع من الشعب هو من يحاول دفع الجيش إلى هذا النصر بينما يحتفظ لنفسه بإمكانية الإطاحة بالجيش والسيسي في حالة عدم تحقيقهما لمطالب الأمن والاستقرار، وعدم إشراك الجماهير في كعكة الثروة. وخلافاً لما تظهره وسائل الإعلام المصرية الخاصة والرسمية، ففي استطلاعين للرأي قام بهما كل من «المصري» و«مركز ابن خلدون»، يوافق اقل من 54 في المئة من المصريين على ترشح السيسي. وهى نسبة تقول ببساطة إن الموقف حرِج وأن المزاج الشعبي يمكن أن ينقلب بسهولة. ولكن هذا لا يعني أن خطاب السيسي وحضوره الرمزي والجسدي ليس فعالا أو شديد التأثير، بل يعني بالاحرى أنه مرتهن لعدة عوامل واحتمالات، وهي أولاً وأخيراً النجاح في تحقيق مطالب اقتصادية واجتماعية، وليس فقط الاكتفاء باللعب على أوراق الخوف والخطر والخَطابية.
يجب ألا يؤخذ بالانتكاسة الظاهرة للحالة الثورية وشبابها وقوتها. فالمشهد يبدو خالياً منهم الآن لأسباب عدة: 1 ـــ عدم وجود أرضية خصبة لحضور الخطاب الثوري وتمكنه من الارتباط مع الواقع، وذلك بسبب اشتداد العنف بين الدولة والإسلاميين وحالة عدم الاستقرار، 2 ـــ ماضوية الخطاب الثوري وعدم تطلعه للمستقبل وحديثه الدائم عن «حقوق» السنوات الثلاث الماضية، حتى أصبح حديث الثورة حديثاً عن الماضي لا عن المستقبل، عن المرارة لا عن التطلع للإنجاز والحكم، عن القصاص والشهداء لا عن الحاضر وضروراته. ومع هذا فالثورة قادرة على تجديد خطابها، وهي قادرة على العودة بحكم أمرين: الأول «جيلي» يتطلع لشكل جديد من السلطة وممارستها، ولدوره في خلق المستقبل ومستحقاته، والثاني يتعلق بأزمة الدولة المستمرة والمتعسرة. وهو ما يعني إمكانية تمفصل الخطاب الثوري مع آمال الناس وأوجاعهم... ما يجعل الثورة خطراً دائماً على الحكم القريب في مصر، بالأخص الحكم عسكري الطابع، وأمني المضمون، والرجعي وذا النزعة المحافظة على المستويين الاجتماعي والاقتصادي.