على بعد 20 كيلومتراً من مدينة الإسكندرية، تقع بلدة صغيرة على الساحل الشرقي تدعى «المعدية»، شديدة الجمال، يحفها النخيل من جوانبها كافة والبحر المتوسط من شمالها وبحيرة أدكو في جنوبها. وعلى شاطئها تقبع طابيتان (الطابية هي استحكامات عسكرية دفاعية وهجومية)، ترجعان إلى زمن مقاومة الإنكليز (1882) بقيادة عرابي. كانت الأولى من ناحية الشرق تسمّى «الطابية البيضاء» والأخرى من ناحية الغرب «الطابية الحمراء». قاومت تلك الطابيتان الإنكليز مقاومة باسلة، وكانت الناحية الغربية أضعف نسبياً كما أن نيران الأسطول الإنكليزي أعنف عليها. وبالفعل فآثار الدمار على الطابية الحمراء أشد... انهارت المقاومة في كل الأحوال وهزمت الثورة لأسباب عدة، كما هُمِّشت في التاريخ وجانب كبير من الوجدان الشعبي فسمّيت بـ«الهوجة»، واحتلّ الإنكليز برّ مصر وبحرها.
أزيحت الطابية الحمراء لمصلحة شركة بتروجيت، ولم يبق منها أثر. في المقابل ظلت الطابية البيضاء محتفظة بكثير من ملامحها وأثر التاريخ والمعركة عليها. وكانت تحت سيطرة حرس الحدود، إلا أن أحداً لم يهتم بها غير الأطفال من الفضوليين والماعز، حيث كنا نعبث في الأطلال. ظلت جدران الطابية صامدة تدافع عن جسارة المقاومة وخسارتها أمام الإمبراطورية بكل جبروتها وطغيانها، كما شهدت على بسالة النضال وخسة الخيانة.
خواء المكان
ولعل أهمّ ما يسترعي الوقوف عليه هنا هو علاقة هذا البلد بكل من الرأسمالية والدولة، وعلاقتهم جميعاً بالتاريخ والذاكرة والرمز. فأسوار ما تبقى من تلك الطابية البيضاء وتلك البلدة الصغيرة ليست فقط شهوداً على الهزيمة، بل على محو ذكرى المقاومة ومحاولة دائمة لتصوير مصر بأنها هذا الشعب القابع على ضفاف النيل، الخاضع والمستكين دائماً للسلطة المركزية، وكأن تاريخنا الاجتماعي والسياسي خالٍ من التمرد. وأما الاحتفاء بذكرى المقاومة ـ إن استهوى ذلك السلطة في بعض الفترات - فليس أكثر من ذكرى تمرّ عابرة في «حدث في مثل هذا اليوم». كما تشهد بلدة المعدية على الفشل الفادح في عمليات التحديث: البنية التحتية وتعبيد الطرق وإعادة تخطيط المدينة وما بها من خدمات وتنوّع لأنماط الإنتاج والعلاقات... وهي لم تبق على حالها وصار جانب كبير منها أقرب للمسخ. وظل أغلب سكانها يعتمدون على الصيد أو توسّل العمل في شركة بتروجيت. والشركة ببساطة تستبيح الموارد وتلوث مياه البحر. أما الدولة ممثلة بالجيش كحارس للحدود عند تلك الطابية، فلا هي اعتنت بالمكان ولا حوّلته إلى مركز عسكري ذي شأن، ولا هو تُرك لتخليد الذكرى كأن يتحول إلى متحف مثلاً ولا هو ترك وشأنه. أصبح لا شيء غير نقطة من نقاط السيطرة. والسؤال هنا هو كيف يمكن إعادة تخيل واقع هذه المدينة وما تحمله من إمكانيات، وكيف يمكن إعادة الاعتبار للتاريخ والسكان، بل وأيضاً إعادة تخيل أنماط جديدة من الحكم والسيطرة؟
