المرض الخطير للدولة الجزائريّة

بعد 15 يوما على غياب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي تم نقله إلى مستشفى باريسي إثر تعرّضه لجلطة دماغية "صغيرة"، تعب الجزائريون من متابعة أنباء مرض رئيسهم. انخفض بشكل ملحوظ اهتمامهم بالوضع الصحي لبوتفليقة. والصحف الجزائرية، المفترض بها تنوير الجزائريين بالشروح والمعلومات التي لم تصل إليهم يوماً، راحت تتثاقل حيال الشأن. وقد اعادت الصحف نشر الشائعات الاكثر جنوناً، وحرّكت الفكرة القائلة بأنّ
2013-06-12

الأخضر بن شيبة

كاتب من الجزائر


شارك
| en
(من الانترنت)

بعد 15 يوما على غياب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي تم نقله إلى مستشفى باريسي إثر تعرّضه لجلطة دماغية "صغيرة"، تعب الجزائريون من متابعة أنباء مرض رئيسهم. انخفض بشكل ملحوظ اهتمامهم بالوضع الصحي لبوتفليقة. والصحف الجزائرية، المفترض بها تنوير الجزائريين بالشروح والمعلومات التي لم تصل إليهم يوماً، راحت تتثاقل حيال الشأن. وقد اعادت الصحف نشر الشائعات الاكثر جنوناً، وحرّكت الفكرة القائلة بأنّ عائقاً يحول دون تطبيق المادة 88 من الدستور، التي تنص على أنّه إذا استحال على رئيس الجمهورية أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن، يُكلف رئيس مجلس الأمة بتولي رئاسة الدولة بالنيابة لمدة أقصاها 45 يوماً، بعدها يُعلَن الشغور بالاستقالة ليتولى عندها رئيس مجلس الأمة مهام رئيس الدولة لمدة أقصاها 60 يوماً، تنظم خلالها انتخابات رئاسية.
لكنّ الرأي العام لا يقاسم وسائل الاعلام حالة الهيجان، بل يلاحظ أنّ الأمور تجري، كما دائماً، خلف الستارة، وأنّ الشائعات والمقالات هي دائماً مجرد ستار دخاني لإخفاء ما يجري سرّاً.
ويترجم الفارق الموجود بين الرأي العام الجزائري والصحف تجاه هذه المسألة، "المسافة" التي يأخذها كل طرف منهما إزاء النظام السياسي الجزائري. بالنسبة للرأي العام الجزائري، يلاحَظ خصوصاً أنّ ما يُسمّى "النظام" السياسي يقاد آلياً، حيث لا يترك غياب بوتفليقة أو حضوره أي تأثير حقيقي عليه. ملاحظة تنبع من حسّ سليم في ساحة سياسية تمّ تجميدها بطريقة تسلّطية منذ عقدين من الزمن، بالتزامن مع تسلطية صارمة فرضتها الأجهزة الموالية. تقلص كثيرا نشاط الرئيس الجزائري، منذ الحادثة الصحية الأولى الذي تعرض لها عام 2005، حين نُقل إلى مستشفى "فال دو غراس" العسكري الباريسي ليخضع لعملية جراحية إثر تعرّضه "لنزيف قرحة في المعدة". هكذا، وفي ظلّ قلّة الظهور العام للرئيس، وتقليص اجتماعاته الرسمية مع مسؤولين أو مبعوثين أجانب إلى حدّها الأدنى، واجتماعات وزارية غير منتظمة، باتت الولاية الرئاسية الثالثة لبوتفليقة موسومة بالشلل السياسي بينما تسود حالة من الاعتراض الاجتماعي المتكرِّر. وتتيح الواردات النفطية الوفيرة لأعوام الألفين، التعامل ولو بشكل محدود مع هذه الوضعية، والحفاظ على الوضع القائم.
الستاتيكو
