المجتمع المصري على وشك الانفجار مرة أخرى. فالاعلان الدستوري الجديد من الرئيس تسبب ببلبلة كبيرة. رفضه نادي القضاة لتغوله على القضاء، وترفضه القوى الثورية لما يتضمنه من تحصين لقرارت الرئيس وإمكانية خلق دكتاتور جديد. وحتى القوى الإسلامية، مثل حزب النور السلفي، التي أيدت قرارات الرئيس، رفضت تحصين تلك القرارت بالكلية. وبين هذا وذاك، تبقى مسودة الدستور معلقة.
ومرة أخرى يرتد القانون على الثورة. ولكن هذه المرة في أعلى صوره: الدستور. فبعد أن خيب القانون آمال الثورة في محاسبة النظام القديم وقتَلة الثوار من قوات الشرطة والجيش، تُحطِّم مسودة الدستور الطموح الثوري في الانعتاق. فمسودة الدستور الجديد كشَّاف لعلاقات القوى والسلطة في مصر وخيالهما السياسي. وهي تمثل مصالحة بين بعض الإسلاميين، وتحديداً الأخوان المسلمين، والدولة القومية الحديثة متمثلة في مركزيتها وأجهزتها الأمنية والعسكرية والرأسمالية. أما عن الثورة، فللمسودة رأي صريح في ذلك: وداعاً للأحلام والانعتاق، فالدولة والنظام العام (السياسي والاقتصادي والاجتماعي) سيعودان كما كانا، ولكن بشيء واحد جديد: اللحية... دونما الإسلام.
هناك طريقتان لفهم الدستور. الأولى هي أن يُفهم كنص قانوني من الناحية التقنية. وبتلك الطريقة يعامل كنص تخصصي يقوم عليه الفقهاء الدستوريون، ويكون نتاجا لعملية علمية محكمة بعد نقاشات مطولة يجرونها بينهم للمواد وكيفية صياغتها وجعلها مانعة جامعة وغير متناقضة ومفصلة بشكل واضح لا يقبل الشطط في التأويل. وعلى كل، فمن تلك الزاوية، يبدو أن مشروع الدستور الجديد يتسم بالرطانة والتكرار وعدم الوضوح والالتباس، وهو مفتوح على كل التأويلات في المجالات المختلفة لتطبيقه. فمثلاً، المواد المنصوص عليها لتحجيم اقتحام المنازل وحالات القبض من دون مبررات واضحة ستفتح المجال للسلطة التنفيذية، متمثلة في الشرطة، للتغول على حريات الأفراد. وهناك مواد كثيرة لا تستحق التحليل لأنها موضوع إنشاء لا يليق بتلامذة الصفوف الإعدادية.
لكن المدخل السابق ككل ليس مناط التحليل الحقيقي لأي دستور. وذلك لأن القانون والدستور كعملية علمية أمر لا وجود له. أما الطريقة الثانية لفهم الدستور فهي كنتاج لتصور السلطة للفرد والجموع ودور الدولة ووظيفتها في المجتمع وحدود دورها ورؤية الحريات ونطاقها وحدودها والمجال العام وسبل إنشائه ودوره في الصراع السياسي... وهو أيضاً وثيقة لضبط علاقات القوى والسلطة وتحديد المباح والمقبول والممنوع والمجرَّم، وكرؤية معرفية واقتصادية واجتماعية وسياسية. وهي الأمور التي تغيب عن كثير من النقاشات الدائرة في مصر حول الدستور.
زوبعة الاستقطاب وعسكرة المجتمع
تسود المجال العام حالة من الاستقطاب الديني - العلماني حول الدستور. وهو أمر يخفي العوار الكامن في فلسفة المسودة ويحجب النظر عن أمور خطيرة تمر مرور الكرام، ويمثل هذا السجال غطاء لتمريرها. فالكنيسة، وما يسمى بالقوى المدنية ليسوا وحدهم من انسحب من التأسيسية ومن يرفضون المسودة بشكل قطعي. بل انسحب ثمانية من أصل عشرة أعضاء من اللجنة الاستشارية لمراجعة مسودة الدستور في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر السابق. وهم بنوا انسحابهم على أسباب تتعلق بعوار في فلسفة الدستور التي لا تمكِّن من الحريات وعلى سوء الصياغة، وعلى تهميش اللجنة الاستشارية وعدم إعطائها فرصة حقيقية لمناقشة المواد والصياغة. فقد حظيت بلجنة استماع واحدة لم تزد على خمس عشرة دقيقة. ما حمل هبة رؤوف على الانسحاب، وكذلك حسام البخاري المتحدث الرسمي لائتلاف «المسلمين الجدد» والناشط السياسي، وهو يؤكد أن السجال الرئيسي لا يجب أن يكون علمانيا/إسلاميا، لأن المسودة تمرِّر عسكرة المجتمع وترسِّخ بنية الدولة القمعية. أما حزبا «مصر القوية» و«التيار المصري» فيرفضان المسودة بالكلية على أسس تتجاوز الاستقطاب، وهما حزبان غير علمانيين، يرفضانها لما تحويه من صلاحيات واسعة للرئيس تجعله قابلا للتحول إلى «فرعون» جديد، بالإضافة إلى هيمنة النزعة الأمنية، ودور المؤسسة العسكرية التي يرفع الدستور أي رقابة وسيطرة للدولة عنها. وكان المتوقع أن يخرج الدستور بنظام مختلط بين الرئاسي والبرلماني، إلا أن واقع المسودة يجعله رئاسيا بشكل صريح.
