أيّـــامٌ أهـــدأ مـمـــا يـنـبـغــي فـــي الجـــزائـــر

بعد حوالي أربعة أشهر على تنظيم الانتخابات التشريعية في الجزائر، في 10 أيار/مايو 2012، عيّن عبد العزيز بوتفليقة رئيساً جديداً للحكومة، هو عبد المالك سلاّل الذي كان يشغل منصب وزير الموارد المائية. وقد استفاد الرئيس الجزائري من المناسبة لإبعاد بعض الوزراء غير الشعبيّين، وللقيام ببعض التبديلات في الحقائب. لم يحمل الأمر شيئاً استثنائياً في الجزائر «الهادئة» بنظر السلطة، لكنها وبالنسبة
2012-09-19

الأخضر بن شيبة

كاتب من الجزائر


شارك
| en
الجيش في الجزائر ركيزة السلطة

بعد حوالي أربعة أشهر على تنظيم الانتخابات التشريعية في الجزائر، في 10 أيار/مايو 2012، عيّن عبد العزيز بوتفليقة رئيساً جديداً للحكومة، هو عبد المالك سلاّل الذي كان يشغل منصب وزير الموارد المائية. وقد استفاد الرئيس الجزائري من المناسبة لإبعاد بعض الوزراء غير الشعبيّين، وللقيام ببعض التبديلات في الحقائب. لم يحمل الأمر شيئاً استثنائياً في الجزائر «الهادئة» بنظر السلطة، لكنها وبالنسبة لمراقبين آخرين، تعيش «تعطلاً خطيراً».
«الحكومة الجديدة» شبيهة للغاية بسابقتها، حتى أنّ ولادتها لم تُعتَبَر حدثاً بالنسبة للرأي العام الجزائري. ولكن ذلك لم يمنع المراقبين من دق جرس الانذار: النظام الجزائري، شأنه شأن أنظمة عربية أخرى، لا يدرك الضرورة «الوطنية» للإصلاح، والمصلحة التي تكمن في تفادي أن يفرض هذا الاصلاح من الخارج، أو أن يتم توظيفه من قبل الخارج. لقد بات لدى الجزائر رئيس حكومة جديد، هو منتَج حقيقي للإدارة الجزائرية، من دون أن يُعرف عنه أي انتماء حزبي أو أي «قناعة سياسية» محددة. سلاّل (64 عاماً)، الذي أدار في العام 2004 الحملة الرئاسية للسيد عبد العزيز بوتفليقة، أملس تماماً، لم تُعرف عنه أية نتوءات، لدرجة أن أفضل الصحافيين الجزائريين اكتفوا بالإشارة إلى حسّ الفكاهة الذي يتمتع به الرجل، وميله لسرد «نكتة اليوم».
مسيرته الطويلة (كان والياً ـ أي محافظاً ـ ثمّ سفيراً فوزيراً) تضعه في خانة الموظفين الذين يواكبون بهدوء جميع العهود، من دون أي تمييز بينها. الرئيس الجديد للحكومة يفتقد للمضمون والكثافة السياسيين، حتى أن وسائل الاعلام المحلية أولت اهتماماً أكبر برئيس الحكومة المغادِر، أحمد أويحيى، وهو «موظف» سياسي آخر، لكن درجة امتلاكه للمضمون أكبر، بسبب قربه المعروف من المؤسسة الأمنية الجزائرية. هل أنّ ترْك أويحيى منصبه كان نهاية لمسيرته السياسية، أو هو انطلاقة التحضيرات لخلافة بوتفليقة الذي يُفترَض أن ينهي ولايته في العام 2014؟
أحمد أويحيى هو الشخصية المدللة بالنسبة لمسؤولي «الأجهزة» (الأمنية). ولو عاد القرار إليهم، فإنه سيكون الرئيس المِثالي: رجل قاسٍ يطبق القرارات من دون أي تردد، وهو قادر على تغيير مواقفه بشكل جذري بين ليلة وضحاها إذا طلب منه «النظام» ذلك. إنه بيروقراطي صرف، وهو ليس بالطبع رجلاً عقائدياً أو رجل قناعات. لقد وافق أن يكون غير محبوب شعبياً، وذلك منذ وُضعَت أقدامه في سرج السلطة، خلال عهد الرئيس الجنرال اليمين زروال في منتصف التسعينيات، في سياق الحرب الأهلية.

