في المرحلة الاولى من الثورة المصرية، حافظت الجموع على كل ما هو عام، من أبنية وشوارع وساحات، حرصت على سلامتها وحتى على نظافتها، لأن الناس شعروا وقتها بأن تلك المساحات "لم تعد ملك الحكومة" على حد التعبير الشعبي. فكل ما هو "عام" في المخيلة الشعبية يعود للدولة. وهي، الدولة، بالتعبير الشعبي أيضاً، "بتعاتهم ويعملوا فيها يللي همَّ عايزينوا". وهناك دوماً إحالة لهؤلاء المجهولين/المعلومين المسيطرين. وقد نجحت منظومة السلطة في مصر، ولعقود طويلة، في قلب ثنائية الخاص والعام، ساعية إلى خصخصة كل المجالات ومصادرتها لصالحها. ومن هنا تأتي فكرة "المنحة"، و"العلاوة"، كصدقة أو زكاة من صاحب المال الخاص إلى الجمهور. ولا يمكن فهم الصراع بين الأمن والجموع على الميادين والمدينة، حيث على أحدهم طرد الآخر، إلا كتجسيد لمعركة التحكم بالمجال العام، التي اتخذت أحياناً من جانب الناس شكل معركة ضد استعمار أو قوة احتلال. وتجلى ذلك أيضاً في معارك "الدولة"، بجلالة قدرها، حول الغرافيتي، ومحاولتها منعه، وفي المقابل، استمات الثوار على رسمه حتى على جدران مؤسسات الدولة الكبرى مثل وزارة الدفاع.
اسقاط الشرعية والهيبة
لقد مارست الجموع هجوماً مضادّا في وجه الدولة وضد جهدها لإخضاع الشعب، من خلال، ليس فقط إسقاط شرعيتها في الحكم، بل والأهم، إسقاط هيبتها. وكما اطلقت الثورة العنان للرغبة في إعادة تشكيل المجال العام، كذلك جمحت لما يسمى "الحوار العقلاني الرشيد"، في محاولة للوصول الى الإجماع التوافقي وتأسيس ما هو مشترك، حيث تتشابك الاختلافات بأشكال سجالية ونقاشية عِوَضاً عن أن تكون صِدامية. وتجسد ذلك في الرغبة الدائمة في إقامة الحفلات في الأماكن العامة والساحات، أو النقاشات والتجمعات الشبابية في كل ما هو عام. وما زالت المقاهي، والساحات العامة، والاحزاب، وأجهزة الإعلام المختلفة تناقش بشكل دائم كيف سيتم تأسيس واقع جديد في مصر، وكيف يمكن خلق منظومة سلطة جديدة غير تسلطية واستبدادية، وما زال يجري تفحص عمليات إنتاج القرار وطبيعة علاقات الإنتاج وأنماطها... والفارق بين مناقشة تلك المواضيع قبل الثورة وبعدها هو أنها لم تعد مقتصرة على النخبة أو تجري في دوائر ضيقة خاصة بالمعارضة، ولكنها صارت عامة. وهى ما زالت تواجَه بشكل أمني وتضيقي من قبل السلطة متمثلة ببناها المختلفة، الدولتية والمجتمعية المعادية للثورة، أو التي تسعى إلى تركيز استقرار سلطتها وتأمين عدم المساس بها.
إلغاء المجال العام
قبل الثورة، لم يكن هناك "مجال عام". على مستويات بسيطة، كان هناك صراع دائم بين الأمن والشباب حول احتلال بعض المساحات للعب كرة القدم. وكان النقاش السياسي محظوراً في المقاهي، ولم تكن النوادي الاجتماعية أماكن مناسبة لمناقشة الشؤون العامة، بل صارت أدوات لترسيخ وضع طبقي في المجتمع، أو لتصعيد كوادر الاتحاد الاشتراكي ثم الحزب الوطني، والترقي البراغماتي، مثلما كان الحال مع مراكز الشباب في المناطق الشعبية. وكانت الصحف أبواقاً للنظام السياسي. وهكذا سيطرت السلطات المتتالية على مساحات المجال العام، وجُرّدَ المجتمع من بُعده السياسي. ولم تكن حالتا الاستثناء والطوارئ عرضيتين، بل مكوناً أصيلاً وممتداً في تشكيل الدولة المصرية الحديثة وممارستها للسلطة. فالدولة الناصرية، التي رفعت شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، كانت ترى أي اختلاف أو تباين إما عمالة للإمبريالية أو لقوى رجعية. وعاشت البلاد في حالة حرب دائمة مع قوى معلومة في الخارج ومجهولة في الداخل. ولذلك سُمح للتحركات الجماهيرية باحتلال الساحات فقط في حال كانت مؤيدة لقرارات عبد الناصر. والمثير أن عهد مبارك استطاع الحفاظ على بنية الدولة السابقة لجهة طابعها الأمني المهيمن على الأفراد والجماعات، ومزَجها في الوقت نفسه بالنيوليبرالية. ثم ألحق بهما البلطجة في أواخر عهده. وثلاثتهم ضد المجال العام بالكلية، فالدولة الأمنية تصادره، والنيوليبرالية تخصخصه، والبلطجة تستبيحه.
