الجزائر: الجنوب يتحرّك.. والنظام جامد

ما الذي يجري في جنوب الجزائر؟ كيف يمكن تفسير صعود التحركات الاجتماعية في منطقة غنية وشاسعة، عُرفت بـ«الهدوء» منذ فترة طويلة، حيث تمّت المحافظة على الأمن حتى في أعوام التسعينيات، حين عرفت الجزائر وضعية حرب أهلية؟ الخطر على الجزائر ينبع من نظام يتأخّر في تقدير حجم مخاطر انعدام حركيته، أكثر مما يتأتّى من حراك شبابي وشعبي.لقد اندلعت انتفاضة يوم الخميس 11 نيسان/أبريل 2013
2013-04-24

الأخضر بن شيبة

كاتب من الجزائر


شارك
من تظاهرة 14 آذار/مارس في ورقلة جنوب الجزائر

ما الذي يجري في جنوب الجزائر؟ كيف يمكن تفسير صعود التحركات الاجتماعية في منطقة غنية وشاسعة، عُرفت بـ«الهدوء» منذ فترة طويلة، حيث تمّت المحافظة على الأمن حتى في أعوام التسعينيات، حين عرفت الجزائر وضعية حرب أهلية؟ الخطر على الجزائر ينبع من نظام يتأخّر في تقدير حجم مخاطر انعدام حركيته، أكثر مما يتأتّى من حراك شبابي وشعبي.

لقد اندلعت انتفاضة يوم الخميس 11 نيسان/أبريل 2013 في وَرڤلة الواقعة جنوب الجزائر، مباشرةً بعد نشر لائحة المستفيدين من المساكن الاجتماعية. قام شبّان يتّهمون السلطات بممارسة المحسوبية، بمهاجمة المباني العامّة، مما تسبّب بالكثير من الأضرار، فضلاً عن إصابة 40 شخصاً. لا تشكّل هذه الحادثة بذاتها أمراً جديداً في الجزائر، ذلك أن انتفاضات سابقة حصلت في البلاد على خلفية توزيع الدولة مساكنَها الاجتماعية على مواطنين.
فالفجوة الهائلة بين عرض المساكن المتوفرة من جهة، والطلب الكبير من جهة ثانية، يجعل من كلّ مسكن يقدَّم لأي مستفيد، مشروع انفجار محتمل. والأمر دقيق إلى درجة أنه في العديد من البلديات الجزائرية، تم تعليق توزيع المساكن الاجتماعية المتوفرة بالفعل، بهدف تفادي التحركات الاعتراضية شبه الحتمية.
حتى حين يبذل المنتخَبون ما بوسعهم للتأكد من أن المساكن توزَّع على مَن هو بحاجة إليها، فإنّ التحركات الاعتراضية تحصل. ولم يتغيّر الوضع بفعل قرار الحكومة تكليف مهمة إعداد لوائح المستفيدين من هذه المساكن لمدراء الدوائر. وعند كل عملية توزيع للمساكن، يسود جوّ مكهرَب.
إذاً، تندرج انتفاضات مدينة وَرڤلة في إطار «التقاليد» الجزائرية المرتبطة بالاحتجاج على توزيع المساكن الاجتماعية، وهو احتجاج مرتبط بفقدان مستديم للثقة بالدولة وبالمؤسسات العامة. غير أنّ وسائل الإعلام الجزائرية تفادت تسخيف انتفاضات وَرڤلة. فهي تندرج في سياق أكثر شمولية لتصاعُد الحركات الاجتماعية الاحتجاجية في جنوب البلاد الذي تبقى سمعته أنّه أقل «شغباً» من الشمال. لكن، على امتداد الأعوام الماضية، تراكمت الإشارات التي تفيد بأن حدود «صبر» سكّان الجنوب، وبشكل رئيسي شبابه، قد نفُد.
