كتب الرجل العجوز، وهو مناضل يساري ونقابي سابق، بياناً في أول ساعات الفجر المطل على الأول من أيار/مايو، عبّر به عن تحليله لما يجري في تونس ومصر شتاء 2010-2011، وحمّله أمنياته بتحقيق ما يحصل هناك أن يحصل في بلده، لقناعته بأن المجتمعات العربية تجمعها منظومة اقتصادية سياسية - أيديولوجية متقاربة.
غادر المنزل في الصباح، متجهاً نحو مكتبة قريبة، أخرج الورقة المكتوبة، وقدمها إلى صاحبها، المنشغل بتلبية طلبات التلاميذ المسرعين إلى مدارسهم، الذي سأله من فوره وهو يضعها تحت الساتر الجلدي للآلة الناسخة، دون أن يكترث بمحتواها:
-كم؟ كم نسخة تريد؟
- عشر نسخ لا أكثر، ودس يده الأخرى في جيبه،أخرج ورقة نقدية، ومدها نحوه، أجرة نسخ الأوراق.
حمل الأوراق الساخنة من حرارة الناسخة ووضعها في حقيبته الجلدية العريضة. خرج متجهاً إلى الطريق المؤدي إلى الحديقة. اختار مقعده في طرف ساحتها التي تتوسطها البحرة بأحجارها الصقيلة العالية، مترقباً وصول أكبر عدد من الشبان إلى المكان، من الذين باتوا يعرفونه ويعرفون قناعاته، ويحيّونه حينما يعبرون بقربه، أو يصادفونه في الشوارع المحاذية. وحين أدرك أن الوضع بات مناسباً، مد يده إلى حقيبته الجلدية وأخرج حزمة الأوراق، وبدأ يوزعها على الشبان، الذين لم يتجاوز عددهم الخمسة. لم يمهلهم حتى ينتهوا من قراءتها، أسرع لشرح مضامينها ونياتها، وهم وافقوه على موقفه بهز رؤوسهم، وأطروا بابتسامات لا أكثر على جرأته وشجاعته. لم ينتبه في غمرة انفعاله لملامح الخوف التي بدأت تظهر على وجوههم، ولا لطي الأوراق التي أعطاهم إياها بسرعة، ولا لتنحي أحدهم جانباً للاتصال من جهازه المحمول.. بعد ربع ساعة على الأكثر، وصلت مجموعات أخرى من الشبان يتقدمهم رجال أقل شباباً، طوقوه طالبين منه برفق وأدب مبالغ به، ربما لاحترام شيخوخته، بضرورة مرافقتهم إلى حيث المعلم يريد استكمال الحوار المفيد معه.
لم يطيلوا الحديث في الفرع، الذي كان بمثابة تحقيق أمني ناعم، تعرض فيه المحقق لوضعه الشخصي، على سبيل إتمام بيانات شكلية يحتاجها التحقيق. ولأنهم يعرفون عنه بدقة أكثر من معرفته بهم التي باتت تقضمها ذاكرة شيخوخته، لم يكن همهم السؤال عمّن كتب البيان، لأنهم عرفوا من خطه أنه كاتبه، ولأنه سيجيبهم بصراحته التي امتحنوها باستجوابات سابقة. بل توقفوا عن مكان النسخ ودور صاحب المكتبة.. المجهول لهم. وحين أدركوا أن الأمر برمته تم بدوافع عفوية محضة، أحالوه إلى السجن، ليقدموه بعدها إلى المحكمة.
في الزنزانة الممتلئة بأعداد تفوق مساحتها، من شبان بعمر أحفاده اعتقلوا من التظاهرات «الطيارة» التي بدأت تنتشر في المدينة كتعبير عن التضامن مع مدينة درعا وبلدات سهل حوران، حمل المفرش الإسفنجي والأغطية ومدهما على الأرض، بخبرة من عرف السجون التي سيق إليها في سنوات الوحدة السورية المصرية (1958-1961)، وكان قد قضاها في سجن المزة، وفي عام (1978-1980) في سجن الشيخ حسن، ومن نهاية العام 1980 الى 1995 في سجن القلعة وسجن عدرا.
عرّف عن نفسه بصوت يخنقه التعب والسن، قبل أن يجلس على مفرش الإسفنج، ويرفع رأسه محدقاً في الوجوه الشابة التي تحيط به، كما يحصل دوماً في اللقاءات التي يمضي إليها أو يُطلب منه حضورها. اقترب منه أحدهم وصاح بصوت عال: هذا المناضل النقابي لن تنام على الأرض، لك مكاني على السرير.
تحلّق حوله الجميع، في رغبة التعرف إليه وإلى تاريخه، لم يكن أحد قد سمع باسمه إلا الشاب الأكبر سناً، المطلع جزئياً على تاريخ الحركة السياسية. وعندما روى أسباب اعتقاله من داخل الحديقة، كما يحصل مع أي سجين وافد حديثاً، استغربوا جهله بالأمكنة العامة التي لم تعد صالحة للنشاط السياسي العلني منذ زمن طويل: «كل الباعة الجوالين والثابتين على علاقة مع أجهزة المخابرات، ناهيك عن الناس الذين سيخافون من مبادرتك ويشكون بأنك ستورطهم في مشكلة سياسية معروفة النتائج».