رئيس ومقرّرون

انعدام الشعبية تلك تقلّل من احتمالات تنصيب أويحيى على يد الجهاز الأمني الذي لا يزال يلقي بثقله على اللعبة السياسية. «النظام» (مثلما يسميه الجزائريون)، لا يزال يرفض التغييرات المؤسساتية التي من شأنها أن تؤدّي إلى تجيير السيادة فعلياً للشعب، ولا تزال الوصاية مفروضة، والقرارات السياسية الكبرى والاستراتيجية تُتّخَذ خلال مباحثات لا تنتهي بين رئيس الجمهورية و«المقررين الكبار»، ومن بينهم العسكريون، ومعهم وبشكل يزداد وضوحاً، القوى المالية المتحدّرة من النظام نفسه. لكن أحد آثار الحرب الأهلية لأعوام التسعينيات، التي تسبب بها إيقاف المسار الانتخابي لمنع وصول «جبهة الانقاذ الاسلامي» إلى السلطة آنذاك، هو أن «أصحاب القرار» يجب أن يحرصوا على الإيحاء بإضفاء المصداقية على قرارهم. لذلك، سيكون فرْض أحمد أويحيى كرئيس للجمهورية، برغم انعدام شعبيته الجليّ، بمثابة ضرب من استخدام القوة. فهل، بعدما ترك منصب رئاسة الحكومة، سينجح أحمد أويحيى بالمهمة «شبه المستحيلة» القاضية بتغيير صورته السلبية إلى هذه الدرجة؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه بعض من وسائل الاعلام الجزائرية بعدما اكتفى بالحديث عن «الظُرف» المفترض لرئيس الحكومة الجديد.
حرص النظام على إظهار الانتخابات التشريعية وكأنها أكثر أهمية من ثورة الاول من تشرين الثاني/نوفمبر 1954، وكأنها أيضاً وسيلة لمواجهة التدخلات الخارجية. محللون أكثر دقة رأوا في التغيير التجميلي المتمثل بتبديل رئيس الحكومة، إشارةً مُقلقة إلى الشلل السياسي في البلاد. فـ«أصحاب القرار» يدركون بشكل وثيق ضرورة القيام بالإصلاح. لكن، بما أن أيّاً من أجنحة النظام لم ينجح في فرض هيمنته على الآخرين، فانعدام القرار وإبقاء الأمور على أحوالها يبقى السائد. و«اللاقرار» ذاك بات ممكناً بفضل الارتياح المالي النسبي الذي تعيشه الجزائر (تملك احتياطاً مالياً يقدَّر بحوالي 200 مليار دولار، يضاف إليه 70 مليار دولار متوفرة في صندوق إدارة الواردات). يسمح هذا بـ«شراء» سلامٍ اجتماعيٍ نسبي، مقابل ثمن توسيع المصاريف العامة، وهو ما دفع بالمصرف المركزي الجزائري إلى التحذير من التمادي في هذا السلوك. إذ سيكفي أن تنخفض أسعار النفط تحت عتبة الـ 100 دولار للبرميل لكي يختلّ التوازن في الموازنة العامة. لكن، وبجميع الأحوال، تعيش الجزائر حالياً انعداماً في التوازن، وهي تلجأ للاحتياط لتمويل العجز. غير أن سعر النفط يبقى في المستوى المقبول للسماح بالصمود.

