من يمضي لا يأخذ معه شيئاً، يتخفف من حمولة ألبسته وحوائجه، ولفافة زوادته يتركها على حافة الهاوية وليمة لأسراب الحمام. لا نملك خيطان لنرفو هذا التاريخ الذي يُمزَّق كل صباح أمام أعيننا ويُغدر به. نعلن، بعد تجاوز المكابرة، عن حاجتنا الجديدة لغزول خيوط القنب لنباشر برفو ما يُرمى لنا من حين لآخر ممزَقاً على آخره.
لم ينتبه من وضَعنا أمام هذا الامتحان فيما تبقى له من وقت، وغمرة مشاغله بتقليم براثن الكواسر وتبييض أنيابها وتسريح لبدتها، أننا قد نراه في لحظة ما عبَثاً، وقد يهدّنا حمله الثقيل، ولا بد تأتينا لحظة إشراق ثوري لنلعنه ونقرر تمزيقه، وهي فرصة لنباشر صناعة وتدوين تاريخ جديد والالتحام الحاسم بمن يصنعه.
ترجمات عباس محمود عباس عن تجارب التغيير في أوروبا الوسطى والشرقية، وعن دور المنظمات غير الحكومية، المسماة عنوة "منظمات المجتمع المدني"، نمط من الاستعاضة عن مقاربته لأوضاع الأنظمة الاستبدادية في المشرق العربي وبلده على وجه الخصوص.
ما نتبناه من المجتمع المدني معرفياً هو نتاج المقاربة الهيغلية في تطورها الماركسي. المجتمع المدني هو عينه المجتمع البورجوازي، ونشاطه الاقتصادي الرأسمالي يعبَّر عنه باقتصاد السوق الرأسمالية، ودولته هي جهاز قمع طبقي واضح الملامح والبنيان السياسي - الحقوقي. ما تابعناه من تلك الترجمات التي تقارب التجارب الاشتراكية المأزومة، في محاولة لتفسيرها واستعجال تقديم بدائلها بأشواق تعبر الممكنات وتغرق في سذاجة الوصول إلى القبض عليها، عجزان: عجز عن تفسيرها، واستسلام لتبريراتها، وتسويق بضاعة تغييرها من دون معاينتها واختبارها والتأكد من صلاحياتها والإسراع بعرضها في واجهات الحركات الثورية الشعبية كبديل عجول لسد الفراغ الفكري المرحلي. أشبه بوصف أدوية اعتباطية من ممرض مستوصف بلدة نائية لمرضى منهكين، من دون القدرة على تشخيص مرضهم.
مآلات صراعات الحرب الباردة، وبشكل خاص الاستنزاف التدميري لسباق التسلح وحرب النجوم، الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعيق تطور ونمو الاقتصاد في الاتحاد السوفياتي، القاطرة التاريخية لهذه التجارب، تشكل تاريخيّاً، لبيروقراطية عسكرية - مدنية، لغياب الديموقراطية، دوراً حاسماً فيه، وقد باتت مصالحها تدفعها للتكيف مع المشروع الإمبريالي بعموم عناصره والمساومة معه لإنتاج تسوية طبقية تاريخية، وهو ما عبر عنه بوضوح ميخائيل غورباتشوف كاهن البيروستريكا وكاردينالها في جميع كتبه وخطاباته الحزبية، ونيته المبتكرة بحمولاتها المثالية الذاتية الثقيلة بتحويل الصراع مع الإمبريالية إلى مباراة رياضية.
تتجاهل تلك المقاربات معظم النهايات التي لوت عنق هذه الحركات الشعبية، وأعادت تكوينها وتكييفها وفق المتطلبات الإمبريالية، وكأن الغاية هي إسقاط هذه الأنظمة والتنكيل بها، لا دفع حركات الشعوب في أوربا الشرقية والوسطى نحو أفق تاريخي جديد يتجاوز الاشتراكية المأزومة والإمبريالية الحربية: الحروب الأهلية في البلقان والقوقازـ تفكك اتحادات سياسية تاريخية كيوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا ـ إسراع عموم تلك الحكومات المنبثقة من التغييرات للدخول في حلف الناتو، ومواقفها المعادية لحقوق الشعوب المضطهدة، التحاقها السريع بالجيوش الإمبريالية في معاركها التوسعية في أفغانستان والعراق، انتزاع معظم الإنجازات التي حققتها شعوبها: العمل - التأمين الاجتماعي والصحي - التعليم المجاني... والأهم عجزها عن تقديم بدائل ديموقراطية. فعموم قادة الحالة الجديدة هم عينهم قادة الأحزاب الشيوعية أو من في مقامها الامتيازي، مضوا من دون استئذان، ومن دون العبور من ذاك الباب الذي كان يُسمى النقد الذاتي، إلى الكنائس والطوائف والمؤسسات الإمبريالية الاقتصادية والأيديولوجية والعسكرية ليقدموا اكتشافات مهولة في نقد التجربة وتصويبها. يمضي إدوارد شيفاردناذه، على سبيل المثال، إلى الحصول على المعمودية في أحد الأديرة، وكأن فشل التجربة - وكان عضواً للمكتب السياسي في الحزب الشيوعي السوفياتي - هو عدم معمودية قيادة الحزب. ومعموديته ليست معمودية دينية مخادعة، بل معمودية سياسية وأيديولوجية أنتجت أحط وأبشع نظام حكم في جمهورية جورجيا منذ دهور، حيث السيطرة التامة على السلطة لمافيات تجار المخدرات والأسلحة والرقيق الأبيض، وساهمت الأطر الحقوقية التي أرساها في أوسع اختراق للموساد والمخابرات التركية والمافيات التابعة لهما في جغرافيا عبر ـ القوقاز.
وانتقل النقد من نقد التجارب إلى نقد الفكر الذي شكل مرجعيتها: الماركسية وفق الصياغات السوفياتية والمستتبعين لها. وما طغى على السطح الثقافي وسُوق كفكر نقدي (اقرأ: نكدي،) دفع للترحم على الصياغات السوفياتية بأبشع تنميطاتها ابتذالاً، والوعد بزيارة مقابرها من حين لآخر. فبرغم كل ما حصل في النتائج، قدمت تلك التجربة المهزومة مجموعة من الكتاب يتمتعون بحس علمي نسبي يتوخى معاينة الوقائع وسبرها، أنىّ كانت النتائج التي توصلهم إليها البيروقراطية الحاكمة، ويتوافقون معها ويبررونها. وقدمت التجربة النقدية المضادة أناساً من الصحافيين ومذيعي/ات التلفزيون والفنانين الفاشلين والغانيات والراقصات، ليساهموا معاً كفرقة دبكة، في إنتاج موقف نقدي تنكيلي، من مثل نقد ماركس والمفكرين الماركسيين، من دون أدنى إطلاع على فكرهم والشروط التاريخية التي أنتج بها، ليأخذ الشكل الوحيد الذي أتاحته له المؤسسات الإعلامية والثقافية الإمبريالية: العدائية العمياء/ السخرية التهريجية البليدة/ الرغبة في تحطيم الفكر وافتعال الأذى فيه وتسفيهه والاستهزاء بأتباعه المغدورين مرتين... الخ
لذلك لم يُعثر على نقد يقارب واحدة من أكبر ثورات القرن العشرين والتجربة السياسية التي انبثقت عنها، يحترم التاريخ والمعرفة البشرية المتراكمة وتجارب المجتمعات المتنوعة والغنية وهو يقارب هذه التجارب الاشتراكية المهزومة. وبات سائداً تسويق التفسيرات الهزلية لتلك الهزيمة التاريخية المدوية من مثل كونها لم تمنح التراخيص لانتشار مطاعم ماكدونالد، وشركات ألبسة الجينز، ومنع شعوبها من تذوق نكهات بيبسي كولا التي طالما ساهمت في إدمان الحرية والتعرف على مذاقاتها. والتنكيل بالتجارب التعاونية الجماعية التي لا تتناسب مع الفطرة الفردية، ودور الخصخصة في التنمية، وغياب الحريات العامة والخاصة، والتي كان من بواكير تكريسها قصف مبنى الدوما الروسي بالمدفعية في عهد يلتسين، وهو بمثابة قصف رمزي للشعب عبر قصف ممثليه وقتلهم، والعمل الدؤوب على تزوير الانتخابات والاستعانة بخبرات تضليل الرأي العام، والدفع المتعمد للصراعات الأهلية للتفجير، وتغذيتها ودفعها إلى حدودها القصوى، بالتعبئة العنصرية والطائفية والمذابح المهولة.