وخلال الأشهر الماضية الأخيرة، ظهرت «تنسيقية وطنية للدفاع عن حقوق العاطلين عن العمل»، وتنامى نفوذها معبرة بذا عن السخط المتزايد إزاء السياسات العامة المطبَّقة. وتقدّم هذه الحركة نفسها على أنها وطنية شاملة، مثلما يشير اسمها، لا مناطقية وخصوصاً غير انفصالية. والبطالة المرتفعة جداً في أوساط الشباب، على الرغم من الإحصائيات الرسمية المشكوك في صحتها إلى درجة كبيرة، هي حقيقة واقعية على الصعيد الوطني. وقد خاضت «التنسيقية الوطنية للدفاع عن حقوق العاطلين عن العمل»، معمودية النار من خلال تنظيمها، في 24 شباط/فبراير الماضي، أي في ذكرى تأميم القطاع النفطي الجزائري في العام 1971 على يد الرئيس الراحل هواري بومدين، مسيرةً بين مدينتَي وَرڤلة وحاسي مسعود. وقد نجح المنظّمون في جذب آلاف العاطلين عن العمل من الشباب إلى مسيرتهم.
وقد شكّل نجاح تلك المسيرة مفاجأة كبيرة، في بلدٍ يعاني فيه حتى مَن يملكون وظيفة من تنظيم أنفسهم بسبب الرقابة البوليسية ــ السياسية المعمّمة.
وما كان من السلطات الجزائرية، وبردّ فعل بوليسي، إلا أن اتهمت المحتجين بتنفيذ «أجندات خارجية»، أو بأنّ الإسلاميين هم الذين يقومون بتحريكهم، وذلك في إطار مضطرب على الحدود الجنوبية للجزائر، مع التدخل الفرنسي في مالي، والهجوم الارهابي ضد حقل غاز تيغنتورين في إن أميناس بتاريخ 16 كانون الثاني/يناير 2013. على الرغم من ذلك، نجحت الحركة في مقاومة التهويل ونظمت تجمُّعاً كبيراً في وَرڤلة بتاريخ 14 آذار/مارس الماضي، متجاوزة المناخ المتوتّر الذي افتعلته الاتهامات المساقة ضدها بتبييت «غايات انفصالية».
صحيح أنّ المسيرة ظلّت بعيدة عن أن تصل الى «مليونيةٍ» كما أرادت «التنسيقية الوطنية للدفاع عن حقوق العاطلين عن العمل»، إلا أنها تمكّنت من جمع أكثر من 10 آلاف شاب عاطل عن العمل، وهو ما شكّل إنجازاً لافتاً. وأكثر ما كان معبّراً، هو الرسالة الواضحة التي وجّهها المتظاهرون، وكأنها رد على الاتهامات المُساقة ضدهم من قبل الحكومة الجزائرية. وجاء في تلك الرسالة: «لسنا بانفصاليين».
وبطريقة لاذعة للغاية، ردّوا على التشكيك في وطنيتهم من خلال تنديدهم بـ«الفساد» وبالتواطؤ مع الشركات المتعددة الجنسيات. وردّد المتظاهرون: «سنناضل حتى سقوط الفساد»، و«يا للعار يا للعار، لقد باعوا الصحراء مقابل الدولار». وفي هذه المناسبة، شدّد المنسّق الوطني لـ«التنسيقية الوطنية للدفاع عن حقوق العاطلين عن العمل»، طاهر بلعباس، وهو قيادي صاعد يتعرّض لهجمة كبيرة من السلطة، على «الطابع الوطني والسلمي» للتحرك. وهذا الكلام ليس مجرد ألفاظ.

