افتتح شارع اسكندرون عام 1883، بعد سنة على إنشاء حي الجميلية الذي نسب اسمه إلى اسم الوالي جميل باشا. سمي الشارع بهذا الاسم لكونه بداية الطريق إلى مدينة اسكندرونة. بدايته اليوم من القصر الذي اتخذته "جمعية العاديات" (أسست عام 1924) مقراً لها، متجهاً نحو شارع الملك فيصل الأول، ثم ينعطف باتجاه حديقة السبيل ويمتد إلى قرية "حريتان" أول قرى المدينة نحو الشمال الغربي. اتخذه الحجاج فيما مضى طريقاً للسفر إلى ميناء اسكندرون، ليبحروا بعدها بالسفن البخارية نحو ميناء جدة. بنت البلدية في 1893 قصراً جديداً خصصته لسكن ولاة حلب، تحول بعد ذلك لدار المعلمات وأطلق عليه اسم الطالب الأزهري سليمان الحلبي الذي قتل الجنرال الفرنسي كليبر قائد الحملة الفرنسية على مصر والمشرق العربي، بعد عودة نابليون مهزوماً إلى فرنسا. وكانت الدار تابعة لمدير المكتب السلطاني (ثانوية المأمون الآن)، قبل أن تتحول إلى مدرسة التجهيز للبنات، ثم إلى ثانوية معاوية. وبدأ أعيان المدينة أثناء ذلك بالانتقال من داخل أسوار المدينة، وتشييد بيوتهم وفق النمط المعماري الحديث في حي الجميلية، أولهم كان مرعي باشا الملاح الذي بنى قصره في الطرف المقابل لقصر ولاة المدينة.
***
يظهر الشارع العريض والأزقة المتفرعة عنه كاختزال لعدد من الأسواق المفقودة. يتوضع الباعة في جغرافيا محددة، بما يشبه الأسوار، كأنها إقطاعات مغلقة، مرسومة بقوة لا ــ مرئية..قسم لباعة الخضار والفاكهة والمنتجات الحيوانية، وقسم للألبسة والأحذية والجوارب، وآخر للأدوات الكهربائية المستحدثة كالشواحن والبطاريات.
أمطرت السماء بالمظلات تقاوم زخات مطرها، وبالجزمات المطاطية العالية، تخوض في سيولها السوداء التي تجرف أقماع الفستق وعبوات المياه الغازية ولطخ الدم المتبقية كأثر مخذول من قتلى القذائف، وتجرف الدموع التي نفرت على زوايا الأزقة المفضية إلى هذه الجادة، على المضرجين بدمائهم، والحازمين حقائبهم، والذين خرجوا ولم يعودوا. مطر يهرول العابرون تحت زخاته. يحمي الباعة بضائعهم بالنايلون. ينادون على بضائعهم بأصوات تمزق غلالة الأفق المسكون بالحذر والترقب، ذاكرين محاسنها، حاجبين مساوئها.. لا تعيق السبحات الطويلة البارزة بين الأكف المضمومة، الغش بنوعيات الأطعمة وأوزان البيع، كما لا يجدي دق الأكف المنبسطة على الصدور كطريقة في تأكيد كفالة الجودة.
يضج المشترون من ارتفاع الأسعار، ويذكرهم الباعة على الفور بما يعرفونه كانقطاع الطرق وطولها وتعثرها، وبعض باعة المعدات الكهربائية والإلكترونية يأتي على ذكر ارتفاع الدولار، ويسعّر بضاعته وفق سعره اللحظي.. لكن ما يعرفونه ويتجاهلونه، أن المتسوقين يريدون إطعام أولادهم فحسب، ومعظمهم عاطل عن العمل ونازح يدفع أجوراً مرتفعة للسكن ولشراء الكهرباء والمياه، ولم تعد تهمهم الأطعمة الفاخرة المثقلة باللحوم، المزينة بالمكسرات الطرية المحمصة بالسمن، المطعمة بتوابل بلاد الهند. يريدون أطباقاً من البرغل المتقشف والخضار المسلوقة. ينادي باعة الخضار بأصوات لاهبة على الملفوف والسبانخ، ويذكّر باعة السمك بفوائده. يعرض أصحاب البسطات على النساء العابرات جوارب النايلون بعد أن يمطّوها لامتحان جودتها، فتظهر كحبال الغسيل، ويهرع صغارهم خلف عابرات أخريات، عارضين عليهن ألبسة داخلية، تظهر كشبك صيد الأسماك.