وانتقل هؤلاء الجلاوزة إلى تعقب كل أثر استلهم الفكر الثوري في صيغته السوفياتية المعْتلة، أو في غيرها ممن شابهها. وتبدأ مهرجانات "التجريص" التي يعرفها أهالي بلاد الشام جيداً، بتبني الفضائح التي تنتج بوسائل المخبرين السريين وتتناسب مع أميتهم الثقافية. هل يتوقع أحد من هؤلاء المخبرين المجندين كأدوات طيعة في المؤسسات الثقافية والإعلامية كتابة نقد لماركس أو لينين أو لوكاش على أهميته وضرورته وواجبه؟ أشير لهم من أسيادهم بأرشيف الشخصيات الواجب والضروري التنكيل بها، لينقضوا على السير الشخصية لمكسيم غوركي/ برتولد بريخت/ بابلو نيرودا/ لويس أراغون...والأقل جهلاً منهم يفتعل خلافات فكرية كيدية بين ماركس وإنجلز، وبينهما ولينين، وبين الأخير وغرامشي ولوكاش، بافتراض أن الخلاف أياً كانت درجته وأسبابه ومآلاته، لعنة بين المفكرين الثوريين، جاهلين أن الفكر المادي العلمي أنتج أخصب حوارات فكرية في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى يومنا هذا: حوارات ماركس وإنجلز مع اليسار الهيغلي ومع القادة الفكريين للحركة الاشتراكية – الديموقراطية الألمانية، والاشتراكية الفرنسية، وحوارات لينين مع الشعبيين الروس والمناشفة، ومع روزا لوكسمبورغ...وصولاً إلى حوارات مهدي عامل مع كريم مروة، وسمير أمين مع الياس مرقص. والحوار يعني نقاش ما هو مختَلف عليه، بعد تعيينه وتوضيحه وسبر مآلاته. وكانت حصيلة ما أنتجته هذه السائبة من حوليات نقد العبيد للأحرار، شكلاً من العدمية التاريخية، وشكلاً حربياً من القنابل الدخانية لإضاعة الهدف في الليل الفاشي الدامس.
لم يمتلك هؤلاء "الشجعان" بثقافتهم المخمورة وزن خردلة نقدية لنقد الأنظمة التي يتعيشون على فتات موائدها، والجالسين في أحضانها، وقد أمست آثار ذاك الجلوس الطويل واضحة على أبدانهم.
غافل عباس محمود عباس الجميع ومضى متعمقاً في التراب ومجده النباتي، مبقياً الأسئلة وتعثر إجاباتها والرغبات القوية لتسلق أغصانها والاحتماء بشجرتها الخضراء. ترك هذا الميراث الثقيل ونسي في غمرة عجالته أن يترك لنا كبسولات تسكين الخروج من هاوية الآلام العميقة.
ترجم عباس محمود عباس وساهم في مراجعة:
- "إصلاح أجهزة الدولة، تجربة أوروبا الوسطى". مجموعة من المؤلفين. دار إسكندرون، دمشق 2009
- "سلطة من لا سلطة لهم". دار إسكندرون، دمشق 2009
- "التسلطية في سوريا، صراع المجتمع والدولة" دار رياض الريس، بيروت2011