في كل مرة تشاهد فيها فيلماً عن الحرب الأهلية اللبنانية، تفكّر، "طيّب، فيلم آخر عن الحرب، هذا كلّ ما تتناوله الأفلام اللبنانية". لكنّ هذا ليس "فيلماً آخر". "متحضّرات" هو فيلم "محرِج"، لا يريد أن يكون مراجعة أو مرافعة عن الحرب، ولا عيناً تحاول فهم المحتربين. هو فيلم "غير مناسب" - وفق المعايير السائدة – وبالطبع، وفق معايير الأمن العام اللبناني على وجه الخصوص. ليس مناسباً لاستثارة مشاعر النوستالجيا، ليس مناسباً لاستنفار الإحساس بالوطنية والانتماء، ولعلّه في معظم العائلات ليس مناسباً للمشاهدة مع الأهل والأولاد. هو فيلم محرِج، شخصياته بذيئة اللغة، فاحشة اللسان، وهو صاخب، عنيف، قاس، ولكنه "ليس مناسباً" لا لأيّ من تلك الأسباب، بل لأنه يقول الفكرة التي لا يطيق اللبنانيون سماعها، حتى في أفكارهم مع أنفسهم. الفكرة مزعجة للغاية، كما لو كنت تقعد على كرسي مبلول وترفض النهوض تفادياً لإحراجٍ أكبر. الفكرة تقول: "هذه الحرب وهذا شكلها.. هذه البلاد وهذا هو اتكالها على قوة عمل الفقراء والفقيرات الأجانب. هذا جنوننا وعنفنا اليومي العاديّ. عاينوه جيداً، فهل نحن، إذاً، "متحضّرون"؟
"متحضّرات" (Civilisées) هو فيلم للمخرجة الراحلة رندة الشهال، صُوّر عام 1998، وعُرض في بيروت مرة واحدة فقط عام 1999. فقد طلب الأمن العام اللبناني حذف 37 دقيقة من الفيلم، أي تخريبه بالكامل بحيث لا يبقى منه سوى ما لا يستفزّ ولا يُحرِج. وبعد مفاوضات وأخذ ورد بين فريق الفيلم والأمن العام - وكان بإدارة اللواء جميل السيد الذي كان مديره العام في ذلك الحين - استمرت لنحو 6 أشهر، وحين أصرّت المخرجة على رفض إفراغ الفيلم من مضمونه، مُنع من العرض في الصالات اللبنانية. عدا عن ذلك العرض الأول المنفرد عام 1999 في بيروت، عرضت سينما "متروبوليس" الفيلم مجدداً ضمن مهرجان استعادة أفلام المخرجة رندا الشهال عام 2018، وفي الذكرى العاشرة لرحيلها.
يا لبنان!
25-10-2019
لعلّ الأمن العام اللبناني الذي انزعج للغاية من الفيلم هو نموذج ذلك الذي بلل ثيابه ويرفض الوقوف لألّا يُفتضح، وهو حال جهات لبنانية كثيرة غير أجهزة الرقابة كذلك. الفيلم دعوة للوقوف ومواجهة الإحراج والفضيحة والعلّة التي يعرفها الجميع ويتسترون عنها... فاعتراض الأمن العام لم يكن فقط على الشتائم في الفيلم، بل لأنه اعتبر أنّ الفيلم "غير وطني"، ويبدو "كارهاً للبنانيين" و"فاضحاً" للانقسام الطائفي (!)، يسخر بلا رحمة من الأغنياء الذين هربوا تاركين وراءهم خدم بيوتهم من الجنسيات المختلفة من الدول الفقيرة، لمصير مجهول. "من المتحضّرات؟"، سُئلت الشهال مراراً...
المأساة الملهاة
بناية تقطنها نساء من مختلف الجنسيات، خادمات، عاملات جنس، مثليتان تعملان في الخياطة والرقص، كلهنّ يمارسن درجات فجّة من العنصرية على بعضهنّ البعض فيما اللبنانيون يمارسون عنصريتهم الفجّة على جميعهن. مقاتلان مسيحيان سكرانان في المقبرة، مقاتلان مسلمان يتحدثان خلف المتراس عن شكل الدماغ عندما ينفجر وعن كأس العالم في الفوتبول كذلك، ميليشيوي يقع في الغرام على الحاجز، قنّاص مؤمن يصادق جثّة في عيادة طبيب أسنان ويطلب السماح من المسيح، امرأة ميسورة الحال تعود من باريس إلى بيروت بحثاً عن حبيب قد يكون وهمياً، رجلُ ببدلة رسمية بيضاء اللون "يكزدر" في الحيّ ملقياً البيانات الحزبية، خادمة مسيحية في السابعة عشر من العمر تلبس سلسلة بها مصحف صغير، عامل سوداني طويل القامة يحبّ مدبرة منزل كان من الممكن أن تحبّه لولا أنّه أسود البشرة...
تملك النساء الوزن الأثقل في الفيلم، لا سيما العاملات والفقيرات والأجنبيات اللاتي وجدْن أنفسهنّ في حرب غريبة في بلد آخر وقد تخلّى عنهنّ مستخدموهم. لكن هنا، ليست تلك الخادمة "الاكسسوار" التي نراها في المسلسلات اللبنانية تقول "يس مدام" لا أكثر ولا أقلّ، ولا تلك التي تحاول بعض الأفلام بذريعة التعاطف أو الدعم أن تظهرهنّ "مهذبات ولطيفات ومعذّبات" كأنّ تهذيبهنّ شرط للتعاطف مع معاناتهنّ.
تكمن جرأة الطرح في الفيلم واستثنائيّته بإظهاره العاملة السريلانكية مثلاً تمزح، تسخر، تشتم، وتعاير غيرها بتعابير جنسية صريحة، وهو أمر سيربك أكثر المشاهدين من أهل البلد الذين لم يعتادوا رؤية العاملات في بيوتهم إلا كعاملات يمسحن ويشطفن ويغسلن ويكوين، ولكن لا آراء لهنّ، لا حياة عاطفية أو جنسية، معجمعنّ اللغوي مليء بكلمات تتعلق حصراً بالعمل في المنزل، فيستحيل أن يشتمن أمام اللبناني أو يلقين النكات أو يسففن بالحديث، فهذا كأنّه من حقّ اللبناني حصراً... ثمّ يأتي الجزء الأخطر من الطرح. أين موقع اللبنانيين من حياة هؤلاء، ومَن المتحضّرون والمتحضّرات؟
يمسك الفيلم بإحكام بجوّ حفلة الجنون والهستيريا الجماعية في لبنان الحرب الأهلية. مشاهد الدمار تكاد تكون مجرّد حضور عَرَضي، فليس الفيلم بحاجة لأن يستعرض بورنوغرافيا الحرب والخراب حتّى نفهم أنها الحرب. الأشخاص، تفاعلاتهم، أحاديثهم، قصصهم، أمزجتهم ومنطق حياتهم كلها أشياء أكثر من كافية كي نفهم. لن يجد المموّل الأجنبي في الفيلم ما يتوقعه. أين المأساة التي ترافقها موسيقى حزينة على مقتل طفل يشارك في إحدى الميليشيات؟ لا وقت لذلك في منطق الحرب، فعلينا لملمة هذه المأساة بسرعة لأنّ أًخرى ستلحق بها سريعاً... هكذا يمشي الفيلم، القصص تتشابك وتتوالى وتتقاطع، ولا أحد يملك دور "البطولة" في الحرب، فالكل لهم حصّتهم في إلحاق الأذى وتلقّيه. وفي "متحضّرات" ما يذكّر بـ"فيلم أميركي طويل"، مسرحية زياد الرحباني – وهو أيضاً صاحب الموسيقى التصويرية في الفيلم التي تضيف طبقة درامية تكثّف مشاهد تجوّل الكاميرا في شوارع بيروت وخرائبها. وإن كانت شخصيات "فيلم أميركي طويل" تقبع في مشفى الأمراض العصبية في ضاحية بيروت الجنوبية، فإن لبنانيي "متحضّرات" "يعيشون بيننا".