- هل هذا شارع اسكندرون، يسأل العجوز .
- هو ذاته.
ويتابع، وهو يحدق في العابرين مع أوراق معاملاتهم الحكومية.
- أيؤدي هذا الشارع إلى الإسكندرون، كناية عن لواء اسكندرون، الإطلالة البحرية الدائمة لولاية حلب؟
- لا، هذا الشارع يُذّكر بذاك اللواء فحسب الذي اقتطعته السلطة التركية عام 1939 بتواطؤ مع سلطة الانتداب الفرنسي.
- إلى أين يؤدي إذاً؟
- إن كنت متجهاً من بدايات حي الجميلية نحو الجنوب، ستصل إلى مبنى المحافظة وفرع الهجرة والجوازات الجديد، وإن كنت متجهاً من حي الإسماعيلية نحو الشمال، ستصل إلى سكة القطار، ليرتفع بعدها أمامك المبنى الشاهق للمؤسسة العامة للسكك الحديدية.
- حذار من سرقة محفظة النقود.
- لا نقود في محفظتي ذات قيمة تستوجب السرقة.
لم يعد أحد يكترث بإخفاء محفظته، يتركونها في أماكن ظاهرة، أو تتلهى بين أصابعهم، مستبدلين مكانها العميق تحت ثيابهم بمحفظة الحنين إلى طمأنينة تسدل ستائرها على أوجاعهم وتهدهد إغفاءاتهم.
- وكأنه لم يعد أحد يسرق في الليل.
- وما سرقات الليل إلا كذبة ابتكرها اللصوص ليحرمونا النوم ويدفعوننا لاستئناس كلاب الحراسة والاستعانة بها. في النهار يسرقون، بينما يرفلون ساعات الليل بين نعيم مسروقاتهم.
- هل سيعود لواء اسكندرون؟
- من يسرق بلد لا يعيده.
شارع وسنان، بأحجيات عتيقة لما تزل تتضوع عطورها المسكرة.. قصر الوالي جميل باشا ومتمماته من قصور مترفة لأعيان المدينة، زاوية للعمارة الباذخة التي شغل طابقها الأرضي المصور ديكران منذ عام 1958.. وسينما الفاروق التي تحولت إلى مطعم لبيع الفلافل ثم إلى مقهى متقشف لا يتناسب قط مع اسم "قصر يلدز" الذي اختاره أصحابها، ثانوية معاوية للبنات التي خرّجت أجيالاً من الشابات المأخوذات بآمال باتت تتضرع خجلاً، وعلى مقربة منه تعالت الموسيقى والغناء من حدائق الأزبكية بأصوات "فيروز ماميش" و"فتحية أحمد" و"ناجية الشامية" حلَّقن بتخوتهن الشرقية إلى السماوات. ربما لم يكن أيامها ما يدعو إلى الفرح الصاخب، لكن ما انفك أهل المدينة يغربلون الوقائع المؤسية لينتزعوا منها انفراجة خافقة يرمموا بها حيواتهم المهشمة.
استيقظ الشارع بعدها راعفاً، ليجد ذاته في سبخة مدينية تجرده من قيمته وقيمه، وتتركه مرمياً في عراء اللفظيات التحررية التي حجبت ما وارءها من اندفاع ضارٍ نحو الامتياز والاحتكار.
***
يعملون اليوم على ترقيق الوقائع كما ترقق القرويات عجينة الخبز، بأن يذكروا العدد القليل للقتلى مقارنة بالعدد الكبير ممن لم يقتلوا بعد. وتقطير الحقائق في أنابيق كي لا يجفل الناس من ملمس شرارتها الصاعقة. "ما علينا"، يقول العابر العجوز، يجب إتمام هذا الطريق.
- لكن الطريق موصود كأبواب القلاع، وكأننا ندور في المكان ذاته.
- ألا يصل هذا الشارع إلى اسكندرون؟
-لا، إنه يُذكّر بها فحسب...