مؤشّر إلى الإحباط المتراكم

تنمو حركة العاطلين عن العمل في الجنوب، حيث تكمن الثروات النفطية والغازية (التي تشكل 97 في المئة من العائدات بالعملة الصعبة)، ورغم ذلك، لا يجد الشباب مجالات للعمل.
وإذا كان التأسيس الناجح لتنظيم للعاطلين عن العمل مفاجئاً، فإنّ واقع تركُّزه في الجنوب ينمّ في المقابل عن الإحباط المتراكم لدى الشباب القابعين في الظلّ، قريبين جداً من الحقول النفطية ــ الغازية. منذ تظاهرة 14 آذار/مارس في وَرڤلة، تحاول الحركة في الجنوب التمدُّد أو نقل تحركاتها إلى مدن جنوبية أخرى، مثل الأغواط والواد وغرداية. لا يتعلق الأمر بحركة انفصالية، بل بحركة وطنية في طور التشكُّل، وهي لذلك تمثل «تهديداً» للنظام.
وقد أشار الكاتب اليساري حسين بلالوفي في الموقع الالكتروني لصحيفة «لاناسيون»، إلى أن الحركة الوليدة في الجنوب تعبّر عن آمال ومطالب مئات الآلاف من الجزائريين الباحثين عن عمل يؤمّن لهم الكرامة والحياة اللائقة. وكتب بلالوفي أنّ هذه الحركة «قادرة على التطور والترسخ، واكتساب النضج والتماسك السياسي، وقادرة على أن تصبح مثالاً يُحتذى إلى جانب بقية فئات الحركة الاجتماعية... كما أن هذه الحركة قد تتراجع وتعيق نفسها بنفسها، بل حتى يمكنها أن تتقهقر، وهذا ما يتوق مَن يحاربونها لحصوله من خلال حملة الافتراء عليها ومحاولات ضرب استقرارها من داخلها أو من أطرافها بهدف دفعها إلى ارتكاب الخطأ، تماماً مثلما نجحوا في منطقة القبائل مطلع الأعوام 2000». من الواضح أنّه ليس على حركة العاطلين عن العمل أن تتوقع من السلطة ومن أجهزتها أيّ تعاطٍ إيجابي، ذلك أنّها وُلدت لتلفت الاهتمام إلى صعود الاحتجاجات في الجنوب، بسبب المواجهات العنفية لعقد التسعينيات، واستغلال مربح جداً للأمن ولتلزيمات أعمال إطعام عمّال حقول المحروقات ووسائل النقل في داخلها.
بين الخصخصة والهمّ الأمني، ظهر ميل لدى الشركات العامة أو الخاصة لنقل معظم أعمالها غير الرئيسية إلى خارج البلاد، لمصلحة تلزيم شركات داخلية تقوم بأعمالها بالوكالة عنها.
وقد بدأ ذلك أساساً في السياق العنفي المضطرب، من خلال نقل المهام الأمنية إلى شركات أمن خاصة يديرها ضبّاط سابقون. وتلت ذلك خصخصة قطاع المطاعم والنقل وتقديم الخدمات في الحقول النفطية. شركات التوظيف التي لا وجود قانونياً لها، تحوّلت إلى شركات لتأدية مهام بالوكالة عن أخرى... وتصفها حركة العاطلين عن العمل في الجنوب بأنها «استعبادية»، بسبب الفارق الشاسع بين الرواتب التي تدفعها فعلياً الشركات الأم للوكلاء، والرواتب التي تدفعها الشركات الوكيلة للعمال من جهة ثانية.
تكمن المشكلة في أنه، بسبب ارتباطات هذه الشركات الوكيلة بالنظام ــ الذي يتحدّرون منه ــ فقد بات تفاديها أمراً مستحيلاً. وأصبحت هذه الشركات، بفعل الأمر الواقع وبتجاهل للقانون، تحتكر ميدان توظيف العمال. وانطلاقاً من ذلك، غذّت هذه الشركات الاستياء المتنامي عند شباب الجنوب.
وتضع حركة العاطلين عن العمل في الجنوب، نصب عينيها وبطريقة مباشرة، انتقاد هذا الشكل من السيطرة التي وقعت في أعوام التسعينيات على الأعمال في الجنوب على يد رجال الأعمال المستفيدين من ارتباطاتهم بالنظام. وبحسب الصحافية في موقع «المغرب الصاعد»، (Maghreb Emergent)عائشة بوزيان، فإنّ «هذا النوع من الأعمال ظلّ سارياً حتى بدأت التشققات الأولى بالظهور فيه. أولاً، بحالات الخلل التي ظهرت في الإجراءات الأمنية، وتكرار الهجمات في الجنوب. ثمّ مع تظاهرات العاطلين عن العمل الذين تجرأوا على التنديد بالخروقات الصارخة للشركات الوكيلة التي تخلّت عن شباب الجنوب».
هل حركة العاطلين المتصاعدة من جنوب البلاد قابلة للتوظيف على يد القوى الخارجية؟ هذا الموضوع تستخدمه دعاية النظام بشكل متكرّر لمحاولة نزع المصداقية عن المعترضين. لكن حتى اليوم، برهن قادة الحركة عن روح مسؤولية لافتة. وبحسب المحللين، فليس هناك أي سبب للتشكيك بهم.
أما مصدر القلق الحقيقي في الجزائر، فهو ينبع من المدافعين عن حالة تكريس الوضع القائم، ومن النظرة الأمنية إلى التحركات الاجتماعية. وتطرح هذه التحركات، في سياق سياسي متهتك، وأُضعف بشكل كبير بفعل نزيف هجرة النخب الجزائرية في أعوام التسعينيات والألفين، تطرح مسألة التغيير السياسي والاقتصادي الحقيقيين.
وتمتلك السلطة القدرة للبدء بهذا التغيير، لكنها لا تبدو مدركة لحجم الغضب الشعبي، ولا لحجم ألاعيب القوى الأجنبية، بحسب استاذ جامعي جزائري. وعلى حد تعبيره، فإنّ «السودان ورث جغرافيا لم يحوّلها قادتها الى وطنٍ، وهو ما لا يمكن أن يتكوّن إلا من خلال الديموقراطية، لأنّ الديموقراطية وحدها تدمج.
على السلطة الجزائرية أن تتأمّل بالحالة السودانية. الجزائر متمكنة من جغرافيتها بفضل نضالها الوطني القاسي وذي الكلفة المرتفعة. ويبقى هذا النضال هو خميرة وحدة البلاد، بشرط عدم التفريط به. لا يوجد شيء حتمي، لكن على الذين يمسكون بزمام السلطة أن يفهموا أن النظام الجزائري ونمط إدارته للبلاد من خلال القمع والفساد، هما المصدر الحقيقي للتهديد المحدق بالجزائر، وليس العاطلين عن العمل. ليس منبع التهديد في الجنوب، بل هو السلطة نفسها".

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه