انعقد الاجتماع الرابع بين مصر وإثيوبيا والسودان حول سدِّ النهضة الإثيوبي. الاجتماع الذي التأم في الخرطوم 25 في نهاية آب/ أغسطس الفائت، كان على مستوى وزراء الري في البلدان المذكورة. واتسمت كلمات الوزراء الثلاثة في الجلسة الافتتاحية بالهدوء والابتعاد عن الانفعال أو التصلّب في المواقف. بل هي ركّزت على ضرورة التعاون والاستفادة القصوى من مياه النيل وحلِّ الخلافات بصورةٍ ودّية عن طريق التفاوض. ويأتي هذا الاجتماع على خلفيةِ مجموعةٍ من التطورات الإقليمية والدولية.
السياق
أولى هذه الخلفيات هي الاجتماعات الثلاثة الماضية التي انعقدت في الخرطوم فيالسنة الماضية (تشرين الثاني/نوفمبر 2013، ثم كانون الاول/ديسمبر عام 2013 وأخيرا في كانون الثاني/ يناير عام )2014. وعلى الرغم من أن الاجتماع الأول بدأ بقدرٍ كبيرٍ من التفاؤل وهو يناقش تقرير لجنة الخبراء الدولية حول سد النهضة، إلا أنه سرعان ما اكتسحه تيار النيل الأزرق الجارف. فقد طالبت مصرُ إثيوبيا بوقف بناء السد، والاتفاق على لجنة دولية جديدة للقيام بالدراسات التي أوصى بها التقرير.بينما كانت قراءة إثيوبيا للتقرير مختلفةً إذ ذكرت أنه لم يوصِ بوقف بناء السد، وأن دور الخبراء الدوليين قد انتهى بنهاية أعمال اللجنة، وأن خبراء إثيوبيون سيقومون بالدراسات. أصرّ كل طرفٍ على موقفه وانفض ذلك الاجتماع بلا اتفاق.
تغيّرت خارطة تحالفات حوض النيل جذرياً خلال الاجتماع الثاني. فقد أعلن السودان بوضوحٍ تأييده الكامل لسد النهضة، مُنهياً بذلك التحالف النيلي المصري - السوداني الذي برز إلى الوجود عام 1959 إثر توقيع الطرفين على اتفاقية مياه النيل. وكان وصول الدفعة الأولى من الكهرباء الإثيوبية للسودان، والتي فاقت المئة ميغاواط ذلك الشهر، وبسعر التكلفة الذي هو أقل من ربع تكلفة كهرباء خزان مروي، قد أوضح للسودان الجائع للكهرباء أين تكمن مصالحه، فجاء تأييد السودان لسد النهضة على لسان رئيس الجمهورية نفسه، وخلال لقائه برئيس الوزراء الإثيوبي أثناء افتتاح خط الربط الكهربائي المشترك بين البلدين. وقد زاد ميلاد الحلف الإثيوبي السوداني الجديد مصرَ توترا، فقرّرت أن تبرز عضلاتها للسودان بمزيد من إجراءات ضمِّ حلايب ، وبفتح مكاتب للمعارضة السودانية في القاهرة.
بهذه الخلفية جاء الاجتماع الثلاثي الثالث هشاً وبلا أرضية يستند عليها، ونقاط لقاءٍ لينطلق منها. وانتهى ذلك الاجتماع حتى دون إصدار بيانٍ مشترك أو الاتفاق على موعدٍ ومكانٍ للاجتماع الرابع. ثم مضت سبعة أشهر بلا اجتماعاتٍ ثلاثية أو مفاوضاتٍ حتى من خلال وسيطٍ رابع. واستفادت إثيوبيا من هذه الفترة لتواصل بناء السد بحيث يصبح حقيقة لا يمكن القفز فوقها، أو حتى الحديث عن وقف البناء. وواصلت أوروبا مساعدتها لإثيوبيا. فالشركة الايطالية "ساليني" تواصل بناء السد، والشركات الفرنسية والسويسرية والانجليزية تتنافس على بيع المعدات الميكانيكية للسد، بينما تواصل الشركات الصينية بناء خطوط شبكة نقل كهرباء السد التي سوف يبدأ توليدها بعد عامٍ وأشهر قلائل، وتوصيلها إلى بقية إثيوبيا، وإلى دول الجوار.