ببساطة كان يمكن لهاتين الطابيتين أن يعاد ترميمهما، وأن يتحوّلا إلي متحف لتعلم التاريخ وتخليده بما حمله من مقاومة وهزيمة معاً. وكان يمكن لهذا الشاطئ البديع الخلاب أن يكون أحد أهم شواطئ المتوسط لما يحمله من مقومات تاريخية وسياحية. وفي شرق البلدة كان يمكن أن تقام صناعة للأسماك وميناء حقيقي وليس مرسى صغيراً للصيادين. كما كان ينبغي أن يتم الحفاظ على بيئة هذا المكان نظيفة وصحية. هذا كله ليس من باب الأماني والحسرة، ولكن لطرح سؤال فشل السلطة على المستويات الأمنية والسياسية والاجتماعية. فهوس السيطرة والذريعة الدائمة التي تسمّى «الأمن القومي» وكل ما يولده هذا الهوس وما ينتج عنه من ممارسات، هو في حقيقة الأمر أحد أهم عوائق تحقيق الأمن والتنمية. فلسنوات طويلة منع حرس الحدود السير على الشاطئ بعد غياب الشمس، وفي أوقات كثيرة، كان الأمر أقرب لحظر تجوّل مشدّد، اما علاقة بقية المدينة داخلياً بمؤسسات الدولة فتتمثل في غزوات دائمة من الداخلية على المقاهي التي تحيط بمحطة القطار. فقد اشتهرت المعدية لعقود طويلة كمعبر رئيسي لتجارة الحشيش. ومحطة القطار تجسيد لتعاسة الدولة وأبنيتها التحتية، فالوسيلة الأولى للانتقال بين الإسكندرية والبلدة غرباً، وبين البلدة ومدينة أدكو وبعدها رشيد شرقاً، هي الميكروباص الخاص، بينما من المفترض الا يستغرق الأمر بالقطار أكثر من 20 دقيقة لتكون في قلب الإسكندرية بسيدي جابر، وهو ما يعني انتقالاً آمناً وأسرع وأقل تلوثاً للبيئة. ثمة فقر شديد في الخيال السياسي حينما نتحدث عن السلطة والمدينة. فشل متكرر في البنية العقلية والمجتمعية والسياسية وإعادة تخيل الواقع. وهو ما يصعب تصور خروجه من رأسمالية استباحية ومن دولة قائمة على المنع، وفقيرة التصورات حتى في ما يتعلق بتحقيق هوسها الأمني. فالسلطة لا تفكر إلا في ترميز سطوتها على المساحة والجسد. وهكذا تتحول طابية شاهدة على التاريخ والمقاومة إلى بؤرة سيطرة وتسلط ومنع ولا ينتج عنها أي تقدم فعلي. وكلما تأملت تلك الطابية تذكرت أبيات محمود درويش: «فنحن القادرين على التذكٌر قادرون على التحرر».
من معارك عرابي إلى محمد محمود
ثمة خط متواصل ضارب في التاريخ ينْظم بين تلك الجدران والمعارك ويعيد للأمس اعتباره وللحاضر قيمته ويأتي بذاكرة للملحمة. فبين الأمس واليوم تقبع المعركة على أسوار ذلك المكان. تنحدر أصول كاتب هذه السطور من المعدية، وقد ولدتُ ونشأتُ بالإسكندرية حيث خضتُ أولى معاركي مع منظومة السلطة وكنت شاهداً على هزيمة جحافل الأمن المركزي على شواطئ تلك المدينة الساحلية الخلابة. وفي القاهرة، وكان جدي لوالدي يسكن بجوار وزارة الداخلية، وكان شارع محمد محمود يفضي بنا لميدان التحرير. وكان «هاشم الرجّال» ومن معه من اسلافي، قائد المقاومة في خط رشيد مع عرابي، وهزم مثلما هزمت مقاومة الساحل كله، فالعتاد والأفراد والأسوار دكتها مدافع الإنكليز. وفي الإسكندرية جاء القصف من البحر والخيانة من الخلف، حيث أشاعت الشرطة آنذاك الفوضى وطعنت العرابيين من الخلف لمصلحة الاستعمار والخديوي توفيق الذي شجع إميرال الأسطول الانكليزي على قصف المدينة ثم احتلالها. وهكذا سقط الساحل بعد مقاومة ضروس. وكانت أسوار الطوابي تحمي المدينة من الغزو وتحاول الثورة آنذاك أن تحمي مصر من الغدر. وبين هذا الزمن وزمننا هذا، قاتلتُ مع أبناء جيلي لنحمي الحلم القابع في ميدان التحرير من الضباع السوداء خشية أن تغزوه مدرعات وبيادات ساحقة. وبين حماية المدينة وحماية الحلم تقع قصة أخرى لأسوار جديدة وأبطال جدد. فبعد معارك حامية الوطيس بين شباب لا يحمل معه غير الحلم وألعاب نارية تضيء المكان بألوان البهجة في ساعات القتال الطويلة، وقليل من زجاجات المولوتوف والحجارة، كتفاً بكتف وجسداً لجسد، صار خط الدفاع عن الميدان في شارع محمد محمود. صار ساحة للقتال وهزيمة للموت وقلباً لمنطق السلطة على رأسها. فهنا انهارت السلطة كسيد على الحياة، كما انهارت كقوة حيوية حيث أعادت المعركة تعريف الحياة وما ينتج حولها من معنى. كانت المعركة تدور بشكل جلي حول نمط السلطة، وأعلن خط المواجهة آنذاك أن هذا النمط لم يعد مقبولاً، وأنه لم يعد من الممكن أن يحكمونا، فلن يتم الأمر من خلالهم وليس بهذه الطريقة، وليس عبر تلك المؤسسة، وليس من خلال هذا الخطاب، وليس عبر تلك الممارسات.
كانت هذه الساحة دفاعاً عن الحلم في الخلف وتفكيكاً للسلطة على خطوط المواجهة في الأمام. وتمثلت بعمليات الكر والفر بين السلطة والثوار حول المدينة، فالأولى تحاول اقتحام ميدان التحرير وتحطيمه كأيقونة ورمز للتحرر وسحق ما به من حلم، ومن ثم الخروج من جدران المؤسسة والعودة للمدينة، والثانية تحاصر السلطة بين جدرانها. وجسّدت المعركة ساحة لهزيمة السلطة داخل النفوس. ومن هنا جاء كل ما نتج من غرافيتي وصور لحركة الثوار في المعركة وكأنهم يرقصون، مثل تلك الصورة الشهيرة التي تقارن أحد الثوار وهو يعيد قصف قنابل الغاز على قوات الأمن براقص الباليه. وهكذا ايضاً جاء الربط بين التواجد في تلك المعركة وبين الشعور بالحياة. فكثير ممن حضروا المعركة أو شاركوا فيها بالقتال وقاموا بمقابلات وتحليل لها على مدار السنتين السابقتين تكرر على مسامعهم أن هذه المعركة كانت تحقيقاً للحياة وللوجود الذاتي والجماعي ولم تكن لحظة للخوف من الموت. وأصبح الموت والحياة ليسا ثنائية متناحرة بل مستويات مختلفة من الوجود والتحقق.
وقامت هذه المعركة بتحطيم رمزيات المكان. فمحمد محمود هو رئيس الوزراء الذي شكّل وزارته الأولى وتقلد فيها منصب وزير الداخلية ليمارس سياسة اليد الحديدية (1928- 1929)، وكذلك في الوزارات الثلاث التي شكلها بعد ذلك وحتى 1939. والحقيقة إن شوارع محيط وزراة الداخلية وما بها من تماثيل ورموز ليست اعتباطية. فنحن أمام دولة لها ذاكرة وتعرف تحديداً وجيداً بماذا تحتفي وماذا تهمش. فشارع محمد محمود يمتد بالتوازي مع شارع الشيخ ريحان، ومن الشرق إلى ساحة قصر عابدين، ومن الجنوب يقع تمثال لاظوغلي يدافع عن وزارة الداخلية من الخلف، ويحاصر وزارة العدل من الأمام. ولاظوغلي هو بلطجي محمد علي الذي قام بتأسيس اللبِنات الأولى لوزارة الداخلية واشتهر بالعنف والقسوة والقتل بيده، كما محمد محمود هو تجسيد للبطش الأمني في عهد ما عرف بالحقبة الليبرالية في مصر. هذه هي الرمزيات التي تحيط بالداخلية. وعلى كلٍ، فبعد معارك امتدت لثلاثة أيام متواصلة ليلاً نهاراً، شيدت القوات المسلحة أول جدار عازل وهو الأهم في مسار الثورة المصرية. وأسست تلك الواقعة لنمط من تعامل السلطة مع الثورة، فتمت إحاطة منطقة وسط البلد بالجدران العازلة. ويمكن تأويل تلك الأسوار في سياق المعركة كهزيمة عسكرية لقوات الأمن حيث عجزت عن الصمود أمام الموجة الثورية في محمد محمود، إلا أن الأمر من الناحية السياسية قد يعتبر هزيمة للثوار، حيث أن شيئاً جوهرياً على مستوى السياسة العليا لم يتغير، كما اعتبر أغلبهم أنه قد تمّت خيانتهم من كل من النخب السياسية وجماعة الإخوان المسلمين. ولعل أبرز ـ وطبقاً للبعض أسوأ ـ ما ميّز معركة محمد محمود هو غياب أي مطلب سياسي في الميدان، فلم يكن خارج المعركة شيء سوى المعركة في ذاتها ولذاتها. إلا أن الدولة ومنظومة السلطة كأداة احتكار للرمز على المساحتين الجغرافية والوجدانية قد مُنيت بهزيمة عنيفة، حيث أن هذا القلب ـ منطقة وسط البلد ـ وهو مركز المركزية في العاصمة، فقد سيطرته على ما تجسّده الشوارع والأسماء من رموز ودلالات.
داخل وخارج الجدران
وتعكس الجدران المحيطة بميدان التحرير ومنطقة وسط البلد واقع الثورة وعلاقتها بالسلطة. فالثورة نجحت في عزل السلطة عن المدينة بشكل مباشر وجعلتها محاصرة داخل جدرانها وضيّقت عليها الخناق. لكن السلطة هي الأخرى نجحت في تأمين نفسها وعزلها عن نيران الثورة والتغير الجذري داخل بنيتها. ونجح خطاب الثورة المضادة في شيطنة كل تحرك نحو جدران السلطة ووصفه بأنه خطر على الدولة ويسعى للفوضى والعنف. وينتظر الأمن بدوره لحظات الاقتراب هذه للضرب بعنف وقسوة، حيث لم يعد قادراً على مواجهة الثورة عسكرياً في المدينة، ولم يعد يمكنه القتال إلا وظهره لمؤسسته أو مؤسسات الدولة، متذرعاً بحمايتها من الهدم. إلا أن الثورة نجحت في قلب المنطق الرمزي للجدران وحوّلتها من جدران السلطة لجدران الثورة، حيث أصبحت الأسوار ساحة لامتداد الحلم والفن الثوري عليها، وأصبح ما بها من غرافيتي مساحات لسيطرة الثورة على المجاز ورمزية المكان. والثورات الكبرى عملية ممتدة على مدار سنوات، كما أن حالة السيولة وعدم قدرة السلطة على تأسيس وضع مهيمن لها خارج إطار العنف والقتل المباشر لا يمكن أن يعتبر انتصاراً واستقراراً لها.
على كل، فالأسوار ما زالت مشيّدة، والثورة ما زالت مشتتة، والسلطة ما زالت عاجزة، والحلم ما زال منتصباً برغم ما يحيط به من يأس. ويبقى سؤال لتلك المساحة من الجغرافيا والمفتوحة على حركة التاريخ: عن خسارة مَن ستدافع الأسوار؟