المحاولات الأربع لإعادة إغلاق المجال العام
يمكن رصد أربع محاولات رئيسية لإغلاق المجال العام من قبل الإخوان:
ـ تبلورت المحاولة الأولى مع فوز "الإخوان" بالأغلبية في الانتخابات التشريعية الأولى بعد الثورة التي انتهت في 11 كانون الثاني /يناير 2012. عند ذلك، تركّز خطابهم على فكرة "انتهاء الثورة" لتجسدها في إطار شرعي تحت قبة البرلمان، لا في الشارع. وهكذا شهدنا محاولات إصدار قوانين حظر التظاهرات وتجارب عديدة لتجريم الإضرابات العمالية.
ـ أما المحاولة الثانية، فوقعت عندما وصل محمد مرسي إلى رئاسة الجمهورية (أعلن عن فوزه بها في 24 حزيران/يونيو 2012). إثر ذلك، شرعن الإخوان الممارسة السياسية في المجال العام عندما تدعم قرارات الرئيس، فكانت التجمعات الحاشدة مسموحة فقط لتعزز هالته. وقد شاع وقتها مناخ عام إقصائي، من قبيل تصوير رموز المعارضة كخونة، وتقديم الإعلام وكأنه رأس الشيطان، والحديث عن تحيزه ضد الإخوان، والتعاطي مع التظاهرات والحشود وكأنها مصدر تهديد للدولة ولمؤسساتها. وترافقت هذه المحاولات مع الإعلان الدستوري المكمل في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، الذي أريد منه إحكام قبضة الرئيس على السلطات العليا في الدولة، من خلال الاستيلاء على السلطتين التشريعية والتنفيذية (أعلن عنه بوصفه يحمل "قرارات ثورية"، نصت على أن القرارات الرئاسية "نهائية غير قابلة للطعن من اي جهة بما فيها المحكمة الدستورية" ، كما اراد توفير حصانة لمجلس الشورى واللجنة التأسيسية).
ـ المحاولة الثالثة، تجسدت بالدستور الجديد الذي جاء ليعزّز من اجتياح الدولة للعديد من ميادين المجال العام مثل الحدّ من حق التجمّع وتجريم الإضرابات والحؤول دون تشكيل اتحادات ونقابات مستقلة، وإطلاق الأجهزة الأمنية والعسكرية، وإعطاءها اليد العليا على الفضاءات المدنية بموجب ادّعاءات أخلاقية، وأخرى تتصل بالأمن القومي. بل إن العملية التي تم بها إخراج الدستور كانت قاتلة للمجال العام ومعززة لديموقراطية الصناديق. وكل هذا ينقض ما اتفق عليه في اجتماع "فرمونت" (الذي جرى في بهو ذلك الفندق يوم 21 حزيران/يونيو 2012، قبل اعلان نتائج انتخابات مرحلة الإعادة الرئاسية. وهو انعقد بمبادرة من الإخوان، الذين وجهوا الدعوة الى معظم القوى السياسية. وكانت غايته الوصول الى توافق ضد مرشح "الثورة المضادة" رئيس الوزراء السابق الفريق أحمد شفيق). فقد تعهد مرسي في ذلك اللقاء بإعادة تشكيل الجمعية التأسيسية التي تكتب الدستور، وبطرح الدستور للنقاش العام وفتح آفاق الصراع الإيجابي حوله، بعيداً عن عمليات الحشد والتعبئة للتصويت "بنعم ولا"، حتى يخرج كمحصلة لصراع فكري ومجتمعي موسع، من خلال التلقيح والتنقيح. ولكن المشهد انتهى بتسليم المستشار حسام الغرياني الدستور لمرسي الذي دفع به مباشرة الى التصويت، في 24 كانون الاول/ ديسمبر 2012.
ـ وتجلّت المحاولة الرابعة، بعيد ذلك، في السعي إلى فرض قوانين لمواعيد إغلاق المحلات والمقاهي والأماكن العامة. فمثلما حاول المجلس الأعلى للقوات المسلحة إغلاق المجال العام من خلال مهاجمة ما ظنّ أنه يشكّل عموده الفقري، عبر ضرب منظمات المجتمع المدني ومنع التمويل عنها، حاول "الإخوان المسلمون" ضرب المقاهي باعتبارها أمكنة للتجمُّع، في إطار سعيهم للحد من المساحات العامة، وتطويع الأفراد وفرض الانضباط عليهم.