لا يزال النظام السياسي في الجزائر نظاماً تسلُّطياً حيث تؤمّن الرئاسة الزخم للعمل الحكومي وللسياسات العامة. غير أنّ هذا الزخم بات مفقوداً منذ عام 2005 على الأقل، وهو ما يفسّر بجميع الأحوال كيف أنّ الجزائر وقعت ــ بشكل خطير بحسب بعض التحليلات ــ في روتينٍ حيث تكتفي البنية التقنية الحاكمة، المؤلّفة من الإدارة والأجهزة الأمنية، بتسيير العمل، لكن من دون أن تكون قادرة على المبادرة. هكذا، يسمح توفُّر الموارد المالية بإدارة البلاد يوماً بيوم، من دون أي استراتيجية شاملة، بينما يتطوّر الوضع بسرعة في كامل مناطق الجوار، باستثناء المغرب. "يسمح توفُّر الموارد المالية لجماعات السلطة بالركون الى الستاتيكو، بدل الاستفادة من تلك الموارد من أجل إجراء التغييرات الضرورية. تفوّت الجزائر على نفسها فرصة جيدة لتغيير النظام من دون عنف ولا تدخّل خارجي"، بحسب وزير جزائري سابق. وإذا كان الرأي العام الجزائري لا يُبدي الكثير من الاهتمام لمرض الرئيس بوتفليقة، فإنّ ذلك يعود إلى القناعة بأن النظام ليس جاهزاً ليقوم بتغيِّر. "في أحسن الأحوال، سيتم إيجاد بديل للرئاسة، لكن ما الذي يغيره هذا؟ فخلف الستارة، سيواصل محرّكو الدُمى تحريك دُماهم"، وفق نقابي جزائري. هذا الشعور الذي يفيد بأنّ الأمور لا يمكن أن تتغيّر، يعزّزه الإضعاف المعمَّم للحياة الحزبية، والانسحاب الطوعي للشخصيات السياسية الأكثر تمتُّعاً بالمصداقية، ممّن لا يريدون المشاركة في هذه المسخرة. كما أنّ تلقّي الرئيس الجزائري علاجه في مستشفيات عسكرية فرنسية يثير أيضاً انتقادات مرّة حول "إفلاس" النظام الذي لم يتمكّن حتّى من خلق بُنى صحيّة قادرة على الاعتناء بطبقته السياسية الحاكمة. ويرى كثيرون في هذه الإشارة تعبيراً كاملاً عن إفلاس النظام الجزائري. كما أنّ الشعور بالفشل يعزّزه واقع أنّ المسؤولين الفرنسيين الرسميين ملأوا الفراغ الموجود في التواصل الاعلامي الرسمي الجزائري حيال الوضع الصحي للرئيس، وهو التواصل الإعلامي الذي يحتكره عملياً سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس. هذا المسلسل الباريسي الذي يبدو وكأنّه لا نهاية له، يزيد الطين بلّة في ما يتعلق بفقدان المصداقية بالنظام القائم.
شركة مساهِمة
يشكّ الرأي العام الجزائري بأنّ الانتخابات الرئاسية المقبلة التي يفترض أن تجري في ربيع العام 2014 بحسب المواعيد الدستورية، قادرة أن تشكّل مناسَبةً لتغيير نوعي. أما الصحافة المتنازعة بين وطأة مواكبة الأنباء الطارئة للأحداث، والاحتكام الى تفضيلات كل واحدة منها بين الكتل، فتشعر بأنها معنية أكثر من سواها. وتشكّل هذه الصحافة جزءاً من النظام، حتى أنها تؤدّي دور البديل لحياة سياسية حقيقية. وهي ساحة لمناورات وللتطويع ولبالونات الاختبار. مع ذلك، يبقى مرض بوتفليقة مسألة مهمة في حياة النظام، إذ إنه يضع حدّاً للحديث عن ولاية رئاسية رابعة للرئيس الحالي، وهي المعركة العنيفة التي كان المقرّبون من بوتفليقة يقودونها في وجه مجموعات أخرى من النظام. من الآن فصاعداً، لن يظلّ أحد يصدّق سيناريو إمكانية تولّي الرجل المريض ولاية رئاسية رابعة. باتت هذه الرواية قصّة قديمة. النقاش المكتوم اليوم في صميم النظام، والذي يُعَبَّر عنه من خلال التعليقات الصحافية، يدور حول مسألة ما إذا كان بوتفليقة قادراً على الاستمرار حتى نهاية ولايته الحالية، أي حتى نيسان/أبريل 2014.
الخلافة؟
لقد فُتح الباب لخلافة بوتفليقة، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنّ الانتخابات المقبلة، أكانت ستجري عام 2014، أم قبل ذلك في حال تأكُّد عجز الرئيس عن مواصلة تأدية مهامه، ستكون مفتوحة. أصبح اختيار الرئيس المقبل مسألة ثانوية بالنسبة للمجتمع الجزائري، لكنه قرار شديد الأهمية بالنسبة لنظام تحكم قبضتها عليه أجهزة الاستخبارات والجيش، وقوى المال التي تزداد هيمنتها أكثر فأكثر.
من أجل إيجاز وضع النظام الجزائري، يمكننا القول إنّ رئيس الجمهورية الذي يتمتّع على الصعيد الرسمي، الشكلي، بسلطات شبه ملَكيّة، هو واجهة لنُظْمة سلطوية غير رسمية وغير ممأسسة. رئيس يتمتع بسلطة كبيرة، لكنه في الوقت نفسه لا يستحوذ على كامل السلطة.
غالباً ما يلعب الجزائريون على الكلام فيستخدمون المصطلح الشائع (SPA) شركة مساهمة، وفي الوقت نفسه الاحرف الاولى من "شركة السلطة الجزائرية". فالرئيس يملك رسميا 100 في المئة من الأسهم، لكنه في الواقع يتشارك فيها معه مساهمون آخرون. ويخلق هذا النظام الرسمي / غير الرسمي عقليّة من انعدام المسؤولية، ذلك أنّ "الصفقات" الرئاسية لا تتأسس على عقد شفّاف بين رئيس الدولة والناخبين، بل على سمسرات بين شخصه، وما يُسمّى "السلطة الحقيقية".
عند الاقتراب من كل انتخابات جديدة، يُطرَح السؤال الاعتيادي نفسه: هل ستكون انتخابات مفتوحة أو مُغلقة؟ حتى اليوم، جميع الانتخابات الرئاسية كانت مقفلة، إذ أنّ الممسكين بالسلطة الحقيقية، لا الناخبين، كانوا يختارون الشخص الذي سيصبح رئيساً. لقد وصل نظام التعيين هذا إلى نهايته منذ زمن طويل، لكن تمّ التمديد له بفعل حرب أهلية في سنوات التسعينات من القرن الفائت، قضت على النخب، وبسبب رخاء مالي في سنوات الألفين سمح بـ"تهدئة" الضغوط الاجتماعية.
بالنسبة للكثير من الجزائريين، فإنّ مرض بوتفليقة أقل خطراً من مرض الدولة الجزائرية. البلاد بحاجة للتفاوض حول عقد اجتماعي وسياسي جديد في سياق دولي ينذر بالخطر، وخصوصاً في ظل آفاق اقتصادية تكتسب قتامة بالنسبة لبلد غازيّ أكثر مما هو نفطيّ. لقد وصلت الجزائر إلى نقطة الذروة من ناحية ثرواتها الطبيعية، أما آفاق تحسين إنتاجها من الطاقة (نفط وغاز) فهي حتى اليوم ضعيفة. تسير أسعار الغاز، التي تمثل جزءاً مهماً من عوائد الجزائر من ثرواتها الطبيعية، في مسار انحداري، وتتكرر إعادة النظر بالعقود الموقّعة لآجال طويلة، والتي تسمح بتأمين استقرار العائدات المالية. لقد اندلعت أزمة أعوام التسعينات والتخبط في الحرب الأهلية، بعد تدهور الموارد المالية النفطية في منتصف أعوام الثمانينات، ومرور البلاد في تجربة وصْفات صندوق النقد الدولي. اليوم، نجد مكوّنات الأزمة المقبلة، متوفرة، على الرغم من ضخامة احتياطي الصرف المتوفِّر (200 مليار دولار). أنّ الأزمة المقبلة ستكون أسوأ من أزمة أعوام التسعينات، وإن بشكل مختلف.
بالطبع، لا تملك الجزائر تنظيماً سياسياً "بديلاً" بسبب تدمير القوى السياسية على يد الأجهزة الأمنية. لكنّ الأجهزة السياسية للنظام لا تتمتع بدورها بالمصداقية. النظام قادر على إيجاد بديل لبوتفليقة ــ والمرشحون الافتراضيون عديدون ــ لكن ذلك لا يقدّم أفقاً حقيقياً للبلاد ما لم يكن تغيير الرئيس مصحوباً بتغيير شامل. لكنّ أحد علماء السياسة الجزائريين يختصر كلامه على الممسكين بزمام النظام بالقول: أنا لا أرى فيهم رجلا رشيدا.

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه