يمكن رصد ثلاث فئات كان، وما زال لديها طموح واسع للبحث عن "السيد" واستعادة هيبة الدولة، أو خلق دولة جديدة ليحل فيها وعلى رأسها هذا السيد. فالفلول والإخوان وبعض القوميين هم في محاولة حثيثة لخلق سيد. والمقصود بالسيد هنا هو هذا الشخص القادر على فرض الاستثناء، القادر على صنع قطيعة وعمل حدث متجاوز للتاريخ، القادر على الحسم فيما يتعلق بالموت والحياة. وعلى الرغم من أن ثورة 25 يناير 2011 هى محاولة لقتل الأب والسيد معاً ــ متمثلاً في مبارك والداخلية تحديداً، ثم هيمنة العسكر في مرحلة لاحقة ــ إلا أن حالة الفوضى والذعر الأمني ساعدتا على انضمام قطاعات جماهيرية لهذا الحلم. فهناك احتياج لفرض إرادة على الحدث التاريخي نفسه، وفرض سيادة عامة على الجميع. فالفلول، على الرغم من أن مصالحهم الاقتصادية لم تُضرب في العمق، إلا أنه لديهم احتياج حقيقي لوقف الحدث الثوري واستعادة المكانة السياسية والسيادية لهم. وكذلك الداخلية المصرية التي تلقت هزيمة واسعة النطاق، وبالأخص على المستوى النفسي، حيث انكسرت هيمنتها وجبروتها على المجتمع. وبالتالي، فكلاهما يبحثان عن مخلص يوقف التاريخ ويرجع به إلى ما قبل 25 يناير.
غياب السيد وعصر مبارك والداخلية
وبالنسبة "للداخلية"، فقد كانت سلطتها قائمة على إدارة المستوى الأسفل بشكل يومي ومباشر، وبالأخص في السنوات الأخيرة. ولذلك انتشرت حالات القتل خارج القانون، لأن السيد أعلى من القانون، هو ذلك الشخص الذي يفرضه ولا يُفرض عليه. ومن هنا كان حرص هذه الجهة الدائم على استمرار حالة الاستثناء العامة، لأنها بمثابة فرض قانونها على الجميع، وترسيخ شرعنته السياسية والمجتمعية.
فالضابط والمخبر يحل فيهما جسد سلطة المؤسسة بالكامل، حتى يصبح الفرد ليس جزءاً من كل، بل هو تجسيد لهذا الكل، ونوع من حلوله فيه. ولأن تلك البنية/المؤسسة كانت الآمر الناهي في شأن البلاد، وقرارتها الأمنية والسياسية وحتى الاجتماعية، فهي أصيبت بنزعة إلهية، ترى الشرعية لسيت كإطار محدد لحركتها وممارستها وإنما بالعكس. وتكرس ذلك مع انقسام المجتمع المصري، وتحديداً في السنوات العشر الأخيرة، حيث توحش نمط معين من النيوليبرالية القائم على تقسيم المجتمع لفضاءات اجتماعية معزولة من حيث المعمار ونمط الحياة والفضاء المديني.
لقد ساعد ذلك على خلق الكثير من الأسياد التحتيين، أو على المستويات الصغرى، وهو ما يمكن أن يتمثل في كبير عائلة من البلطجية في حي ما، أو صاحب مصنع متسلط، أو مخبر قوي في إحدى المناطق العشوائية. ولكن الحركة ذاتها فككت الفرصة لخلق "السيد" على المستوى العام للبلاد ككل.
وإذا أخذنا بالاعتبار أن تلك النزعة الجديدة في تقسيم المدينة جعلت قطاعات كبيرة من الأفراد منغلقة على عالمها المحلي، الى حد عدم الخروج منه إلا استثناء لاستخراج بعض المستندات الرسمية مثلا، فإن إمكانية خلق سيد عام او كبير صار أمراً معقداً، صعب التحقق. ولكن الأمر الأخطر على هذا الصعيد هو طبيعة حكم مبارك. فقد عمل على تفكيك أي محاولة لإنشاء قضية كبرى أو توجه عام، وهدف يسعى المجتمع لتحقيقه، واحتفظ لنفسه فقط بمحورية دوره السيادي في تجسيد كل من الأمن والاستقرار.