التنميط أو العزل
يتشارك "الإخوان المسلمون" مع بنية الدولة المصرية الحديثة كما تبلورت، في التراتبية التنظيمية شديدة الهرمية. عمل كل منهما على تطويع رعاياهما وتوحيدهم وتسكينهم في مختلف مدارج التنظيم الهرمي. وحاولا تقديس قمة الهرم من خلال إضفاء صيغ مثل السيادة والأبوية واحتكار المعرفة. ولهذا يعمل كل منهما على ترسيخ الثنائية بين الحاكم والمحكوم، وخلق أوليغاركية حاكمة، وتنميط القاعدة العريضة من الهرم، حيث يعتبر الاختلاف والتباين إرباكاً للتراتبية السلطوية. هكذا يأتي خطاب الدولة عن "المواطنين الشرفاء" الذين يعرفون قيمة وهيبة وقدسية الدولة، (كما تمَثَّل في خطابي مبارك والمجلس العسكري)، ويأتي خطاب الإخوان عن الإخواني الملتزم بتعاليم تنظيمه وشعبته، الواثق بقيادته. وكلا الخطابين يحاول إنتاج الفرد الطيع النمطي: الأخ الذي يمثل بقية أخوانه على قلب رجل واحد، للعمل على نصرة تنظيمهم المطبق للشريعة، والمواطن المنمط الذي يمثل مع أقرانه الشعب الموحد الذي يخدم هذا الكائن الأعلى، المسمى مصر. وعلى الأفراد في الإخوان والدولة خدمة "تنظيم"، وهو ليس مكوناً منهم ومن خلالهم، بل مفارِق عنهم ومتجاوِز لهم، وذو قدسية. وعلى الجميع التضحية من أجل مصر أو التنظيم. وغالباً ما يتم التعاطي مع التشققات في الصفوف من خلال محاولات تنميطية أو إقصائية. تهدف الاولى إلى إعادة تطويع الفرد ليتناسب من جديد مع التنظيم، وإلا فعزله عنه باعتباره جرثومة أو ثغرة في الجدار التنظيمي.
الديمقراطية هي الصندوق والباقي تصدّع
وتعمل تلك الأبنية الهرمية أو "الشجرية"، حين تحاول أن تكون ديموقراطية، من خلال ديموقراطية تمثيلية - نيابية تحدّ من المشاركة السياسية والاجتماعية وتختصرها في صيغ محدَّدة، مستبعِدة الفعل المباشر للحشود أو الأفراد في عملية صنع القرار. فتكون المشاركة السياسية دوماً موسمية وعرَضية ومحاصَرة إلى حدّ كبير بمقتضى آليات الانتخاب. وهو الأمر الذي يؤكده الخطاب الإخواني، حيث الديموقراطية لا تتجاوز الصندوق. أما السجال الدائم، والخروج عن حكم الخبرة، وعن الأبنية التمثيلية الخ... فهو تهديد بالتصدع. فمنذ نشأته، يحاول التنظيم محاكاة الدولة ومواجهتها في الوقت نفسه. ولكنه تنظيمياً لا يختلف عنها. ولأنه كان دوماً عرضة لبطشها، فقد استبطن نموذج السلطة فيها وأنماطها. فالتنظيم هو الآخر لم يعرف غير حالة الاستثناء والطوارئ. ولذلك أوغل في ميكنزمات الأمن والسيطرة والتنميط على أفراده، لأنه هو الآخر كان في حالة حرب وتهديد دائمتين. وكان خطابه الداخلي يرسخ قيمة التنظيم في ذاته ولذاته، لأن عدم استقراره يعني انتفاء كل القيم التي تحارب الجماعة من أجلها.
خلاصة
لطالما كان "المجال العام" في تصوّر الدولة المصرية الحديثة والإخوان المسلمين على حد سواء، مرتبط بمعاني التهديد وعدم الاستقرار. لقد حاولت الدولة دائماً منع وجود المجال العام، والحدّ منه وحظره. كما أن هناك تناقضاً بنيوياً بين ديناميات المجال العام وتنظيم "الإخوان"، وهو ذاته التناقض بين تصوّر الإخوان عن الديموقراطية، المحدَّد في إطار ضيق جداً من العملية الانتخابية التمثيلية، والمذعور من الديموقراطية التشاركية المفتوحة والقلقة التي يبلورها الإعلاء من شأن المجال العام. ويراهن "الإخوان المسلمون" على السيطرة على أجهزة الدولة، وقمع مسار الثورة، بغاية اختصار التفاعل الاجتماعي والسياسي الى اقصى حد ممكن.