مثّلت حادثة السفارة الأميركيّة في 14 أيلول/سبتمبر 2012، (الاحتجاجات العنيفة على فيلم «براءة المسلمين» التي أدّت الى اقتحام وحرق بعض مباني تابعة للسفارة، والى سقوط 4 متظاهرين قتلى برصاص الأمن) منعرجاً فارقاً في تناول الظاهرة السلفيّة في تونس. إذ بدا واضحاً أنّ «الاحتواء المتبادَل الحذِر» الذي ميّز العلاقة بين حركة النهضة (الاخوانيّة) الحاكمة والتيّار السلفي الجهادي لم يعد قادراً على الاستمرار. فمع الاحتجاج الأميركي القويّ على ما جرى في تونس كما في مصر وليبيا وأقطار أخرى - اضطرّ الحاكمون الجُدُد الى إبداء قدر غير مسبوق من الحزم في تعاملهم مع هذا التيّار الذي اتّهموه مباشرة بالوقوف وراء اقتحام السفارة.
وقد أصدر القضاء التونسي لأوّل مرّة منذ خلع بن علي أحكاماً بسجن وملاحقة القادة المفتَرضين للتيّار (وأبرزهم «أبو عياض التونسي» الذي نجح أكثر من مرّة في الفرار من المحاصرة الأمنية والاختباء إلى حدّ الساعة). كما كان من تداعيات الحملة الأمنية التي لحقت بناشطي التيّار المُتّهمين بتدبير حادثة السفارة، وفاة شابّين خاضا إضراب جوع «وحشي» احتجاجاً على «ظروف اعتقالهما» في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012.
وتلاحقت الاتهامات الرسميّة وغير الرسميّة لمنتسبي هذا التيّار بالوقوف وراء مخازن الأسلحة التي تُعلن السلطات عن العثور عليها من حين لآخر في جهات مختلفة من البلاد. كما اتُّهموا بالوقوف وراء إحراق عدد هامّ من «الزوايا» (مقامات الأولياء الصالحين)، وهو ما نفاه بعض المتّحدثين باسمهم، وصولاً الى اتّهام علي العريَض، وزير الداخلية السابق ورئيس الوزراء الحالي، «خلّية سلفية جهاديّة» بالوقوف وراء اغتيال القيادي اليساري المعارض شكري بلعيد في 6 شباط فبراير الماضي (فيما تتهمّ عائلة الشهيد قيادة حركة النهضة بتدبير الجريمة). هذا فضلاً عن الأنباء عن اشتباكات مع عناصر سلفيّة من حين لآخر على الحدود الشرقية مع الجزائر.
استمرار «محيّر» للانتشار
ورغم كلّ الزخم في الأحداث ذات المضمون «السلبي»، ما يزال الغموض يلفّ أوجهاً عدّة لهذه الظاهرة. لعلّ أهمّها تفسير استمرار انتشارها، وخصائص توزّعها الجغرافي. إذ يمكن ملاحظة أمرين لافتين برزا الى السطح في الأشهر الأخيرة، أوّلهما أنّ الجماعات السلفيّة تستقطب بشكل أكبر وأسهل في أوساط شباب الأحياء الشعبيّة المحيطة بالمدن الكبيرة (العاصمة تونس تحديداً، وسوسة وصفاقس)، مقارنة بالجهات الداخلية والأرياف، وهي بيئات اجتماعيّة مشابهة، لجهة ارتفاع نسبة الفقر والتهميش والبطالة فيها. أمّا الثاني فهو أنّه رغم الطابع «المحصور» لظاهرة «السلفية الجهاديّة»، الاّ أنّها أثبتت قدرتها على الاستمرار والإبقاء على فاعلية تعبويّة حقيقية. وهي فاعلية لا تقتصر على العمل الاحتجاجي العنفي، بل تمتدّ وإن بصخب إعلامي أقلّ بكثير - الى عمل دَعَوي وخيري كثيف نسبياً. وما يثير الاهتمام في هذه النقطة هو ما يبدو وكأنّه حصانة يتمتّع بها «التيّار» في وجه التغطية الاعلاميّة «المناوئة» له إلى حدّ كبير بشكل عامّ.