ومع اشتداد الخصخصة، وحدة الانقسام الطبقي في مصر، صار البحث عن الخلاص الفردي هو الغاية والهدف لشرائح كثيرة تسعى جاهدة لعدم السقوط في براثن الفقر المدقع. وإذا ربطنا هذا بطبيعة عامة للنيوليبرالية وهي غياب ما هو "عام" وما هو مشترك، فسنجد أن لهذا الحلم بعودة السيد أرضية خصبة جداً كامنة في التحولات الكبرى التي مرت بها مصر.
الجدار المشقوق والسيد المنشود
واستدعاء القومين، وآخرين أيضاً، لعبد الناصر متخيل أو موهوم، له عدة دلالات لا تنحصر فقط في إفلاس الخيال السياسي. فمنذ الثمانينيات هناك شعور عميق بفقدان الأب والسيد الذي يجسد كلاً من الأمان والعزة المسلوبة. وقد عبر عن هذا الشعور بدقة شديدة الكثير من الأعمال الأدبية، لعل أبرزها ما كتبه أسامة أنور عكاشة. وهو ما يصفه الباحث الانثربولوجي فؤاد الحلبوني بنوستالجيا وسرديات الحنين إلى الأب بعد انفراط عقد العائلة وانحلالها. ويجب ربط فقدان السيد في الداخل بفقدان السيادة في الخارج. فمنذ كامب ديفيد، انحسرت مصر تماماً، سواء على مستوى المنظومة الإقليمية العربية أو على مستوى الدور العالمي. ويرتبط أيضاً حلم عودة "السيد" بتقديم الأمان الاجتماعي والاقتصادي بعد أن انهارت قطاعات واسعة منهما وانكشف فشل الدولة المتلاحق. ولعل أبرز تلك المشاهد الدرامية هو ذلك الحوار من فيلم "دكان شحاته" للمخرج خالد يوسف، حيث يطلب الأب من أبنه أن يحرك صورة "الزعيم" عبد الناصر قليلاً لكي تحجب الشق الذي يقسم جدار البيت من منتصفه.
وبتأمل المشهد، سنجد قدراً كبيراً من قلة الحيلة، حيث أصبح جل الأمل هو التمسك بلمحات من بقايا السيد لمواربة الشرخ العميق. والجدار قد يكون بنية الدولة، البنية النفسية المشروخة للمواطن، أو حتى معمار البلد الذي شاخ وتشقق. ويتم استدعاء هذا السيد غير الموجود بشكل حقيقي في محاولة عبثية لا لإصلاح أو تغيير الجدار، بل لحجب تهلهله ولو قليلا، لأن الجميع يعلم أن السيد مات، ويعلم المشاهد والمخرج والممثل أن الجدار ينهار وأن السيد لن يعود.
"الذكر" والانكسار المجتمعي
وبشكل عام، تنتشر أحلام السيد في لحظات الأنكسار والهزيمة. ولا شك أن مصر في الآونة الأخيرة شهدت نزوعاً نحو شكل من الفاشية، سواء مؤخراً في مواجهة الإخوان أو سابقاً من خلال محاولات الإخوان الفاشلة لتكوين سلطوية إسلامية. وصلب الفاشية هو الإرهاب، كما شرحت حنه أرنت. ولكن هناك جوهر آخر وهو العزة، أو أوهام العزة والإحساس بالقدرة، سواء متمثلة ومجسدة في السيد، أو انحرافها نحو إبراز أهمية الخنوع والتماهي للتابعين لفكرة شيوع السيادة. ويعبر هذا النزوع مؤخراً عن نفسه في السيسي. فهناك هوس تكون حول الرجل، هوس جنسي وهوس بأحلام السيادة والاستقلال لأنه يواجه أميركا. ومن هنا نستطيع فهم تلقيبه "بالدكر" أي الرجل الفحل طبقاً للثقافة المصرية. وهو انعكاس لتطلعات ذكورية وسياسية ومجتمعية تحلم بالانتصاب مرة أخرى أمام ذواتها، أو وما هو أسوأ، التماهي مع شخص نثق بذكوريته وفحولته، أو نخلقها نحن.