كان واضحاً أن عنصر الزمن ظلّ وما يزال في جانب إثيوبيا. وكان واضحاً أيضاً أن الرهان المصري بأن تفشل إثيوبيا في مواصلة تمويل بناء السد، والذي تبلغ تكلفته خمسة مليار دولار، قد فشل.. على الرغم من تصريحاتٍ مفادها أن البنك الدولي والدول الأوروبية أوقفت تمويلها للسد، بينما ليس هناك أي تمويلٍ خارجيٍ للسد. ثم انطلقت بعض التصريحات عن أن بحيرة السد سوف تخلق أخدوداً ضخماً سيصل مكة ويشقُّ الكعبة نفسها إلى شطرين أو ثلاثة. وقد أضرّت تلك التصريحات بمصداقية مصر كثيراً. غير أن العقلاء في القاهرة رأوا أن الزمن، والعداء الإعلامي لإثيوبيا والسودان والسد، والتصريحات غير المسئولة، ليست من مصلحة مصر ،فقرروا العودة لطاولة التفاوض.
وقد وفّر الاجتماع الثالث والعشرون للاتحاد الأفريقي الذي انعقد في الأسبوع الأخير من شهر حزيران/يونيو عام 2014 في مدينة مالابو عاصمة غينيا الإستوائية، فرصةً طيبة للبلدين . حيث التقى الرئيس المصري ورئيس الوزراء الإثيوبي على هامشه. ووافق الرئيسان خلال اللقاء على العودة إلى طاولة المفاوضات حول سدِّ النهضة. وقد ركز الرئيس المصري في لقائه بالصحفيين في 24 آب/ أغسطس عام 2014، عند مغادرة الوفد المصري للخرطوم للاجتماع الثلاثي، على اهمية مناقشة أسس ومرتكزات التعاون بين الدولتين الشقيقتين، وحلحلة المسائل العالقة حول سد النهضة، أن وفد القاهرة في الاجتماع الثلاثي في الخرطوم سوف يتناول مسألتي حجم البحيرة، والفترة التي ستملأها فيها إثيوبيا. كان ذلك الموقف يعلن بدء عهدٍ جديد.
الاتفاقية الاممية حول المجاري المائية
في تلك الأثناء، وتحديداً في 19 أيار/مايو عام 2014، كانت اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية الدولية في طريقها إلى حيز النفاذ بعد أن صادقت عليها 35 دولة من أوروبا وأفريقيا والعالم العربي وآسيا. وقد دخلت الاتفاقية حيز النفاذ رسمياً في 17 آب/ أغسطس عام 2014، بعد تسعين يوماً من اكتمال العدد المطلوب من التصديقات بموجب الاتفاقية. وتنبني الاتفاقية على التعاون بين دول الحوض المشترك، وتشمل الاتفاقية كلمة "تعاون" ومشتقاتها خمسة عشر مرة. كما تنبني على مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول لكل دولةٍ من دول الحوض المشترك، وتضع سبعة عوامل لتحديد هذا الانتفاع المنصف والمعقول. وتنادي بالمشاركة وتبادل المعلومات وحلِّ النزاعات بالطرق الودية والسلمية، وتعترف لكل دولة من دول الحوض بحقها في المشاركة والانتفاع من مياهه.
لقد كنتُ أحد أعضاء مجموعة القانونين الدوليين الذين كانت مهمتهم خلال الأعوام الثلاثة الماضية شرح الاتفاقية للدول الراغبة والإجابة على التساؤلات عنها. وسوف يكون من الصعب نقل حالة الفرح والنشوة التي انتشرت بين الدول الأعضاء في الاتفاقية والقانونيين وخبراء المياه الآخرين الذين وقفوا وراء الاتفاقية حتى دخلت حيز النفاذ. بل إن دار النشر العالمية المعروفة "بريل" قرّرتْ بدء نشر دورية علمية متخصّصة في "قوانين المياه الدولية".
