يعود أغلب الباحثون في تحليل موقف الإسلام السياسي إلى البدايات الأولى لنقده، والتي تمثلت في ما كتبه علي عبد الرازق، إذ تشكل هذه المحاولة بداية الإنطلاق للنقاد، كما تشكل محط انتقاد المدافعين عن الإسلام السياسي. وهنا نحاول أن نطل على المسألة من جانب آخر مغاير قليلا، ينطلق من أن النقد الموجه لطرح الإسلام السياسي يكشف بعض نقاطه لكنه لا يكشف النقاط الأهم منها، إذ يتماهى الناقدون مع مسلمات طرحت عند منظرو الإسلام السياسي، ويرتكزون في النقد عليها، مع أن السير الطبيعي للنقد هو أن نتبين هل أن ما أدعي على أنه مسلمات مأخوذة من التراث هو بالفعل مسلمات أم لا ؟ ففي حال كونه غير مسلم، من المفترض أن يؤثر ذلك على مقدار الشدة والإصرار في هذا التمسك بفهم لم يأخذ به السلف.
وهنا تبرز أهمية محاكمة مثل هذه الإتجاهات على ضوء المرجعيات التي تختارها لنفسها، بدل أن يكون النقد والحوار بمنطقين: منطق الحداثة والفكر المعاصر، ومنطق آخر بعيد كل البعد عن هذه الروح. وهذه المفارقة في الحوار النقدي الدائر حول الإسلام السياسي هي التي جعلت منه وكأنه يدور في حلقة مفرغة لا يتمخض عنها أي جديد، ولا تنتج أي تقدم فيما يرتبط بالتفاهم بين الاطراف المتحاورة على القضايا الحساسة موضوعة الإختلاف.
منظرو الإسلام السياسي بنوا نظرياتهم على مسلمات ليست غير مسلمة عند ناقديهم ممن يرتكزون على مناهج بحثية وفكرية حديثة فحسب، بل هي غير مسلمة في التراث نفسه حتى، وهنا آخذ على سبيل المثال المفردة التي يطرب لها أكثر الإسلاميين، وهي نفس قيد الوصف بالإسلامي أو الديني. مَن يلاحظ استخدامات مثل هذه التوصيفات في الادبيات الإسلامية المعاصرة، ويقارنها بمثيلاتها من الطرح التراثي القديم وحتى ما كان في المرحلة المملوكية من مراحل الفكر الديني الإسلامي، يلاحظ أننا لا نجد هذه الروح التي تحاول أن تؤسلم كل شيء، وتصرّ على شرعنة ما لا علاقة له بالشرعنة من الأساس، لأنه أمر تركه الدين مفتوحا لاجتهاداتنا. وفي الحقيقة، استخداماتنا الحالية لصفة إسلامي جاءت نتيجة تأثيرات الاستشراق، حيث راج هذا التوصيف في لغات اوروبا، وهو جاء ليعطي معنى يريد أن يوصله المستشرق للتمييز بين الاوروبي والآخر العربي المنصهر مع الاسلام. لكن هذا لا يعني صحة كثرة استخدام مثل هذه التوصيفات.
لذلك، من النادر جدا أن نلحظ حتى كلمة إسلامي أو إسلاميين أو ديني أو .. حتى مع أشد التوجهات تطرفا في نزعتها نحو إلغاء الفكر البشري لحساب مدونات الحديث؛ فابن تيمية مثلا، حينما ينظّر للسياسة الشرعية، لا يعني ذلك أنه يريد أسلمة كل المعطى السياسي وإلحاقه بالدين كما يصوَّر ذلك. ومَن يحاول أن يجد لآرائه جذوراً في التراث، فهذا لا يعني ذلك بقدر ما يلتقي مع ما كان سائدا من تحديد بعض الوظائف ذات الطابع الديني، والتي لا مناص من أخذ الجانب الشرعي في حسبانها، فالحديث عن سياسة إسلامية خالصة لم يوجد في ذهن السلف لكي يكون مبرِّرا لمن يدعي بأنه خلف لهم - من الإسلاميين الحاليين - وبأنه يمثل خط التراث الإسلامي وبالتالي يعطي لطرحه الأصالة والشرعية في مواجهة الآخرين.
من هنا يلتقي ما طرحه د.المسيري من تمييز بين العلمانية الجزئية والشاملة، مع ما طرحه مفكر إسلامي آخر وهو أبو القاسم حاج حمد من أهمية علمنة الدولة فقط لا علمنة المجتمع. هذا الطرح هو الذي يلتقي مع ما كان مألوفا في التراث من تحديد لما يرتبط بالحكم- بمعنى الرأي- الشرعي حول مسألة ما، وهو أمر له دخل في طبيعة ما نفترضه من دائرة تميز ما هو من شأن الدين عن غيره.
وختاما، إشارة إلى أن خطأ منظّري الإسلام السياسي هذا لا يعني أن ما يُطرح من تصور علماني للدولة قائم على خصوصيات مستمدة من الفكر الاوروبي الحديث، لا يعني انه كان موفقا في نظرته حول إمكانيات الفكر الفلسفي الذي أُنتج في عهد الإسلام، فهذا الفكر لم يعانِ من مشكلة الديني والزمني، لم تكن مفارقة المؤسسة الدينية والسياسية حاضرة في ثناياه بسبب طبيعة الإسلام التي صهرت كلا الجانبين في نسيج واحد، تحدد فيه الشأن البشري والإلهي على السواء.
الإسلام السياسي... وقفة نقديّة
يعود أغلب الباحثون في تحليل موقف الإسلام السياسي إلى البدايات الأولى لنقده، والتي تمثلت في ما كتبه علي عبد الرازق، إذ تشكل هذه المحاولة بداية الإنطلاق للنقاد، كما تشكل محط انتقاد المدافعين عن الإسلام السياسي. وهنا نحاول أن نطل على المسألة من جانب آخر مغاير قليلا، ينطلق من أن النقد الموجه لطرح الإسلام السياسي يكشف بعض نقاطه لكنه لا يكشف النقاط الأهم منها، إذ يتماهى الناقدون مع مسلمات طرحت عند