السلمي يعود من النافذة بعد إخراجه من الباب
أدخلت المسودة وثيقة السلمي التي تم رفضها في العام الماضي من قبل القوى الثورية وجماعة الإخوان المسلمين. بل أعطت المسودة العسكر أمورا أزيد من الوثيقة، حيث أدخلت على الدستور بعض مواد المحاكم العسكرية، التي تعطي العسكر سلطة محاكمة المدنيين. وهذا لا يعني فقط حق محاكمة المدنيين العاملين بالمؤسسات العسكرية، لكن يمكن أن يشمل المدنيين الذين يصادف وجودهم في نفس الحيز أو المساحة. وهنا مشكلة أكبر لأن نزول الجيش إلى الشارع يعني هيمنته عليه وتحويله الى مساحة عسكرية. أضف عدم مناقشة ميزانية الجيش، ما يجعل هذا الاخير مستقلاً تماماً عن رقابة الدولة. وهو أمر يجب أن يُرى بشكل أوسع. فلا يمكن تصور تحول ديموقراطي وتفكيك لهيمنة العسكر ولعسكرة المجتمع في ظل دستور يرسخ دولة أمنية ويعطي وضعا فوق المميز لمؤسسة الجيش.
هناك ثلاثة مفاتيح لفهم مسودة الدستور: الأمن القومي، والآداب العامة، والشريعة الإسلامية. وهي كلمات تملأ المسودة في كل أبوابها. وينذر هذا الأمر بتحول الدولة الى جهاز أيديولوجي للتفتيش على الضمائر من الناحية العقائدية، بالأخص إذا أخذنا في الأعتبار هشاشة المواد التي تنص على حرية الاعتقاد وتضاربها. وأيضاً يرسِّخ الدولة الأمنية المعسكرة من خلال عصا سحرية هي «ضرورات الأمن القومي والحفاظ على الأداب العامة». فالمسودة تعطي حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر للأديان السماوية فقط في المادة 40. ثم تأتي في المادة اللاحقة لتؤكد أن الحرية الشخصية حق مكفول. أما المادة 44 فتنص على أن حرية المعلومات وتداولها حق مكفول «بما لا يخالف الأمن القومي». وبالتالي فالكشف على الوثائق ستتحكم به الجهات الأمنية المختلفة. ولن يكون هناك معيار واضح لما يمس الأمن القومي. وهذا يشمل حقبة محمد علي! وتضطلع الشرطة طبقاً للمادة 200 بحفظ الآداب العامة. وهي كلمة فضفاضة يمكن توسيعها في كل اتجاه.
تجريم الإضراب والاحتجاج
يحاول النظام العام وتركيبة السلطة طعن فكرة الكرامة وعلو سيادة الانسان على الدولة وعجلة الانتاج على مستويات متعددة من خلال الدستور. ويبرز ذلك على نطاق وقوع الفعل السياسي بين المباح والمعاقب عليه. فالوضع الاقتصادي - الاجتماعي ونمط الانتاج كانا أحد أهم خطوط الثورة للقطيعة مع النظام السابق كنظام عام وليس مع جانبه السياسي فقط. وينعكس ذلك من خلال مطالب الثورة بعدالة اجتماعية، وانفجار اضرابات واسعة في أغلب القطاعات. ومع ذلك، فالمسودة، وما طرأ عليها من تعديلات، لم تأخذ أي موقف صريح تجاه التوحش الرأسمالي والاقتصاد الخدمي. والمواد المتعلقة بذلك هي أشبه بمواضيع إنشاء لا تتجاوز ذكر «أهمية التنمية». الأخطر من ذلك هو التباس موقف المسودة من حرية تنظيم الاضرابات والتنظيمات العمالية، وتركها مقولة انه «ينْظمها القانون». بل إن المادة المتعلقة بجريمة تعطيل العمل تعد مدخلاً خطيراً لتفكيك أي مطالبة بحريات اقتصادية واجتماعية، وتعرض المطالبين بها لأشد درجات الحبس، وذلك لأن الأمر كله يمكن أن يتحول إلى تهديد الأمن القومي، وهي الكلمة المتكررة في أغلب مواد الدستور. وهو ما يجعل الشك في تلك المسودة لا يتعلق بالصياغة، لكن في الفلسفة التي تختبئ خلف الكلمات وفي التوجه الحاكم لها ولتحيزاتها الاجتماعية.