الفيلم ليس خائفاً من أن يقول ويسخر من مجتمع مريض للغاية، يمارس عتهاً كامل الأركان ويتّسم بفقدان الاتصال مع الواقع لدرجة تجعل المشاركة (الطوعية!) في حفلة الجنون هذه، وبهذا الإصرار وهذه الشراسة، أمراً لا يمكن لعقلٍ تصوّره. الجميع على ثقة تامة بامتلاكه الحقّ والحقيقة في لبنان الحرب الأهلية. أحاديث وقصص الحرب تخضع لمنطقٍ مختلف تماماً عن أحاديث وقصص أيام السلم، فتصير بعض المشاهد العنيفة للغاية تستدعي الضحك لعبثيتها وغرابة موقف شخصياتها، مثل مشهد إصابة ميليشيوي برصاصة في معدته ومحاولة الطبيب الفرنسي مساعدته، ليردّ الأول "من قال لك أننا بحاجة لمساعدتك؟.. ومن طلب منك المجيء إلى هنا لتقديم العون أصلاً؟ وهل أنا أمك لتساعدني؟ إذهب وساعد أختك بين ساقيها يا ********!"
في سياق أحداث اليوم
أكتب هذا النصّ في 12 حزيران/يونيو من عام 2020، وعلى الشاشة نقلٌ مباشر في هذه الليلة لاحتجاجات واسعة في بيروت وطرابلس والمناطق. أمس، خرج كثر إلى الشارع مع شعارات نبذ الطائفية، وقبل هذا بأيام، خرجت مجموعات تشتم عائشة زوجة النبي محمد، فردّت مجموعات بشتم أهل بيته، لتتبعها مظاهرات ترفع الأعلام التركية وتشتم أرمن لبنان! هي أحقادُ قديمة، مُختَرَعة حتّى، تُستحضَر من صندوق أسود على الرفّ. أحقاد غبّ الطلب، تطفو، تفور، تختفي، أو يُداريها النفاق الاجتماعي المعتاد. ربّما لهذا السبب غالباً ما يأتي الردّ على شعارات "كلنا إخوة" و"ما بدنا طائفية" سينيكياً تملؤه الريبة لفراغ العبارات من مضمونها.
فيلم رندة الشهال "متحضرات" سينيكي النزعة كذلك. كل الجلادين ضحايا، وكل الضحايا جلادون. كلهم صادق وكلهم كاذبون، وكلهم (كلّنا) مسؤولون (؟) مشاهدته الآن بعد أن صار متاحاً على موقع "فيميو" للمرة الأولى (بعد إطلاق الموقع الرسمي للمخرجة في 2020)، بدون منشار الرقابة، يسمح برؤية انزلاقات الماضي في لغة الحاضر. تدرك أننا الآن أيضاً ننزلق بإصرار وتكرار إلى حفلة شبيهة. كثيراً ما نكون نشاهد نشرة الأخبار لننفجر بالضحك على موقف ساخر يُخلق في عزّ الفوضى. "متحضرات" فيلم يعي العلاقة الجدلية بين الفوضى والعنف والفكاهة والمأساة.
... باللبناني!؟
28-12-2018
لعلّ كثيرين لن يسعدوا بسماعهم الجمل الأخيرة في الفيلم، على لسان عاملين أجنبيين: "إنهم همجيون"... "صحيح، لكنهم يدفعون لنا جيداً"... "بالكاد! أنا كنتُ مهندساً في بلادي، وأعملُ في الخدمة هنا من أجل حفنة دولارات". إن كان هذا صحيحاً، وكلّ ما لدينا من "دولاراتنا"، وإن كانت هذه قد فُقدت كذلك، يجدر بنا السؤال، ماذا بقي إذاً من "حضارة" البلاد؟ في هذا السياق، يصير بليداً الالتفات إلى "الشتيمة" في لغة الأفلام أو في لغة الشارع التي تصرّ على الانفلات على شاشات التلفزة على الرغم من رعب المذيعين والمذيعات من مرورها... شتيمةٌ مهما بذُئت، لن تكون "أكثر بذاءة ممّا نحنُ فيه".
****
-الموقع الرسمي للمخرجة رندة الشهال:
https://www.randachahal.com/
-فيلم "متحضّرات" (متاح بشكل مجّاني) على موقع "فيميو":
https://vimeo.com/410807307