هرع الولد من آخر الشارع، وكان يخاله آخر العالم. استقبلته بذراعين مفتوحتين كشراع سفينة مقلعة للرحيل. خاطبها بصوته اللاهث: "إنهم يبكون، العميان يبكون مثلنا تماماً يا ماما"". كأنهم يتذكرون ويبكون.. يتذكرون لحظات لن تعود إلى عيونهم المطفأة، كاندحار الليل بشعاع الشفق أو انتفاخ الوجنات بضحك تفاؤلي يطرد اليأس إلى هجعته.. وغبطة الأولاد بقمصانهم الجديدة، والتدوينات المجازفة على جدران المدينة النائمة.. التلويحات المتعبة من الشرفات العالية..
لكن لماذا يبكي العميان؟
ربما لأن المبصرين، أمسوا يبكون كذلك. لم يبق أحد لم يبك في هذه البلاد.. الأطفال الذين يخاطبون كل رجل عابر يا بابا قبل أن يرتموا على ساقيه. أهالي الموتى حين يُرمى أمواتهم أمام عيونهم في مؤخرة "السوزوكي"، كأنهم صناديق بندورة. آباء الجرحى الذين يبحثون بين المشافي عن أكياس الدم. مَن فقدوا هواتفهم المحمولة التي تحمل أرقام ذويهم الذين تبعثروا في الأرض. مَن خسروا بيوتهم. مَن فقدوا بطاقاتهم الشخصية. مَن باعوا خواتم زواجهم ليطعموا أولادهم. مَن خسروا ألبومات أعراسهم. مَن لم يتبق عندهم ما يبيعونه. مَن نسوا، في حمى الوقائع واصطخابها، آخر الكلمات التي باح بها أولادهم قبل رحيلهم النهائي. يبكون لا أولئك الذين ماتوا، بل الذين فاتتهم سواطير الموت. بكوا بعدما تيقنوا أن العمى لم يعد امتحاناً مفرداً لأحدهم يستطيع تجاوزه بالاستعانة بالمبصرين، ولأنهم عرفوا الذي خسروه، لكنهم جهلوا الذي سيربحونه. حتى الشجعان الذين قضموا رؤوس الأفاعي ورفعوا الصخور إلى أعالي القلاع، يدفنون وجوههم بالبطانيات، يحبسون أنفاسهم ويبكون... هناك من لم يعد يحتمل دمعته، فتنهمر أمام الناس في الشوارع والحدائق وأمام أبواب المساجد ومراكز الإعانات، وأمام بوابات المشافي وعلى طرقات السفر الطويل. وماذا يفيد إن بقي بصرك سليماً و10/10 لو عيناك ذابلتان تحت الطماش الجلدي الأسود، أو ممنوع عليك رفع رأسك إلى الأعلى لترى آخر تلويحات الله وأعذاره المضمرة لهذا النسيان المريب، في فوهة بركان من الحمم.
***
باتت هذه الامتحانات والمحن المتواصلة تفوق قدرتهم على تحملها، مَن هذا الذي يستطيع إعادة البصر إلى الشعوب، ومَن يستطيع تجبير كسورها، وترميم عظامها المفتّتة، مَن يستطيع عيادتها كل يوم، ليطمئن على التحام العظم ببعضه، وشفاعة اللحم الطري بهذا الكائنات.. التي انتهكت وأُهينت وأُدميت. مَن الذي سيكترث بعد الآن بشعوب بلا عظام، تثبّت استقامة قاماتها، وتمضي إلى مستقبلها، كأنها ماضية إلى موعد غرامي. أنتجت هذه الأيام القيامية من باتوا يتمنون العمى، لينضموا إلى قوافل العميان: "ليتنا مثلهم، كي لا نرى الذي نراه". أفاعيل تذكر بمصائر المعتقلين حين تخرج صرختهم الممزقة بالسياط. أوقفوا سياطكم، لم نعد نحتمل. بالنهاية (كما بالبداية) التي تستوجب التذكير بأن البشر لهم طاقات، يمكن معاينتها وتبين حدودها.. لا يستطيعون الصبر على الجوع والعطش إلى ما لا نهاية له، ولا يريدون التحوّل إلى طعام طازج للأسماك، ولا الانحناء أمام القناصل ليمنحوهم تأشيرة تنقلهم إلى غياهب بلاد لا يعرفونها ولطالما تجاهلتهم.. حتى العميان لم يعودوا بمنجاة عن الإهانة والإذلال. ربما لم يسمع من يذلونهم، بقول الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو "الأعمى إنسان مقدّس، فلا تسرق أعمى"، لذلك يستمرون بركل العصي التي يستدلون بها على طرقاتهم الملتوية، وترقب سقوطهم بعد ذلك، ويجمعون النقود من فوق المناديل التي يضعونها أمامهم. لم يعد خافياً أن أسهل السرقات والإذلالات تتحقق في حالة العمى.. ولم يعد خافياً كذلك أن سرقة البصر هي استهلالية للتلاعب بالبصيرة، والسرقات المتممة التي تستكمل دفع هذه الكائنات المستضعَفة إلى قاع لا تُعرف خاتمته. لم يعد بمستطاع أحد الفرار من هذا القدر. شعوب أدخلت في نفق العمى المعتم. كأن آباءهم لم يورثوهم سوى هذا الطلاء الأسود فوق العيون. لا نعرف لماذا تمنى الشاعر البرتغالي كليل البصر فرناندو بسوا "دخول العالم الآخر حاملاً نظارته". أيريد التحديق في عيون من يطلّون من عليائهم على أوجاع الناس، ولا يتوقفون عن تقديم حزمة النصائح. أم يريد معاينة كائنات من هلام تتصيّد على هنات المستضعفين وتتوعدهم بنار لاهبة، غير تلك التي حرقت حيواتهم وحولتها إلى رماد. وحدهم من صعد إلى الأعالي، لكنهم لم يتدحرجوا بمفردهم إلى القاع، كما يُروى في الأساطير التي تفتت العزيمة قبل اكتمالها، وتروّج ليأس راسخ لا يزول. لم يعد الأمر بحاجة لمن يشدّ الإزار حول الجذوع المجروحة، سيتكيّفون مع جروحهم وكسورهم، وسيكتفون بآذانهم ليسترقوا السمع لترنيمة تعود إلى انبجاسها كمياه عجزت الصخور الصلدة على خنقها: الشعب يريد..