وحين أخبرهم عن الرغبة التي ألحت عليه في الذهاب لتوزيع البيان أمام مبنى نقابات العمال والحرفيين قبل أن يمضي إلى الحديقة، استغربوا أكثر: «لا تحوز النقابات أي استقلالية سياسية، ومعظم قياداتها من الحزب الحاكم، ولم تبادر إلى أي موقف مميز منذ نصف قرن»، وخجلوا من سؤاله عن جدوى توزيع عشر نسخ من بيان لمدينة تجاوز عدد سكانها الأربعة ملايين نسمة.
استغرقتهم حوارات طويلة لتبصر الأدوات النضالية، وسقوط كثيرها في الامتحانات الكفاحية، حيث ما من إمكانية لتراكم النضالات على ندرتها، وغياب أي فسحة أو هامش قانوني لها. حدّثوه عن المساجد كأماكن للتجمع الإجباري، التي لم تتمكن الأجهزة الأمنية من إغلاقها، واكتفت بالهيمنة على مشايخها، ودفع عناصرها للتسلل إليها والمرابضة خارجها، وعن دور شبكات التواصل الاجتماعي ودورها في اختزال المسافات والتقارب بين أصحاب القناعات المشتركة، وعن الملاعب الرياضية وساحات الجامعة كأماكن أخرى للتجمع والنشاط.
حدثهم بدوره عن أحزاب وتحالفات وتجمعات سياسية، وعن تواريخ نضالية وعن سجون وعن مناضلين تبين له أنهم لم يسمعوا بها وبهم. رويداً رويداً بدأ يلمس نتائج الهوة التي صنعتها السنوات الطويلة من الأحكام العرفية وقانون الطوارئ والمحاكم الاستثنائية.. وتغييب السجون لجيلين على الأقل عن العمل السياسي والتواصل مع الجماهير. أكتشف أنه أسير حالة أنتجت غربتها عن القناعات الجديدة التي حازت تفكير الأجيال الشابة، أساسها الحزب والنقابة والتحالفات السياسية كأدوات للفعل الثوري، والتظاهرات والإضراب الجماهيري والعصيان المدني كوسائل لتحقيق البرنامج الشعبي الثوري، وهم أسرى غربة أخرى، ركْنها الموقف المعادي للأحزاب والكفاح ضمن تحالفات حزبية، مندفعون للعمل المباشر في التجمعات السكانية الريفية والمدينية واستنخاء الشوارع ودفعها لإنجاز مهام تاريخية.
خرج بعد أقل من شهر بقرار عفو مع عدد من السجناء، على أن تستكمل محاكمته لاحقاً، وبقيت الأسئلة معه ومعهم، حتى غادرت الانتفاضة الشعبية أرضها وأسئلتها، وانتقلت إلى مكان آخر.
& & &
يتوجب في هذا الزمهرير والعتمة، تفحص الأمنيات القديمة كذلك، حين كانوا يهينون القط القطني الخجول بعد أن ألصقوا ورقة على ظهره وكتبوا عليها «الاستعمار»، وحين رموا الدببة الثقيلة إلى أعالي السقيفة كناية عن «الإمبريالية»، وأغرقوا الأسماك المصنوعة من الورق المقوى بمياه دوارق تنظيف الثياب بوصفهم أعواناً للرجعية، واعتلوا الحيوانات التي ما انفكوا يعتبرونها متوحشة بكونها تعبر عن الأنظمة البالية، وحثها للتقدم الصبور نحو باب المنزل المغلق أو غرفة الضيوف، وزحفهم المتواصل على السجاد المكحوت في تقليد للفدائيين الفلسطينيين، وهم ماضون نحو عملية ضد الأهداف الصهيونية، ووقوفهم باستعداد أشم أمام عصا يعلوها قميص، بوصفها بيرق البلاد ورمزه اليقيني، وتباريهم في رسم خريطة الوطن الكبير، بأعين معصوبة، وتأكيدهم على قناعة بأنهم سيحررون فلسطين بمجرد حيازتهم موسى «سبع طقات» أو أي سلاح فردي آخر، وعن دور القصائد الشعرية التي يستظهرونها من صفحات الجرائد والمجلات في تهشيم شخصية العدو، ودفعه للتراجع عن غيّه وعدوانيته، وأخذتهم من حين لآخر الشفقة عليه، ليتناقشوا بجوازية رميه في البحر أم عدمها، وفق ما كانت تلهمهم خطابات الإذاعات، قبل أن يتحول الزمن ورجاله، ليُرمى هم وأهلهم فيه.
لكنهم الآن آثروا الوقوف على الشرفات أو ما بقي منها في مكانه، ليترنموا من حين لآخر، بتلك الطللية العميقة:
يا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبحٍ...
Normal
0
false
false
false
EN-US
X-NONE
AR-SA
/* Style Definitions */
table.MsoNormalTable
{mso-style-name:"Table Normal";
mso-tstyle-rowband-size:0;
mso-tstyle-colband-size:0;
mso-style-noshow:yes;
mso-style-priority:99;
mso-style-qformat:yes;
mso-style-parent:"";
mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt;
mso-para-margin-top:0in;
mso-para-margin-right:0in;
mso-para-margin-bottom:10.0pt;
mso-para-margin-left:0in;
line-height:115%;
mso-pagination:widow-orphan;
font-size:11.0pt;
font-family:"Calibri","sans-serif";
mso-ascii-font-family:Calibri;
mso-ascii-theme-font:minor-latin;
mso-fareast-font-family:"Times New Roman";
mso-fareast-theme-font:minor-fareast;
mso-hansi-font-family:Calibri;
mso-hansi-theme-font:minor-latin;}