ورغم أن أطراف الاتفاقية لا تشمل أياً من دول حوض النيل الاحدى عشر، إلا أن الرسالة التي أرسلتها الاتفاقية، ودخولها حيز النفاذ كانت واضحة: لقد بدأ عهدٌ جديدٌ في إدارة المجاري المائية المشتركة ينبني على التعاون والمشاركة والانتفاع المنصف والمعقول وحل النزاعات سلمياً. وهذه القواعد تُمثّل القانون العرفي الدولي للمياه المشتركة، وتُلزم ليس فقط الدول الأطراف في الاتفاقية، بل كل دول العالم التي تتشارك في مجاري مائية.
البيان الختامي.. ايجابي
جاء البيان الختامي للاجتماع الثلاثي الرابع عاكساً لهذه التطورات وتوفيقياً في مضمونه ولغته. فقد شمل الاتفاقَ على إجراء دراستين بواسطة بيت خبرة عالمي (أو ما سمّاه البيان "شركات استشارية")، وتكوين لجنة مشتركة تشمل أربعة أعضاء من كلٍ من الدول الثلاثة للإشراف على إعداد هذه الدراسات. كما اتفقت الأطراف الثلاثة على إكمال هاتين الدراستين في ظرف ستة أشهر. وتعنى احدى هاتين الدراستين بموارد المياه ونموذج محاكاة نظام هيدروكهربائية، بينما تعنى الدراسة الثانية بتقييم التأثير البيئي والاجتماعي والاقتصادي للسد على السودان ومصر.
وهكذا قبلت مصر أخيراً حقيقة أن السد قد أصبح واقعاً لا يقبل الجدل، كما قبلت إثيوبيا مبدأ المشاركة الدولية في الدراسات الذي ظلّت مصر تنادي به منذ الاجتماع الثلاثي الأول.
فلأديس أبابا الحق في الاستفادة من مياه النيل التي يأتي 86 في المئة منها من الهضبة الإثيوبية. واتفاقية عام 1902 واتفاقية عام 1959 عفا عليهما الزمان وتجاوزتهما الأحداث والوقائع. وقد وضحت فائدة السدود الإثيوبية على السودان حتى من قبل أن يكتمل سد النهضة ويبدأ في توليد الكهرباء، فعجزه من الكهرباء يبلغ 40 في المئة من اجتياجاته، ما يؤدي الى قطوعات الكهرباء التي عادت إلى واجهة الحياة السودانية. كما تُمثّل نتائج الاجتماع مرونةً في الموقف الإثيوبي واعتماد مبدأ أن المفاوضات أخذٌ وعطاء، وأنه يجب على إثيوبيا قبول مبدأ المشاركة الدولية في الدراسات لتأكيد دعواها أن السد لن تكون له آثار سلبية على مصر، وقبول مبدأ ضرورة التخفيف والحدِّ من الآثار السلبية إن أثبتت الدراسات ذلك.
ومن المتوقّع أنّ تشهد المرحلة المقبلة بعض الشدّ والجذب في مرجعية بيت الخبرة الدولي الذي سوف يتم "استخدامه" في القيام بالدراستين، وكذلك في تفاصيل دور مجموعة الخبراء الاثني عشر التي تقرّر قيامها، وعلاقة هذه المجموعة ببيت الخبرة ودورها في الدراستين... فالبيان الختامي به الكثير من الغموض في هذين الأمرين، ومنه استعمال كلمة "استخدام" بيت الخبرة في الدراستين، وليس "قيام" هذا البيت بالدراستين. غير أنه إذا تواصلت الروح التعاونية التي سادت الاجتماع الرابع، فإن هذه التفاصيل يمكن الاتفاق عليها وترجمة البيان الختامي على أرض الواقع بصورةٍ إيجابيةٍ ومرضية. كما يمكن أيضاً (بل يجب) المُضي قُدُماً إلى مساحاتٍ أكبر وأوسع للتعاون مع دول حوض النيل الأخرى لانتشال شعوبها من الفقر والجوع والعطش والظلام الذي تعيشه غالبيتهم، والذي يزداد يوماً بعد يوم.
بعدَ أنْ أصبحَ سدُّ النهضةِ الإثيوبي حقيقةً واقعة: خِياراتُ السُودان