قرّرت الحكومة اللبنانية في أيار/ مايو الماضي اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، على الرغم من التحذيرات والاعتراضات. وهذه المرّة ليس فقط من باب المشورة كما فعلت سابقاً، بل للاتفاق على برنامج مع الصندوق تحصل بموجبه على قرض منه.
يأتي قرار السلطة بعد إعلانها التخلّف عن دفع ديونها، الأمر الذي أخرجها من الأسواق المالية، وبالتالي حرمها إمكانية الحصول على أي تمويل من غير صندوق النقد، وذلك من دون أن تعرف حتى الرقم الحقيقي لموجودات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية لتبني قراراتها على أساسه، واستباقه بالسياسات الملائمة. وهي لا تزال حتى اليوم عاجزة عن إلزام حاكم المصرف المركزي، الذي يُفترض أنه موظّف خاضع لها، تسليمها هذا الرقم، الذي يصرّ هو على أنه يتجاوز 20 مليار دولار من دون تقديم أي جردة لحساباته. الرقم مشكوك به ولاسيّما أن الواقع يشي بعكس ذلك، بدءاً من تخلّف المصارف عن دفع ودائع الناس بالعملات الأجنبية التي وظّفتها لدى المصرف المركزي طمعاً بالفوائد العالية التي حصلت عليها، وعند استحقاقها لم تكن قادرة على الوصول إليها، وما تبع ذلك من تدهور في سعر صرف العملة المحلّية نتيجة شحّ الدولارات في السوق المحلية، ومن ثم الارتفاع الجنوني في أسعار السلع الاستهلاكية.
الصيغة التي يعتمدها صندوق النقد الدولي
عملياً، قرار اللجوء إلى صندوق النقد هو مكابرة من السلطة على الاعتراف بإفلاسها السياسي، وانهيار نموذجها الاقتصادي الذي يتهدد أساسيات العيش كما العقد الاجتماعي القائم، فضلاً عن الإمعان في قهر المجتمع، ورهن مستقبل الأجيال المقبلة عبر تحميلهم العبء الأكبر للخسائر في مقابل المحافظة على مصالح النخبة السياسية.
وما يفاقم جزع المواطنين والمواطنات اليوم، ويزيد من ريبتهم، هو لهاث السلطة السياسية وراء صندوق النقد على الرغم من إدراكها المسبق بـ"وصفته" التقشفية التي تلازم أي برنامج اقتراضي منه، والتي تنذر بتعميق الركود الاقتصادي، إذ تقوم على تحرير سعر الصرف (وقد لامس سعر صرف الدولار 10000 ليرة لبنانية خلال الأيام الماضية) فتضرب القدرة الشرائية للناس، وبالتالي تخفف الاستيراد ومن ثمّ خروج العملات الأجنبية، وذلك لتعديل الحسابات الخارجية وخفض العجز ولو كان ذلك على حساب معيشة الناس (وهو ما نشهده فعلاً في الوقت الحالي.. وما زال في بداياته). علاوة على ذلك، تؤدي الصيغة التي يعتمدها صندوق النقد إلى زيادة الإيرادات من جهة، وخفض النفقات من جهة أخرى لتقليص عجز الموازنة العامة، وصولاً إلى تحقيق فائض في الموازنة. وهو فائض يستخدم لاستئناف سدّ الديون، وذلك عبر استهداف كل أشكال الدعم الاجتماعي والاقتصادي في الموازنة، ولا سيّما في ما يتعلق بتعرفة الكهرباء، بالإضافة إلى وقف التوظيف في القطاع العام (الذي يوظف 46 في المئة من القوى العاملة اللبنانية).
سبعة اسئلة ملحة للبنان المنكوب
21-02-2020
باختصار، التقشّف هو مجموعة من السياسات التي تسعى إلى خفض العجز في الموازنات الحكومية، بمعزل عن تبعات هذا الخفض الاقتصادية والاجتماعية، نظراً لعدم وجود أي خطة اقتصادية تحفّز النمو وتؤسس له. التخلّي عن نفقات عامة يقتضي بالأصل فائضاً منها، واستفادة من وجودها أو وجودها بالحد الأدنى. فهل هذه هي الحال في لبنان الذي لم يستثمر إلّا 6 في المئة من مجمل نفقاته على مدار العقدين الأخيرين على البنية التحتية والخدمات الأساسية، فيما بدّد أكثر من ثلث نفقاته على فوائد الدين العام؟
التخلّي عن نفقات عامة كما تقتضي صيغة صندوق النقد الدولي يفترض بالأصل فائضاً منها، واستفادة من وجودها أو حتى وبالأصل وجودها بالحد الأدنى. بينما لبنان لم يستثمر إلّا 6 في المئة من مجمل نفقاته على مدار العقدين الأخيرين على البنية التحتية والخدمات الأساسية، فيما بدّد أكثر من ثلث نفقاته على فوائد الدين العام.
أين يقف لبنان من تدرجات التقشّف، وما هي جهوزيته الاجتماعية واستعداده لخطوة مماثلة في ظل الزيادة المهولة في معدّلات البطالة والفقر والغلاء المستعر، ويضاف إليهم الآثار الناجمة عن الفيروس الذي أنهك بلدان العالم بأسرها، وزاد من حدّة الأزمة؟
في أدبيات التقشف
التقشف في عبارات مارك بليث في كتابه "التقشف: تاريخ فكرة خطرة"، منطقي حدسياً، لا بل إنه فكرة جذابة، إذ لا يمكن للمرء أن ينفق من أجل الوصول إلى الازدهار، ولاسيما إن كان رازحاً تحت الديون. لكن هل يحصر المرء تفكيره في شأن الدَّين نفسه دون التفكير بمن سيدفع ثمن تقليصه؟
بعبارات بليث، التقشف هو فكرة سيئة من شأنها أن تفاقم الصعاب، إذ حتى لو تمكّنت في حالات معدودة من إعادة ترتيب الأوضاع المالية العامة للحكومات، إلّا أن ثمنها الاجتماعي كان باهظاً.
اندثار لبنان
02-07-2020
في لبنان، وبغية دفع الدين الذي سيترتب على الاقتراض ضمن مهلة معينة، سيشتد الخناق على المنتمين للطبقتين الفقيرة والمتوسطة، اللتين دفعتا ثمن الخسائر الناجمة عن تركيبة الهيكل المالي خلال الأعوام الثلاثين الماضية، سواء بتزايد بالهجرة أو مراكمة الديون الخاصة أو تراجع قدراتها الشرائية تدريجياً وصولاً إلى حرمانها من مختلف الخدمات الأساسية العامة والقضاء على أي مقوّمات اقتصادية فعلية منتجة.
في الواقع، سيؤدي التقشف إلى "استخدام أموال دافعي الضرائب "لحماية من هم أكبر من أن يُسمح لهم بالسقوط"، وهو ما سيعمّق المأزقين الطبقي والأخلاقي المستفحلين في لبنان، بين قلة قليلة تملك كل شيء ونجت من كل شيء، والغالبية الساحقة التي فقدت كل شيء وستستمر بفقدان كل شيء. والحديث عن "كل شيء" هنا ليس رومانسياً ولا من باب الرثاء، بل هو واقع مستند إلى الأرقام التي تعكس الخسائر على صعيد الوظائف، والمشاريع، والرساميل، وقيمة الأجور، القدرة الشرائية، المدخرات، الودائع، الطبقة الشابة المنتجة والثقة داخلاً وخارجاً.
في لبنان، وبغية دفع الدين الذي سيترتب على الاقتراض من صندوق النقد ضمن مهلة معينة، سيشدد الخناق على المنتمين للطبقتين الفقيرة والمتوسطة، اللتين دفعتا ثمن الخسائر الناجمة عن تركيبة الهيكل المالي خلال الأعوام الثلاثين الماضية.
في الحالات السوية، يكون الحل بمعاقبة المذنب، وهو في الحالة اللبنانية القطاع المالي والسلطة السياسية، التي أوصلت البلد إلى هذا الدرك من الإفلاس، بدلاً من الاقتصاص من الشعب، وحتى من الأجيال المقبلة قبل أن تولد، وتحميلهم الثمن. عكس هذا المسار لا يتطلّب سوى عكساً في موازين القوى، يتطلّب شعباً في مواجهة السلطة ورأس المال.
يوم رفض مهاتير محمد اللجوء إلى الصندوق
من هنا، لا بدّ من الحديث عن تجربة ماليزيا على الرغم من اختلاف النظام السياسي، والطبيعة الاجتماعية بين البلدين. ففي تسعينيات القرن الماضي، أدار البلد الآسيوي تحت قيادة مهاتير محمد ظهره للصندوق، وقرّر المضي في طريق مختلف خلال أزمته المالية الكبرى، التي تعدّ الأسوأ في تاريخ البلاد، وهي ترافقت مع أزمة النمور الآسيوية، أي كلّ من تايلاندا وإندونيسيا وفيتنام وكوريا الجنوبية.
____________
من دفاتر السفير العربي
صندوق النقد الدّولي
____________
حينها، وبعد أن استمع مهاتير محمد لنصائح المسؤولين في صندوق النقد الدولي، وجد أنها لا تلائم بلاده، وقرّر أن العلاج لا يكون بضمادة مؤقتة بل برؤية جذرية تستأصل المرض بدلاً من وقف النزيف. وعلى الرغم من أن صندوق النقد رصد يومها نحو مئة مليار دولار للدول الآسيوية للخروج من أزمتها، إلا أن ماليزيا لم تقترض سنتاً واحداً. بدلاً عن ذلك، قرّرت إعادة ترتيب قطاعاتها، وتخلّت عن تمسّكها بحصرية القطاع الزراعي الخجول آنذاك، واعتمدت على الإنتاجية الصناعية والصناعات التحويلية، ولجأت أيضاً إلى خصخصة قطاعات (في حال كان ذلك أقل تكلفة، أكثر فائدة وأسرع إنجازاً) لدعم صناعات داخلية، وتعزيز التصدير وحماية الطبقات الأكثر عرضة للمخاطر اجتماعياً ومالياً. خرجت ماليزيا من أزمتها أسرع من كل جيرانها الذين لجأوا إلى الصندوق، حتى أنها ساعدتهم في تسديد القروض، متصدّرة المشهد الاقتصادي الآسيوي. حاولت تجنيب المجتمع تبعات حل الأزمة مع الأخذ بالاعتبار ضرورة إنقاذ الاقتصاد والنهوض به. وهو للأسف ما لا يُتوقع حصوله في لبنان لأن السلطة السياسية التي أمسكت بزمام الأمور منذ ثلاثين عاماً حتى اليوم، أكثر استبداداً من التنحي بعد فشل، وأبعد ما تكون عن تبنّي حل رؤيوي لا ينتهك الأمن الاقتصادي والاجتماعي لأبناء الطبقتين المتوسطة والفقيرة في ظلال هيكل دولة أكلت أبناءها، وأتخمت حكامها وبدّدت كل فرصها لسنوات.
جنّبت ماليزيا المجتمع تبعات حل الأزمة، مع الأخذ بالاعتبار ضرورة إنقاذ الاقتصاد والنهوض به. وهو ما لا يُتوقع حصوله في لبنان، لأن السلطة السياسية القائمة منذ ثلاثين عاماً وحتى اليوم، أكثر استبداداً من التنحي بعد فشل، وأبعد ما تكون عن تبنّي حل رؤيوي لا ينتهك الأمن الاقتصادي والاجتماعي لأبناء الطبقتين المتوسطة والفقيرة.
لعقود خلت، ركب لبنان قطار الريع السريع متباهياً بفقاعة الخدمات المتميزة والنظام المصرفي الموثوق، مهملاً قطاعاته الزراعية والصناعية، وممعناً في أساليب هدر خلّاقة وغير مسبوقة. إن السياسات التي استفاد منها قلة وسكت عنها الجميع، تضع البلد اليوم أمام مفترق طرق: فإما الإمعان في اغتيال اقتصادي بات يطال الجميع، أو إيجاد حلّ مستدام ينطلق أولاً من نظام حكم منتج، ويعتمد على هيكلة واعية للقطاعات، ويتجه نحو الإنتاجية بالتوازي مع الحماية الاجتماعية. اللجوء إلى صندوق النقد، حالياً، ما هو إلا تمديد باهظ الثمن للسلطة واقتصادها السياسي، الذي استنفذ كل الموارد، ونال من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. والخروج من هذه الحفرة العميقة لن يكون سهلاً هذه المرّة لو هو أتى على حساب المجتمع، بل سيستغرق عقوداً إضافية ستزيد من عمق وعقم الأزمة.