عمالة الاطفال مباحة
وتكشف المادة الخاصة بعمالة الأطفال القناع عن رغبة تركيبة السلطة في استمرار النظام المجتمعي ـ الاقتصادي السابق. فالمادة 68 لم تكلف نفسها ذر بعض الرماد في العيون فتمنع عمالة الأطفال بشكل قطعي لكنها اتسمت بالميوعة في الصياغة. وهي تجرم عمل الأطفال «بما لا يناسب مراحلهم العمرية». وهذا الأمر لا يمكن أن يفهم كخطأ في الصياغة، فالدولة المصرية لها تاريخ كبير من النضال في المحافل الدولية من أجل الحيلولة من دون منع عمالة الأطفال في حصاد وصناعة القطن. وبعيداً عن القطن الذي بدأ يتضاءل كزراعة وصناعة إلى حد كبير، وفي ظل نوعية اقتصاد خدمي واستهلاكي، تنتشر عمالة الأطفال ـ كما نرى بشكل يومي ـ في المستويات البسيطة، وتحاول المادة إذاً ترسيخ ذلك الوضع دستورياً.
الأطراف الجغرافية والثورة والدولة الأمنية
لأجيال كثيرة، عانى أبناء الأطراف الجغرافية لمصر مجتمعين، أي أبناء سيناء وسيوة ومطروح والنوبة، أقصى درجات التهميش والقمع السياسي والاجتماعي والثقافي. بل شنت الدولة المركزية حروبا واضحة في بعض الحقب على أهالي سيوة لجمع الضرائب، وقامت بتهجير قسري لأهالي النوبة وعدم الاعتراف بحقهم في العودة بعد بناء السد العالي، وحتى اليوم. وهناك الحملات الأمنية الأقرب إلى الحرب المفتوحة ضد أهالي شمال ووسط سيناء، بعد أحداث طابا، وصلت إلى رمي جثث القتلى في صناديق القمامة في عامي 2004 و2006 كما تروي شهادات الأهالي. وقبيل انتخابات الرئاسة الحالية بشهر، دارت بعض المعارك العنيفة مع قوات الجيش في مرسى مطروح انتهت بطرده من المدينة ولم يعد إليها إلا بعد جلسات صلح عرفية بينه وبين القبائل هناك. ولم يكن القمع الأمني هو المعاناة الوحيدة لأهالي الأطراف الجغرافية، لكنه ترافق مع التهميش والقمع الاجتماعي. فهم عانوا تخوينهم بصورة دائمة وتصدير صورة إعلامية وذهنية عنهم تضعهم دائماً في خانة الاشتباه. وتمت عمليات ممنهجة لتقليص حق المواطنة لتلك المناطق تمثلت في منعهم من الاحتفال بتاريخهم وثقافتهم. فأهالي سيوة منعوا من الاحتفال بلغتهم الأمازيغية. وهذا أيضا واقع أهالي النوبة. كما منع أهالي سيناء من الاحتفال بتاريخهم النضالي ضد الكيان الصهيوني المتمثل في عمليات فدائية واستخباراتية رفيعة المستوى، وظلت صورة الخونة وتجار المخدرات تتسيد الاعلام والسينما المصرية حتى اليوم. انفجرت الآمال والطموحات لدى أهالي تلك المناطق مع الثورة وبزوغ حلم المواطنة الكاملة في الأفق. إلا أنه سرعان مع عاودت الدولة الأمنية إنتاج رؤيتها من خلال مسودة الدستور. فهي تعتبر تلك المناطق ساحات حرب واستخبارات أمنية وليس مجتمعات وسكانا واحتياجات إنسانية. كما جعلت المسودة كل تلك اللغات والثقافات غير مرئية أو معترف بها كوجود إنساني داخل المجتمع المصري، وذلك بالتجاهل الكامل.
أما المرأة في الدستور، فهي لم تذكر إلا في مادة واحدة. تضمنت المسودة الأولى في 14 تشرين الآول/أكتوبر «أن حريات المرأة مكفولة في ظل الشريعة الإسلامية». ثم تمت إزاحة الشريعة الإسلامية في المسودة الأخيرة. لكن السؤال الأهم يتعلق بمقدار اهتمام الدستور ككل بالمرأة، إذ مرت المسودة عليها مرور الكرام.
تحتاج المسودة لنقاشات أكثر عمقاً في ما يتعلق بفلسفة الدستور ورؤيته الواسعة للسلطة والدولة والأفراد والثقافات والجماعات المختلفة. أما السعي للخلاص منه في أسرع وقت بدعوى الاستقرار كما يرى الإخوان المسلمون، فمن الممكن أن يقود لمزيد من عدم الاستقرار.