أهمّية الوشائج ما قبل الحداثيّة
الفقر والبطالة ليسا كافيين إذن وحدهما لتفسير قدرة الخطاب السلفي الجذري على الانتشار ضمن شباب «مناطق الظلّ التنموي». فرغم تواجد ملحوظ للسلفيين الجهاديين في بعض المناطق الداخليّة (تحديداً مدينة سيدي بوزيد) الّا أنّ حجمهم يبقى غير مؤثّر فيها عموماً. فحتّى قرية سيدي علي بن عون (في ريف سيدي بوزيد)، حيث يتمركز الخطيب الادريسي، أحد أهمّ الرموز المعنويين للتيّار، لا تتميّز بثقل كثيف لهم. فيما يتميّز التيّار بتواجد جماهيري حقيقي وملموس في أحياء شعبيّة كبيرة تحيط بالعاصمة، مثل حيّ سيدي حسين وحيّ التضامن ودُوّار هيشر. هناك يسيطر «الجهاديون» على عدد هامّ من المساجد وتنتشر جمعياتهم الدعويّة والخيريّة وحتّى الطبيّة.
ولئن تتضارب التقديرات الدقيقة لأعدادهم الّا أنّ مصدراً قريباً من مركز الدراسات الاستراتيجيّة (التابع لرئاسة الجمهوريّة والذي يجري دراسة شاملة للظاهرة) يقدّر عدد الناشطين الفاعلين في التيّار، ذي التنظيم الأفقي، بالألف. لكنّه يرى أيضاً أنّ هذا الألف يمتلك حزاماً اجتماعياً متعاطفاً معه قد يقارب المئة ألف على مستوى البلاد.
ويفسّر الأمين البوعزيزي، الناشط الاجتماعي والباحث في الانتروبولوجيا الثقافيّة، الاختلاف بين الجهات الداخلية والأحياء الشعبيّة المحيطة بالمدن، بعجز الأخيرة عن استيعاب جيوش النازحين من الجهات الداخلية اليها. إذ يجد الريفيّون السابقون المقتَلَعون من بيئتهم الأصليّة أنفسهم عاجزين عن التحوّل الى «بروليتاريا»، وعاجزين كذلك عن الانخراط ضمن روابط طوعية حداثية، وفي ثقافة مدينية، كما حدث في مرحلة «الثورة الصناعيّة» التي عرفتها رأسماليات بلدان الشمال.
وفي الوقت نفسه، فإنّ الأجيال الجديدة للعائلات النازحة منذ عقود قد فقدت مسبقاً كلّ ارتباط بالعائلة الموسّعة، وتحديداً بالقبيلة («العرش» في الدارجة المغاربية) الباقية بهذه الدرجة أو تلك في بيئتها الأصليّة. فهناك، في المناطق الداخليّة، ما زالت «فوضى السوق» تُواجَه بالتضامنيات الوشائجية. إذ يبقى الشاب في رعاية الأسرة بعد تخرّجه من الدراسة، أو حتى في حال فشله في استكمالها. وذلك عكس المدن الكبرى وأحيائها الشعبيّة، حيث يعجز نموذج الأسرة الضيقة على لعب دور الحماية والسند. وهو «ما يجعل الشابّ عرضة الى تأطيرات أخرى تشعره بالانتماء»، كما يرى.
ومن نتائج ذلك، حسب الباحث، أن ينكفئ شباب تلك الأسر على أنفسهم لينشئ تدريجياً «مدنًا مضادَّة وثقافةً مضادّة»، تتمظهر طوراً في «المِزود» (أحد أنواع الغناء المنتشر في الأحياء الشعبية)، وطوراً في فنّ «الرابّ» أو في الاقبال على المساجد. هذه المناخات مناسبة لنشوء وتبرعم المدّ السلفي الجهادي، فـ«حيث فشلت الحداثة يتبرعم ما قبلها».
حصانة من هجمات الإعلام
في السياق نفسه، يمكن التعريج على مسألة ثانية قد تساعد على فهم استمرار جاذبيّة الخطاب السلفي الجهادي في أوساط الشباب المُهمَّش. وهي قدرة هذا التيّار على تجاوز ما يتعرّض له من تغطية إعلاميّة سلبيّة عموماً. وبغضّ النظر عن تقييم مدى دقّة تغطية وسائل الإعلام التقليدي (القنوات التلفزية والإذاعات والجرائد)، وتحديداً تلك المحسوبة على «العلمانيين»، يمكن ملاحظة حدّة النقد الذي يوجّهه اليها السلفيّون (وهم يشتركون في ذلك مع بقيّة تيّارات الاسلام السياسي، كحركة النهضة، وحزب التحرير و«روابط حماية الثورة» التابعة للأولى الخ...) ووصفهم لها بـ«إعلام العار». إذ على عكس الشرائح الوسطى والمترَفة الحاملة لقيم «حداثيّة» أو «يساريّة» (والمتمركزة عموماً بوسط المدن الكبرى وأحيائها «الفخمة»)، لا يملك شباب الأحياء الشعبيّة (خاصّة أولئك المنقطعين عن التعليم) فضاءات عديدة للترفيه أو لتداول قضايا الشأن العامّ. وهو ما يعطي أهمّية محوريّة للمساجد بدرجة أولى، وكذلك لمنتديات النقاش وصفحات الشبكات الاجتماعية على الانترنيت، حيث يتميّز السلفيون بنشاط لافت. هذا الى جانب احتكاكهم السهل مع أقرانهم في المقاهي الشعبيّة لأحيائهم، حيث يُقضي الشباب المُعطّل عن العمل فترات طويلة من يومهم. وهي فضاءات تتميّز بتواصل اجتماعي سهل (عكس مقاهي وصالونات شاي المدن وأحياء الأثرياء) وبكثافة بشريّة عالية.
مفارقة التميّز عن اليسار: هم أكثر شعبية!
يُلاحظ أنّ هذه التيّارات تتميّز عن التيّارات اليساريّة مثلاً (وهو ما يمكن أن يُعتَبَر مفارقة الى حدّ ما) بالانتماء الجغرافي والسَكَنِي لمعظم ناشطيها الى المناطق التي فيها تواجد كثيف للفئات الشعبيّة. هناك، يتميّز السلفيون بنشاط «تثقيفي» كبير متمثّلاً في الدروس اليوميّة التي يلقونها على مسامع الشباب الذي يؤمّ دور العبادة (الشيخ كمال زرّوق أحد أهمّ الأمثلة في هذا الميدان). الأمر الذي جعل ذلك المصدر القريب من مركز الدراسات الاستراتيجيّة يصف التيّار السلفي الجهادي بأنّه «أكثر حركة سياسيّة في تونس تهتمّ بالتكوين الفكري لمنتسبيها».
هذا الواقع المميّز يسمح بإقامة التيّار لما يشبه المصفاة التي يمرّ من قناتها الخطاب الاعلامي «النازل» من القنوات التلفزيّة «المناوئة». فهذا الخطاب يخضع لما يشبه عمليّة تفكيك ثمّ إعادة تأويل من قبل «قادة الرأي» المحلّيين، كما يصفهم بول لازارفالد والياهو كاتز صاحبا نظريّة «التواصل على طابقين». فحسب هذه النظريّة المعروفة في علم التواصل، يخضع الخطاب الإعلامي في مرحلة أولى الى عمليّة «تلقّف» من «قادة الرأي» الذين يستوعبونه بشكل جيّد. ثمّ يقرّر هؤلاء، في مرحلة ثانية، حسب مصالحهم وميولهم الايديولوجيّة والسياسيّة الكيفيّة التي يعيدون بها تأويل ذلك الخطاب وإيصاله الى عامّة المتلّقين. ولا شك في وجود وجه مقارنة بين هذه العملية والدور التواصلي المحوري الذي يقوم به شيوخ التيّار و«علماؤه» في المساجد وغيرها من الفضاءات المتوفّرة للشباب بالأحياء الشعبيّة.
عاملا ضعف الوشائج العضويّة التقليديّة و«الحصانة التواصليّة» قد يساعدان اذاً على بداية تلمّس فهم أكثر عمقاً لقدرة التيّار السلفي الجهادي على الانتشار في أوساط الفئات الشعبيّة. وهي مسألة تهمّ التيّارات اليسارية في تونس والعالم العربي، خاصّة اذا حاول المرء فهم ضعفها الحالي مقارنة بنجاح قوى يساريّة أخرى (في أميركا اللاتينية والهند على سبيل المثال) في التجّذر الى حدّ كبير داخل هذه الأوساط، بما سمح لها في بعض الحالات باكتساح صناديق الانتخاب.