بطبول وصنوج نحاسية، وبصخب فرق العراضة، استُقبلت فكرة المجتمع المدني، قبل تحويلها إلى إيديولوجيا في سوريا والبلدان العربية. صيِِغ المفهوم في مراكز الأبحاث الغربية على عجل، في معاينة لتجربة نقابة «تضامن» البولونية ومبادرتها الاحتجاجية على سياسات التقشف التي تبنتها الحكومة بالتوافق مع صندوق النقد الدولي، وكذلك وفق الحاجات التعبوية للهجوم الإيديولوجي الإمبريالي على التجربة السوفياتية ونتائجها. وقذف به مشفوعاً بأختام مراكز الدراسات العديدة ليملأ فراغاً، قبل وأثناء وبعد انهيار الإتحاد السوفياتي والمنظومة التابعة له... مدعياً بغرور أنه سيكون مفتاحاً لبرنامج تحرري للشعوب المضطهَدة. وساهم في تمكين هؤلاء من ذلك عجز اليسار عن إنتاج مقاربة نظرية للتجربة الفاشلة، والوقوف على أسبابها وسيرورتها وأفقها التاريخي، ورصد احتمالات انبثاق حركات ثورية جديدة. وكان في ذلك يُبرز عجز أدواته التحليلية المستندة إلى أيديولوجيا «وعي زائف»، باتت معادية للشعوب واندفاعها لانتزاع وتثبيت حقوقها في الحرية والعدالة. ولكن مفهوم «المجتمع المدني» ظلَّ قاصراً عن إيجاد إطار فكري تفسيري لواقع هذه المجتمعات. وهو اعتمد على أشكال من الانتقائية التعبوية، هي من فضلات الخطط الحربية وزوائدها، أكثر من كونه يستدرج العقل إلى التأمل والتجريب والحوار. فأنتج مروِّجوه حالة من الفولكلور المضطرب والغامض... والغموض من مستلزمات الفكر الغيبي والشعوذة والسحر.
نُقدت التجربة السوفياتية وتوابعها من خاصرتها الضعيفة (غياب الحريات العامة). ومن خلالها تمَّ العبور إلى الاقتصاد الذي يسيطر عليه متحَّد لبيروقراطية مدنية وعسكرية لصوصية ولا أخلاقية، بعضها، كبولونيا، كان ينفذ ومنذ زمن قبل سقوطه، وصْفات المؤسسات المالية الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين. ثم تمت النقلة الثانية، أي إحياء قضايا الأقليات القومية والدينية (البلقان- القوقاز) بمقاربات تفتقد للمبدئية وتندفع غريزياً بقوة ذرائعية تدميرية، تعي هدفها السياسي وتبصره. مفهوم «المجتمع المدني» لا يفسر شيئاً، ولا يصف شيئاً محدداً. له جذور قديمة في علم الاجتماع الأوروبي ومقارباته الفكرية للسلطة السياسية والدولة والمجتمع، لكنها وبعمومها لا تتحدث عن شيء بعينه، كل فيلسوف ومفكر (من هوبز ولوك إلى ماركس وغرامشي) يتحدث عن «مجتمعه» المدني.
تذكِّر النقاشات حول المجتمع المدني في البلدان العربية، وأسئلتها، باليسار الهيغلي في الجامعات الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر، الذي حوَّل الإنجازات الثورية للشعوب الأوروبية إلى مفاهيم مجردة. وقد رد ماركس وإنجلز ذلك إلى ضعف الحركة الديموقراطية الثورية في ألمانيا والى قوة الدولة البوليسية ورجعية سلطتها السياسية.
في مقاربة الدكتور عبد الرزاق عيد، وهو من أعيان «لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا»، (ويسألونك عن المجتمع المدني)، نلمس هذا الاضطراب والقلق والتخبط، والعجز الواضح في السيطرة على المفهوم الزئبقي، الذي انتقل مع الفسحة الحوارية الضيقة التي سمحت بها الطغمة الحاكمة آنذاك، إلى عجز حوامله عن توطينه في الثقافة السياسية للبلاد وإعادة إنتاجه بما يوافق الحركة الديموقراطية فيها، ومشروعها. وطالما ذكّر الدكتور عيد بعبارة جوزف برودون «خصوبة اللامتوقع» لتتحّول عنده هروباً إلى الأمام من عجز راسخ يصعب تجاوزه، وضرب من فأل «حسن الطالع» للمستقبل، يتحقق بمجرد الخروج من النفق الكابوسي الأسود الذي كرسه الاستبداد الطويل. وللحقيقة، لم يتبنَ موضوعة «المجتمع المدني» في سوريا مفكر، يعي حدود كلامه ومقارباته التاريخية. بل تبنته مجموعة من كتاب اليوميات الصحافية، اختار معظمهم في ما مضى الموقع الوظيفي لمندوب الدعاية لسلع الأيديولوجيا السوفياتية في عهدها «البريجينيفي» الأكثر انحطاطا وعديم الإنجازات. وهي عكست بعمومها حالة التبّرم واليأس المتولدة من الأحزاب المحلية التي فاتتها معظم قطارات التغيير، والتي توزعت خياراتها ومصالحها على احتمالين: التواطؤ المكتمل العناصر مع الطغمة الحاكمة، أو الموت المتواصل في السجون، مما ولد حالة من الفراغ الفكري والسياسي.
وازداد الأمر إرباكاً حين دخلت الجماعات الإسلامية المنفتحة والمحاورة على خط تبنيه، لتخلطه تارة بالمجتمع الأهلي، وتارة بالاقتصاد المؤسَّس على الأوقاف الإسلامية والجمعيات الخيرية الإحسانية. كثيراً ما نشعر بشفقة على هذا المفهوم، الذي لم يختلف مصيره عن مصير الطفل الوحيد في عائلة العميان. ويمكن اعتبار موضوعة «إحياء الخلافة الإسلامية»، التي أنتجتها بعض من التيارات الإسلامية (حزب التحرير الإسلامي على وجه الخصوص)، أكثر وضوحاً من تعبير «لجان إحياء المجتمع المدني»! فما الذي يُراد إحياؤه؟ المجتمع المدني. لكن ما هو المجتمع المدني، وهل هو في عالم الأموات؟
المفهوم مبددٌ بين البنية الاجتماعية الرأسمالية بخصائصها الليبرالية النموذجية تارةً، (وهي عند الكثيرين عودة حلْمية ذات سمات طفْلية إلى مرحلة 54 -58 من تاريخ سوريا)، وبين استرداد النقابات المهيمن عليها بوليسياً تارة أخرى، وأخيراً بين تفعيل منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان والمواطن، وجمعيات الدفاع عن المعتقلين وضحايا التعذيب، ومنظمات الدفاع عن حقوق المرأة وتمكينها الحقوقي والاجتماعي والسياسي... وبعد مرور عقد من الزمن السوري الطويل على تلك التجربة، يتوجب وقفة للنقد الذاتي، وإعادة فحص وتعيين للمفهوم، واختبار حدوده، وليس من الخطأ رميه جانباً. من يذكر اليوم الرواج الهائل لروايات كولن ولسن، وألبيرتو مورافيا، بل من يذكر اليوم الكتابات الصقيعية لـ أفاناسيف وزرادوف ونيكيتن... التي كانت تحضِّر الثورات بفعل يشبه تحضير أرواح الموتى عند سحَرة الهنود الحمر. عموم تلك الكتابات لم تحقق وظيفياً سوى دور الحطب الرطب لشعوب «قتلها البرد والجوع».