استبدال التنظيم بالقيمة
حاول الإخوان بناء "السيد" من خلال مرسي و"سمو" التنظيم حتى على الدولة. وتَصاحب هذا مع خطاب مماثل للفلول والداخلية والجيش حول "هيبة" الدولة، وتمجيدها وتقديسها نابع من حلم وراثتها، لأن هذا السيد الجديد لا بد له من جهاز عملاق يعبر عنه ويدير المجتمع من خلاله. ومن الناحية الاسلامية الأخرى، كانت هناك عدة تنظيمات شبكية تحاول بناء سيد جديد وخلق حالة مفارِقة من رحم الحدث الثوري لبناء سيادة إسلامية عامة. فتلك التنظيمات تقوم على أساس بسيط، هو حلول الفكرة والقيمة في الأنسجة المجتمعية من خلال خلايا رخوة. وهي بذلك تستبدل التنظيم بالقيمة، وتُحدث عملية تسييل لها بحيث يكون انتقالها أسهل، ويكون الانتساب للفكرة من خلال إعلان الولاء لها ومن خلال اعتماد التنسيق. وعوضاً عن البنية الثقيلة، والتنظيم، وتحديد أدوار وتكليفات بشكل هرمي، يكون التكليف هنا بشكل تنسيقي وتشاركي. وهذه النوعية من التنظيمات الإسلامية هى الأخطر، وهي كثيرة ومتعددة. فداخل الطيف الواسع لتيار السلفية الجهادية حركات تولد وتموت، مثل "حركة حازمون" و"الجبهة السلفية" الخ... أما خارج مصر، فكل تنويعات تنظيم القاعدة ليست خاضعة بالضرورة للتنظيم الرئيسي في أفغانستان، بل ربما لا تكون لها أي علاقة تنظيمية به غير الانتماء لمنظومة القيم نفسها، والنهج التنفيذي، والتعضيد المتبادل للتحركات المشتركة. وتلك الحركات في مصر هي الأقرب لطبيعة الثورة المصرية، وقمعها أو محاولة قمعها يؤدي إلى انفجارات وإعادة تشكل لخلاياها بشكل متواصل. ولهذه التشكيلات طبيعة "ثورية" و"راديكالية". فقيمها مستمدة من وضع فيه قهر خارجي، تحاربه وتستبسل في مقاومته. ووعد هذا الخطاب يتمحور دائماً وأبداً حول الكرامة والعزة، وهي أمور إيجابية. ولعل احترام هذه القيم ينزع من أيدي هذا المجموعات فرص توسعها وتمدد التطرف. فهي سرعان ما تتشنج وتجنح لاستخدام عنف واسع حينما تُهدَّد، فتستشعر بأنه "وقت الجهاد".
الانطلاق من المجد لا من الظلم
ويعمل خطاب هذه الخلايا والتشكيلات بطريقة عكسية لمظلومية التنظيمات الكبرى مثل الإخوان. وهي تستدعي لحظة تاريخية تحقق من خلالها إنتاج العزة في نفوس أتباعها أو من تحاول استقطابهم، وبالتالي فهي تنطلق من المجد لا من الظلم. وتنتج خطاباً للمظلومية ولكن في حيز آخر وهو الحيز العالمي، مبرزة أن هناك اضطهاداً للفكرة والقيمة الإسلاميتين على مستوى عالمي لا داخلي ولا محلي فقط. وبذلك فهي تعطي بعداً أكبر وأعظم لقضيتها. ورأس مالها الرمزي قائم على استدعاء صور أشخاص قاموا بالفعل بإرباك المنظومة العالمية. وقد بدأ ينمو اتجاه واضح في مصر يتباهى بصور الزرقاوي وأسامة بن لادن، سواء على الصحف الخاصة في الفايسبوك أو حتى بشكل ميداني في التظاهرات التي يحشد لها هذا التيار. وتثير هذه التشكيلات في نفوس مؤيديها أمراً غاية في الخطورة، وهو إمكانية التحرر والانعتاق. ولقد عبر عن هذا التجريد والقيمة العامة حملة "لازم حازم" التي كانت تدعم المرشح السابق حازم صلاح أبو إسماعيل في سباق الرئاسة. فشعار الحملة "سنحيا كِراماً"، كان الأكثر اتساقاً مع مبادئ وشعارات الثورة، وحاكى وداعب حلماً شعبياً تم دفنه لعقود طويلة وجاءت الثورة لتعبر عنه.ليست الساحة المصرية في الوقت الراهن إلا ساحة حرب بين هذه الأحلام. ويبقى سؤال القدرة والأدوات، لا الطموح والخيال، هو الفيصل في تسيّد أحد هؤلاء المستدعين لسيد على الآخر... أو موتهم جميعاً لصالح الحلم الديموقراطي والتشاركي.