ليس أمام المحقق ومساعدوه عديمي الضمير هذه المرة، بل أمام الأولاد الذابلين كورود جف ماؤها ،وتحللت أملاح تربتها الحنون، يسألون عن العتمة والبرد وألبسة الصوف الثقيلة والأحذية التي تمنع وصول المياه إلى أصابع القدمين، والرغيف المنفوخ كطبل وحساء العدس الحار، وعن الدور المتبقي للعشر ليرات في دحر غائلة الجوع، وعن أقصر الطرق للوصول إلى المدرسة، وأيسر الدروب لملاقاة الحرية المنتظرة منذ قرون، في رحاب سهل أخضر،لا على حافة هاوية الشقاق الأهلي المدمر، ولا ينسوا الاستفسار عن أهمية بابا نويل في سوريا اليوم.
كل شيء قابل للاحتراق سيحترق لاستدراج الدفء إلى أكوام اللحوم الإنسانية المثلجة. أعمدة الهاتف/مقاعد المدارس التي تحتضن النازحين/الكتب الثقيلة/الأثاث المنزلي المنهوب/دواليب السيارات/والأهم من كل ما ذكر:الماضي الاستبدادي الثقيل، وكتاب القواعد الذي يضم أحرف جر عربة الحاكم المترنحة.
***
الفم لا يتوقف عن الكذب الهاذي. يقول للأكراد والأرمن: الأتراك قادمون، وللأقليات الدينية من مسيحيين وعلويين وإسماعليين ودروز: المتطرفون الإسلاميون آتون لا ريب ليدمروا معابدكم ويستبيحوا أملاككم ونساؤكم. ويقول للأغلبية السنية العربية المدينية: سيأتيكم الفلاحون القساة الأميين الأجلاف لينتزعوا مصانعكم وخاناتكم، ويقول لأهل الرقة احذروا أهل دير الزور، ولأهل سلمية احذروا البدو، وللبدو احذروا الشوايا... ولأهل سوريا: إحذروا الكيماوي.
وفي غمرة هذا الهذيان، ألم يخطر ذاك السؤال في ذهن المهددين بالحملة الأيديولوجية الترويعية: وماذا عن الشبيحة والعشائر التي تسلحها بسلاح الجيش والأفرع الأمنية، وعتاة المجرمين المكرمين بسلسلة من مراسيم العفو الرئاسية العلنية والسرية، والمقذوفين بالأسلحة وجرعات حبوب الهلوسة في الطرقات العامة وبين تجمعات أولاد المدارس والساحات العامة والأسواق الرئيسية ومفارق الطرقات...
ولماذا لم يستبدلوا الكيماوي الذي اكتشفوا أهميته أخيراً، بخلائط سكرية ملونة، كما كانوا يفعلون مع مرضى السرطان في مشفى المجتهد على سبيل المثال، بعد أن باعوا جرعات الدواء الحقيقية بأضعاف سعرها للمرضى المقتدرين أو هربوه إلى دول الجوار.
***
وأخيراً يتذكرون الحوار بجزرته وعصاه!!
لكن هل بقي متسع من الوقت للحوار؟ هناك حوارات مجدية وضرورية، وينبغي الركض نحوها والسعي لفتح نوافذها وتسلق أسوارها وقرع أبوابها.
أكثر من خمسين ألف شهيد وثق قتلهم الناشطون في المنظمات الحقوقية، وربما هناك بقدر عددهم أو يزيد، ممن لم تتثن الشروط لتوثيقه، وبعد آلاف المخطوفين والمفقودين، وآلاف الجرحى والمصابين بأذى تمنعهم من استكمال الحياة بشكل طبيعي، وآلاف المعتقلين وعشرات ألوف النازحين والمهجرين... تلك أرقام صلبة لا تحتمل التبديد والمقامرة. وهناك التدمير المتعمد لأسس الحياة الآدمية، البيوت المسّواة بالأرض والمزارع والمصانع المحروقة والمسروقة. وهناك الأذى النفسي والوجداني العميق... هذا في عصر الانتفاضة، وقبله ماض ثقيل يمتد لنصف قرن، عبرت من خلاله كل أنماط هزليات الحوارات الجدباء.