فرانز فانون.. الرجل الذي يسائلنا دائماً

"آه يا جسدي، اجعل منّي انساناً يسائل دائماً!". كانت تلك إحدى آخر العبارات لرجلٍ يسائل دائماً... رجل يسائلنا دائماً! بعد أكثر من 50 عاماً على وفاته، في السادس من كانون الأول/ديسمبر 1961، قبل بضعة أشهر من اتفاق وقف إطلاق النار في حرب الجزائر (19 آذار/مارس 1962)، الذي مهّد لاستقلال البلاد، لا يزال فرانز فانون يسائل الجزائريين والأفارقة، ويزوّدهم بالأدوات والمفاتيح المناسبة لتفكيك رموز
2012-12-26

الأخضر بن شيبة

كاتب من الجزائر


شارك

"آه يا جسدي، اجعل منّي انساناً يسائل دائماً!". كانت تلك إحدى آخر العبارات لرجلٍ يسائل دائماً... رجل يسائلنا دائماً! بعد أكثر من 50 عاماً على وفاته، في السادس من كانون الأول/ديسمبر 1961، قبل بضعة أشهر من اتفاق وقف إطلاق النار في حرب الجزائر (19 آذار/مارس 1962)، الذي مهّد لاستقلال البلاد، لا يزال فرانز فانون يسائل الجزائريين والأفارقة، ويزوّدهم بالأدوات والمفاتيح المناسبة لتفكيك رموز الحاضر.

وقد نظّمت السلطات الجزائرية، لمناسبة مرور 50 عاماً على رحيل فانون، احتفالات وندوات اقتصرت على طابع ماضوي، وكأنّ الهدف من ذلك هو تفادي النظر إلى الحاضر بعيون فانون. كل ذلك لأنّ ذلك الماضي، الذي كان فانون موجوداً فيه جسدياً كمحارب من أجل استقلال الجزائر وأفريقيا، وكمجاهد، يقاتل من أجل الحرية والعدالة، هو ماضٍ مجيد. إنّ النصوص التي تركها لنا ذلك الرجل الذي رحل وهو لا يزال يافعاً، عشية استقلال الجزائر، هي كناية عن تفكيك ساخط ومتبصّر لنظام عالم ظالم وبربري، ودفاعٍ عن الروح الثورية. ولكن، بإمكاننا العثور على خلاصات ورؤى تحليلية منتشرة في جميع كتاباته حول تطور مراحل ما بعد الاستقلال، المهورة بالتنكر وبإعادة إنتاج النظام القديم مع خدم جدُد في البلدان الخاضعة سابقاً للاستعمار. إنها جوانب في فكر فانون تثير الاضطراب، وهي تمثل حدساً تحليلياً ينير حاضراً هو أحياناً كارثي، حيث تمّ اختصار إنجازات الاستقلال بالمظاهر، ولا يزال تحرير الانسان مهمة تنتظر التحقيق.

يميل خدم النظام القائم، في الجزائر وخارجها، إلى سجن فانون، ذاك الذي لا يتوقف عن طرح الأسئلة، في إطار إحياء ذكرى "تاريخية" بهدف محو الطاقة النقدية والتحريضية التي يختزنها. يميل هؤلاء إلى "تحنيط" فكر مُزعج للنظام القائم. بالنسبة للأشخاص الذين لم يفارقوا أبداً فكر فانون، ولا يزالون يستعيدون نصوصه بشكل دوري، فإنّ راهنيته ليست بالأمر المفاجئ. فبعد مرور 50 عاماً على وفاة فانون، لا تزال الدول الأفريقية المستقلة والعالم العربي والجزائر وأفريقيا، بعيدين عن أن يكونوا جنَّات. وخلف أعلام الاستقلال، لا تزال القضايا التي تخترق بحيوية ساخطة نصوص فانون، راهنة جدّاً اليوم: النهب والاستلاب والظلم وسحق النساء والرجال على أيدي المتنفّذين، جميعها مسائل لا تزال حاضرة بقوة. ليس فكر فانون شهادة عن الماضي فحسب، بل هو يفيدنا عن الحاضر أيضاً. إنه يفيدنا عن عالم تطوّرت بُناه من دون أن تتغير بشكل جذري، خصوصاً في البلدان التي كانت خاضعة للاستعمار. نفهم بسهولة لماذا يحاول الممسكون بزمام النظام القائم في "المستعمرات السابقة"، تحييد فرانز فانون من خلال حصره في "التاريخ". هذا الرجل لا يزال يطرح الأسئلة، وجيل الشباب الذين يتبنّون الميراث الحي لهذا الثائر الذي لم يساوم يوماً، ينكبّون بالضرورة، ومن دون رحمة، على النقر في القشرة الرقيقة التي تغلف الدول المستقلة المزهوة بأعلامها الخاصة، وذلك بهدف الكشف على استمرارية نظام الهيمنة والاستغلال والظلم. لقد تحوّلت استقلالات الدول الأفريقية إلى مجرّد أوهام بعدما تم تحوير النضالات من أجل التحرير إلى إعادة إنتاج "مكيَّفة" للنظام القديم.