عوامل الجمود

عامل آخر يؤدي إلى «الجمود»، والقناعة بأن الجزائر لن يتم التعامل معها على طريقة التعاطي مع سوريا، يُختصر بالوضع في منطقة الساحل. فقد أدى التدخل العسكري الغربي في ليبيا إلى تشجيع تدفق رئيسي للسلاح والمقاتلين نحو الساحل، وهو ما تسبب بانعدام حاد للتوازن. وقد هُزم الجيش المالي في شمال البلاد على يد مجموعة من المتمردين الاسلاميين الطوارق (أنصار الدين)، المتحالفة مع مجموعات سلفية جهادية: «القاعدة في المغرب الاسلامي» و«حركة التوحيد والجهاد في غرب افريقيا».
تثير هذه الامارة الاسلامية الجديدة القلق في المنطقة وفي الغرب أيضاً. يشدد جميع المسؤولين، أكان في أفريقيا أو أوروبا أوالولايات المتحدة، على «أهمية» دور الجزائر. ويقول عدد من هؤلاء علناً إنهم يتوقعون أن يقوم الجيش الجزائري بالذهاب إلى شمال مالي لفرض الأمن هناك. وتثير هذه الدعوات الذعر لدى الكثير من المحللين الجزائريين، ممّن يخشون زجّ الجيش الجزائري في صراع يمكنه أن يتحول إلى رمال متحركة. لكن، وعلى الصعيد الجيوبوليتيكي ــ وهذه على الأقل القراءة المنتشرة في أوساط السلطة ــ فإنّ الوضع السائد في منطقة الساحل يجعل من النظام الجزائري نظاماً لا يمكن تجاهله. بالتالي، ليس هناك بنظر السلطات الجزائرية، «ضرورة ملحة» للمباشرة بالإصلاح. وقد أظهر النظام الجزائري هذا الأمر عبر تمضيته أربعة أشهر طويلة للوصول إلى تغيير حكومي تجميلي تماماً. ويعلم الجميع في الجزائر، لماذا لن يتمكن عبد العزيز بوتفليقة من فعل ما فعله الرئيس المصري محمد مرسي مع جنرالات الجيش. فبوتفليقة لا يأتي من صفوف المعارضة، ولم يصل إلى الرئاسة بفضل ميدان تحرير جزائري كان من شأنه أن يعطيه الوسائل الكفيلة بضبط دور الجنرالات. غالباً ما يتخبط المحللون، في الغرب تحديداً، في افتراضات غير قابلة للبرهان حول موضوع التوازنات بين بوتفليقة والمؤسسة الأمنية. ولدى هؤلاء ميل لرؤيتها كحالة صراعية، في حين أن الطرفين في حالة من التناضح أو التداخل الدائمين.

هدوء خادع

من وجهة نظر المؤسسة الأمنية، يؤدي بوتفليقة «عمله» في «الحفاظ» على النظام، والحد من التنازلات المطلوب تقديمها للمجتمع... ولو على حساب تقديم هذه التنازلات للقوى الخارجية (باتت الجزائر عملياً غير موجودة على الساحة الدولية) وللشركات الأجنبية. ولم يعد المجتمع الجزائري، المنهَك بفعل الحرب الأهلية لعقد التسعينيات، يمتلك كوادر تنظيمية مستقلة تتم محاربتها بشكل دائم ـ ليتمكن من بلورة البديل. الحركات الاحتجاجية العديدة تعبّر عن نفسها بطريقة غير منظمة وعبر العنف والشغب. وهي لا تشكل، من زاوية سياسية، تهديداً للنظام. تعيش الجزائر إذاً في ظلّ تشابك عوامل ـ يمكن لها أن تتغير ـ تبقي النظام في وهْم «الأيام الهادئة». الأشخاص الأكثر تبصراً وتعقلاً يجدون في هذا الوهْم علامة مقلقة عن نظام معطَّل لم يعد قادراً، بنيوياً، على إصلاح نفسه. نظام يوشك بأن يسمح بفرض هذا الاصلاح عليه من الخارج.
في الجزائر العاصمة، كثيراً ما يشير محللون إلى أن سوريا اليوم هي جزائر الأمس، من دون التدخل الخارجي المكثف لصالح المعارضين. وقد علّق ضابط قديم في الأجهزة الأمنية الجزائرية، محمد شفيق مصباح، على التغيير الحكومي الأخير لافتاً إلى أنّ «الأزمة تكمن في نظام الحكم، وليس في تأليف الحكومة». ويحذر الموقع الالكتروني المعارِض، «الأمة» (la Nation)، من «عقم الخيال الذي أُرخى بشكل مستديم بظلاله لدى النظام» وكذلك لدى معارضيه. الجزائر «اهدأ مما ينبغي». ومن شأن هذا الهدوء الخادع أن ينبئ بغدٍ صاخب.

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه