تصدّر خبر هزيمة الإسلاميين في تونس بالانتخابات التشريعيّة في 26 أكتوبر/تشرين الأوّل الماضي، ممثّلين بحركة النهضة ذات الأصول الإخوانيّة، أمام حزب "نداء تونس" الصفحات الأولى لجلّ الجرائد العربيّة والغربيّة. وهو خبر هامّ بحقّ. فلأوّل مرّة في التاريخ السياسي العربي الحديث ينهزم الإسلاميون في انتخابات حرّة أمام منافسين "علمانيين". لكن كيف حصل ذلك؟ وما الذي يمكن أن تعنيه هذه النتيجة من تداعيات داخلية، وماذا عن أبعادها الإقليمية؟ وكيف تبدو آفاق الانتخابات الرئاسيّة التي تجري دورتها الأولى نهاية هذا الشهر؟
لماذا خسر الاسلاميّون؟
نجح الباجي قائد السبسي، الوزير السابق في عهد بورقيبة والرئيس الأوّل للبرلمان في عهد بن علي، في أن يقدّم نفسه كـ"أملٍ للخلاص والتغيير" لجزء هامّ من المجتمع التونسي وذلك رغم تقدّمه في السنّ (89 عاما). إذ توفّق في جمع شتات الجزء الأهمّ من كوادر ورجال أعمال نظام بن علي وحزبه المنحلّ، "التجمّع الدستوري"، ممّن لم يختاروا الانضمام لحزب النهضة وبقيّة الأحزاب "الدستوريّة". وحدّ في حزبه ذاك من تضرّروا من الثورة بالاضافة لليبراليين ونقابيين ويساريين سابقين يشتركون في خوفهم من المشروع "الرجعي" لحركة النهضة (ومن تمظهراته مسودّة مشروع النهضة للدستور، التي تضمّنت "الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع"، وبعث مجلس أعلى إسلامي). وإلى جانب الكاريزما "البَلديَّة" العتيقة للسبسي (كإبن برجوازية مدينة تونس القديمة وبعض ضواحيها الشماليّة)، كان أكثر ما ساعد الرجل هو أخطاء وإخفاقات حركة النهضة. وأهمّها: ضعف الكفاءة، والعجز عن تقديم أجوبة شافية على المطالب الاجتماعية، وتساهلها الكبير مع التيّارات السلفيّة في النصف الأوّل من فترة حكمها. وكذلك تهميش النهضة لحليفيْها في "الترويكا" الحاكمة، حزبيْ "المؤتمر من أجل الجمهورية" و"التكتل من أجل العمل والحرّيات".
ثلاثة أسباب أخرى تفسّر خسارة النهضة. الأولى، طبيعتها المحافظة سياسيا، التي جعلتها تفضل عند استلامها الحكم محاولة استمالة قواعد حزب بن علي وكوادر منظومته الأمنيّة والقضائيّة والإداريّة، على محاسبتهم وتطهير الدولة منهم. وبالتوازي مع ذلك، سمحت لهم بتأسيس أحزاب وأفرج عن وزراء ومعاونين بارزين في عهدها، تحوّل البعض منهم إلى مرشّحين رئاسيين في الانتخابات الحاليّة. ولم تنجح النهضة في مساعيها المتأخّرة لمحاصرتهم جماهيرياً وقانونياً، بعد أن فوجئت بالقدرة الأكبر لحزب نداء تونس على استمالة كوادر النظام السابق وعلى مواصلة تمثيل مصالح برجوازيّة العاصمة والساحل، والاحتفاظ بدعم القاعدة الاجتماعية التقليديّة للحزب الحاكم منذ الاستقلال.
وبازدياد الاستياء الشعبي من سياساتها الفاشلة، وعلى وقع زلزال اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد في شباط/فبراير 2013، وتعاظم خطر الإرهاب، بدأت النهضة تحاول تهدئة غضب الشارع والحراك الاجتماعي المتصاعد.. بمحاولة التوافق مع غريمها الأقوى، نداء تونس. فتراجعت عن سياسة المواجهة العنيفة لخصومها التي استخدمت فيها "روابط حماية الثورة" الموالية لها، وتخلّت عن سنّ قانون "تحصين الثورة" الذي كان يهدف إلى منع "أزلام نظام بن علي" من النشاط السياسي. كما عارضت وضع سقف لسنّ المرشّحين للرئاسة في الدستور، ما سمَح لقائد السبسي بالترشّح. وازداد تراجعها بعد توحّد المعارضة ضدّها إثر اغتيال النائب القيادي بالجبهة الشعبيّة محمّد البراهمي في 25 تموز/يونيو 2013، إذ اضطرّت إلى قبول التسريع في إنهاء المرحلة التأسيسيّة وكتابة الدستور أثناء "الحوار الوطني" الذي رعاه أساساً اتّحاد الشغل واتّحاد الأعراف (ارباب العمل والمهن والحرفيين)، وبمباركة غربيّة.
السبب الثاني، هو الحرص الواضح للدول الغربيّة المؤثّرة، تحديدا الولايات المتحّدة وفرنسا وألمانيا، على أن تكون تونس "النموذج الديموقراطي" الناجح في المنطقة، وهو ما يفترض وجود توازن بين قوّتين سياسيتين كبيرتين تحت سقف شروط المنظومة الليبراليّة المعولمة. أمّا السبب الثالث فكان تداعيات تغيّر المشهد الإقليمي، وتحديدا سقوط الإخوان المسلمين في مصر وتراجع سيطرة حلفائها في ليبيا، والصعوبات التي واجهها مؤخّرا حليفاها في أنقرة والدوحة. وأفضت هذه العوامل الثلاثة (وغيرها) إلى اقتناع قيادة النهضة بضرورة ترك الحكم منذ عام، في كانون الأول/ ديسمبر 2013، والقبول بحكومة "تكنوقراط" محايدة سياسياً، ترّأسها مهدي جمعة المدعوم من سفراء "الدول الثماني" ومن اتحادّ الأعراف، كُلّفت بقيادة البلاد حتى تنظيم الانتخابات الحالية.
وعلى خلفيّة هذا المشهد، عرف حزب نداء تونس كيف يستثمر أجواء الخوف من "الإرهاب" والحنين إلى "الأمن والاستقرار الضروريّين لعودة الحركة الاقتصاديّة"، ليعبّر عن خيبة أغلب التونسيين من حكم "الترويكا". فنجح في إقناع الكثيرين منهم بخطابه عن "استعادة هيبة الدولة" و"المحافظة على الإرث الحداثي البورقيبي والنمط المجتمعي التونسي". كما استفاد في ذلك من الماكينة الحزبيّة والانتخابيّة القويّة التي ورثها عن حزب بن علي المنحلّ.
ذوبان "الوسط" والشرخ الجهوي
أثبتت الانتخابات الأخيرة مدى تفاقم حالة الاستقطاب الثنائي الحادّ الذي عرفته البلاد في السنتين الأخيرتين، بين حزبي نداء تونس والنهضة. إذ مال أغلب ناخبي المعارضة إلى خطاب الحسم مع الترويكا، ونجحت دعوات نداء تونس إلى "التصويت المفيد" لصالحه في استقطاب الأغلبية الساحقة لمناصري الأحزاب "الحداثيّة". أمّا حركة النهضة فعلى الرغم من فقدانها نصف مليون صوت مقارنة بالانتخابات السابقة (في بلد تعداد سكانه 11 مليونا او يكاد، وناخبيه المسجلين أكثر قليلا من 5 ملايين)، فهي نجحت في المحافظة على كتلة انتخابيّة صلبة تقارب المليون صوت. إلاّ أنّ ما لفت الانتباه هو "الشرخ الجهوي" الذي بدا واضحاً في نتائج الانتخابات. إذ صوّت الشمال والساحل بكثافة لصالح نداء تونس، وولايات الجنوب لصالح النهضة، فيما كان حجم التصويت لهما في ولايات الوسط متقاربا.
وكان من نتائج حالة الاستقطاب الحادّ الانسحاق شبه التامّ لأحزاب "وسط اليسار" و"وسط اليمين". بل أنّ أحزاباً عريقة مثل حزب المسار (الوريث التاريخي للحزب الشيوعي التونسي سابقاً) وحزب التكتلّ (بقيادة مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي) وحزب المؤتمر (بقيادة الرئيس الحالي المنصف المرزوقي) دفعت غالياً ثمن تحالفها: في المعارضة مع نداء تونس بالنسبة للأوّل، وفي السلطة مع النهضة بالنسبة للأخيريْن. وكذلك كان حال الأحزاب التي تميّزت بتذبذب مواقفها، وحاولت بخطابها "المعتدل" التموقع في منتصف الطريق بين قطبيْ المعارضة والسلطة. وهو ما حصل مع الحزب الجمهوري بقيادة أحمد نجيب الشابّي، المعارض البارز السابق لبن علي، والتحالف الديمقراطي بقيادة محمّد الحامدي.
وحدَها الجبهة الشعبيّة (تحالف لأحزاب يسارية وقوميّة) نجحت في الصمود والبروز كقوّة سياسية ثالثة ومتمايزة عن حزبيْ نداء تونس والنهضة. فعلى الرغم من أنّها جاءت بعيدةً خلفهما بـ 15 مقعدا، وثلاثة مقاعد لمستقلّين قريبين منها، إلاّ أنّ أحزابها نجحت، على عكس بقيّة الأحزاب التي شاركت في الانتخابات تلك، في رفع عدد مقاعدها وفي عدم خسارة نسبة كبيرة من المصوِّتين لها. ولا شكّ في أنّ التحالف اليساري استفاد من صيغة "أكبر البقايا" في النظام الانتخابي، التي تعطي مشهداً برلمانياً أكثر تنوعًا. إلاّ أنّ هذا النجاح النسبي يدلّ بالأساس على أنّ جزءاً هاماً من التونسيين أراد مكافأة الطرف السياسي الذي استهدفه الإرهاب رأساً، والذي كان الأشرس في تصدّيه لحكم النهضة.
ما يلاحظ أيضاً هو العزوف الكبير عن المشاركة في الانتخابات (صوَّت 3 ملايين و266 ألفا من الـ5 ملايين و285 ألفا مسجّلين، ومن جملة 7 ملايين تونسي بلغوا سنّ الانتخاب). وهو ما يدلّ على حالة الإحباط الواسعة التي يعيشها التونسيون بعد أن بعثت فيهم الثورة آمالا كبيرة. وكذلك الصعود المفاجئ للاتحاد الوطني الحرّ، حزب رجل الأعمال الشابّ سليم الرياحي، الذي تحوم شبهات حول أمواله الطائلة التي جمعها أثناء إقامته في ليبيا قبل الثورة.
الانتخابات الرئاسيّة: حسم المعركة أم فرض التوازن؟
رغم الصلاحيات المحدودة نسبيًا للرئيس في الدستور الجديد، إلاّ أنّ وضع اليد على هذا الموقع يُعتبر رهاناً بالغ الأهمية بالنسبة للمرحلة المقبلة. إذ لم يتحوّل التداول السلمي على الحكم إلى تقليد راسخ بعد، كما أنّ هناك حالة من الخوف وانعدام الثقة المتبادليْن، خاصّة منذ بدء عمليات الاغتيالات. فجزء من المعارضة يتهّم حركة النهضة بالتواطؤ مع الإرهاب، وليس بالمسؤولية السياسية عنه فحسب. فيما تخشى قواعد النهضة من "تغوّل" حزب الباجي قائد السبسي، إذا وصل الأخير لسدّة الرئاسة، ومن أن يعيدهم "الاستئصاليون" داخله إلى السجون.
كما أنّ من أهمّ صلاحيات الرئيس، الذي يُنتخب بالاقتراع العامّ المباشر، ضبط سياسات الأمن القومي والعلاقات الخارجيّة، وله كذلك الحقّ في حلّ البرلمان.
ولهذه الأسباب، يبدو الأمر حالياً كلعبة شطرنج معقّدة. فحركة النهضة، التي لم ترشّح أحداً للرئاسة، (وفاء لعهد قطعته في الفترة السابقة حين كانت في السلطة، وذلك كجزء من التسوية الاخيرة ولطمأنة خصومها والناس إلى أنها لا تتطلع للهيمنة)، ما تزال تأمل في إمكانية تشكيل تحالف حكومي مع نداء تونس. وهو ما جعلها تُحجم عن دعم ترشّح المرزوقي، وتترك حرّية الاختيار لقواعدها. إلاّ أنّ جلّ المراقبين يعتقدون أنّ قرارها ذاك يعني دعماً ضمنياً لحليفها الأوفى ذاك دون المجازفة باستعداء قائد السبسي المتعطّش لدخول قصر قرطاج. قائد السبسي والمرزوقي، يتنافسان على الرئاسة، وقد حاز الأول على 39 في المئة من الأصوات بينما حصل الثاني على 33 بالمئة. وأما حمّه الهمّامي، المعارض اليساري لنظاميْ بورقيبة وبن علي، فدخل كمنافس ثالث إلى سباق الرئاسة ونال 8 في المئة من الأصوات. وكل ذلك عزز من خاصية التنوع وخفف خصوصا من غلواء الاستقطاب السابق. وستجري دورة ثانية من الانتخابات الرئاسية بعد شهر.