ولهذه الأسباب، يستحيل سجن فانون، الذي غادرنا بشكل باكر جداً عن عمر لم يتجاوز ال36 عاماً، بعدما ترك لنا كتابات لا تشيخ... يستحيل سجنه في متحف الأفكار. وقد شاهد فانون في تونس، حيث كان ينشط في صحيفة الثورة الجزائرية، "المجاهد"، في الخطوات الأولى لجمهورية بورقيبة، المآل الذي ستنتهي إليه الدول المستقلة وإعادة إنتاج الحقبة النيو - كولونيالية فيها.
"إنّ البورجوازية الوطنية التي تتسلّم السلطة في نهاية النظام الكولونيالي، هي بورجوازية متخلّفة. وقدرتها الاقتصادية تكاد تكون معدومة، وهي بجميع الأحوال لا تقارن بقدرات البورجوازية في بلدانها الأم، والتي تفترض أنها يمكنها الحلول مكانها. لقد اقتنعت البورجوازية الوطنية سريعاً، بسبب نرجسيتها الإرادوية، بأنها قادرة بسهولة على الحلول مكان البورجوازية في البلدان الأم. لكن الاستقلال الذي يضعها حرفياً أمام مواجهة الصعوبات، سيثير داخلها ردود فعل كارثية، وسيرغمها على إطلاق نداءات قلقة باتجاه بلد المستعمِر القديم. (...) هذه البورجوازية موجَّهة بكاملها نحو نشاطات وسيطة. ويبدو أن مصيرها لا يتجاوز التواجد في حركة النظام (العالمي) وفي التركيبات. البورجوازية الوطنية تتصرف وفق نفسية رجل الأعمال وليس كقباطنة الصناعة...".

بقراءة هذا الجزء من فصل "سوء طالع الوعي الوطني" من كتاب "المعذبون في الأرض" المنشور عام 1961، وهو العام نفسه الذي شهد وفاته، وبينما كانت حقبة الاستقلال لا تزال "طازجة"، يأخذنا عمق التوقعات التحليلية. وبعد مرور نصف قرن على استقلال الدول المستعمَرة، تبدو الحصيلة كارثية: يعاد النظر بالاستقلالات. والغربيون، ومعهم ذراعهم العسكرية، أي حلف شمال الأطلسي، يتدخلون بانفسهم من أجل السيطرة المباشرة على الموارد (العراق وليبيا)، والشعوب لم تتحرر من القمع الذي كان يستلبها ولا من البؤس والظلم ومن تركِها لمصيرها. لا تزال المجتمعات محرومة من دولة يليق بها هذا المصطلح. ومثلما توقّع فانون، أخذت النخب تتحوّل غالباً إلى دور مساعد وخادم للاستعمار الجديد.

لكن إعادة قراءة فانون لا تقتصر على كونها وسيلة لاستنتاج الخلاصات النقدية، فهي، في زمن الانحسار النضالي، دعوة للفعل ولإعادة تزويد الاستقلال عن الاستعمار مضموناً سياسياً يتعلق بالمواطنة والعدالة الاجتماعية والحريات. ويقول فانون "إن تحرير الانسان لا يتبع التحرير الوطني. ويستحيل إنجاز تحرير وطني أصيل إلا بمقدار بدء الفرد رحلة تحرير نفسه بطريقة لا عودة فيها إلى الخلف". يتعلق الأمر بالخروج من كاريكاتور الاستقلال الشكلي، وإعطائه مضموناً سياسياً وإنسانياً. وبينما انتهى الأمر بالنخب الرديفة إلى التشكيك بالاستقلال الرسمي، فإنّ رسائل فانون هي نداءات للدفاع عن الحريات العامة والخاصة، وعن أولوية المصلحة العامة، والتخفيف من التفاوتات الاجتماعية، ولمساءلة المنتخَبين وسيادة القانون. كل ذلك لأنّه بالنسبة لفانون، ليس هناك حتمية للفشل. والمأساة والعذابات ليست نمطاً اجبارياً لحياة شعوبنا، بل هي قادرة على اختراع سعادتها، خلق تلك السعادة. وهذه رسالة أخرى من رسائل فانون.

بعد كل ذلك، كيف يمكننا ألا نشعر بالحضور القوي لمثل هذا الرجل المحب للغاية، والممتلئ أملاً! "يجب ألا تتحكم الآلة يوماً بالانسان. ويجب أن يزول استعباد الانسان للانسان إلى الأبد، أي استعبادي أنا من قبل شخص آخر. فليُسمَح لي باكتشاف الانسان أينما وُجد، وبالشوق إليه".

لقد رحل فانون باكراً جداً. استقلالنا المحوَّر يفتقده. وخلال صراعه الأخير مع المرض، أطلق عبارة أخيرة جمالها مؤثِّر: "آه يا جسدي، اجعل مني شخصاً يسائل دائماً!"، وها هو لا يزال يسائلنا دوماً. فانون شقيقنا... إنه ينيرنا في هذه الأوقات المرتبكة.

    
   
 

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه