"من الممكن أن يكون كل شخص في هذا العالم يشعر بالذعر من الشخص الآخر".
جون ستاينبك
****
إننا وحيدون على أية حال، وخائفون. قلت هذا وأنا أسير في أزقة حي "جيهانغير" الخالية من المارة والسائحين على غير العادة، الحي الذي يعد أشهر أحياء مدينة إسطنبول، تظنُّ حين تسير فيه أنَّ ساكنيه لم يدخلوا إلى بيوتهم منذ زمن بعيد، فالحياة هناك تنبض مثل قلب لاعب كرة القدم. أنَّى التفتَّ ترى الوجوه والضحكات، وتسمع الموسيقى تتسرب من البنايات العالية، والحانات العتيقة، والمقاهي العامرة بالرواد والعاشقين.
لكن هذا تغير كثيراً وسريعاً، بعد الأخبار المؤكدة عن تفشي فيروس"كوفيد- 19"في المدينة، ووجود إصابات عَدّادها بدأ يرتفع بشكل يومي، ومشاهدات الناس وما يسمعونه من أخبار المدن الأخرى والبلاد المجاورة والبعيدة أيضاً، التي يفتك بها المرض، ويشيِّعُ فيها الأحياء الأحباء. البلاد التي تحتفي نوافذها بالانتظار، والشوق إلى الطُرِق واللافتات، وخطى الذاهبين إلى الحياة والعائدين منها.
إنه الخوف، الخوف من الآخر، الخوف من الاقتراب، الخوف من اللمس، الخوف من أكثر التفاصيل الإنسانية جمالاً ولطافة. لكي ننجو علينا أن نحافظ على الحياة من ممارسة أسبابها. كيف يمكن لهذه الغرابة أن تستحوذ على يومياتنا، وكيف لهذا الهاجس أن يكون طريقتنا في البقاء، بينما يتسرب الوقت من أعمارنا كما يتسرب الرمل من بين الأصابع.
لقد خبرت هذا الخوف مسبقاً، خوف الآخرين من الآخرين، ومشيت في الشوارع الخالية، ووقفت كثيراً أمام تلك النوافذ الحزينة، وتحسستُ طويلاً وحدة المدينة، وانتظرت بكلِّ البكاء على مداخل صمتها الرهيب. لكن، كان ذلك بسبب الحرب، بسبب الرصاص والوشايات وأعين الجنود الخائفين، فكانت العزلة حينها ملاذ المتشبثين بالحياة، كما يتشبث اليتيم بعباءة أمه في زحمة العابرين.
أنا الذي نجوتُ من الحرب، أخافُ من الجموع، أخافُ من الجنودِ الواقفينَ على رؤوسِ الطرقات، ومن الطرقات أيضاً، أخافُ من النوافذِ حينَ تتسللُ منها أصواتُ الطائرات، وأخافُ من سيارات الإسعاف، والأطباء، أخافُ من العَلَمِ، والنشيدِ الوطني، ونشرات الأخبار، أخافُ من الخيمةِ، والمنظمات الإغاثية، أخافُ من الهلالِ الأحمر والصليب الأحمر، واللافتاتِ السوداءِ على الجدران، وأخاف من الجدران. أنا الذي نجوتُ من الحرب، أخافُ من الحقائب، وجوازات السفر، والمطارات. أنا الذي نجوت، أخاف من الرحيل.
في 16 تشرين الثاني / نوفمبر 2014 وصلت إلى إسطنبول، خارجاً من الجحيم، أو قادماً من العراق، لا فرق في ذلك. كانت السماء فضية، والشوارع يبللها المطر، وأنا، كنت شارداً في انعكاسات الضوء على اللافتات والنوافذ، أحمل حقيبةً وحيدة، والكثير من الذكريات والانكسارات وتجارب النزوح. وكانت خدوش الحرب وهزائمها واضحة عليَّ، كأنني هندي أحمر نجا من معركة "الركبة الجريحة".
الحياة في إسطنبول سريعة جداً، وحديثة على من هم مثلي، نحن القادمين من البلاد البطيئة، والرديئة. الحياة هنا تمشي كعارضة أزياء على منصة طويلة، وترقص السالسا والسوينغ والتانغو، وتعزف الغيتار على قارعة الطريق، وتَسْكر في الحانات، وتصلي في الجوامع، وتتسول في الشوارع، وتسرق في الأحياء الشعبية، الحياة هنا تفعل كل شيء، وتفتعل كل شيء، الحياة هنا مثل متاهة "لونغليت هيدج"، لم أخرج منها بعد.
أنا الذي نجوتُ من الحرب خبرت هذا الخوف مسبقاً، خوف الآخرين من الآخرين. مشيت في الشوارع الخالية، ووقفت كثيراً أمام تلك النوافذ الحزينة، وتحسستُ طويلاً وحدة المدينة. كان ذلك بسبب الرصاص والوشايات وأعين الجنود الخائفين. فكانت العزلة حينها ملاذ المتشبثين بالحياة، كما يتشبث اليتيم بعباءة أمه في زحمة العابرين.
ربما كان عليَّ ألاّ أُعوّد نفسي، وألاّ أُدرّبها على النسيان. لم أنس في الحقيقة، لكنني كنت أتناسى كلما سنحت فرصة لذلك. والفرص هنا كثيرة جداً، كنت أخلق حياةً مستعارة، اقترف فيها الفرح، وأُغنّي، وأَمشي في البلاد الجميلة، كما يمشي نورسٌ جنوبي على ضفاف الشمال الشاسعة. آكل الروبيان على سواحل القرن الذهبي، كسائحٍ جاء يكتشف البلاد على طريقته، وألتقط الصور. لكنَّ صوتاً ما كان يلكُزني في كل مرة، صوتٌ ينهض من الأعماق، يقول لي: ولكنَّك الغريب، جئتَ منفياً إلى هذه البلاد، جئتَ مكسوراً، ومصاباً بداء الحرب وأصوات الرصاص، تمشي فتتعثر بحبال خيمة نُصبَتْ على خوف في العراء، تحملق في المعالم القديمة فتشبُّ في عينيك أعمدة الدخان.. تتصاعد من أحياء المدن التي حرَّقتها المدافع والصواريخ، تصغي لعازفة الكمان في شارع الاستقلال، فيشقُّ مسامعك صوت طفلة على "جسر بزيبز" (1)، وهي تبحث خائفةً عن أُمّها بين الحشود الهاربة من الموت..تجلس في المقهى، فيطردك أبٌ يفترش أرصفة بغداد منذ أن سلب الغزاة بيته ومدينته..تلتقط صورةً لسور القسطنطينية، فتحجب السورَ عنك بوابةُ الرمادي التي شوَّه الرصاص ملامحها..تقف على جسر البوسفور، فتكاد أن تسقط من أعلى لشدَّةِ الانفجار الذي ضرب جسر الورّار فقطَّع أوصاله..تدخل جامع السلطان أحمد، فيشعل دمك صوت المؤذن في جامع الشيخ عبد الجليل..تتجول في أسواق إسطنبول القديمة، فتشمّ رائحة القرنفل و"الطُرْشي" في نهاية شارع الأطباء، أشهر شوارع الرمادي القديمة، وتسمع صاحب "البَسْطَة" عند باب جامع الرمادي الكبير ينادي: "حاجة بألف.. حاجة بألف.. حاجة بألف" أنّى يممتُ ستلاحقك الذكريات والرائحة.
السماءُ فضيةٌ هذه الليلة، وكئيبة، تترهلُ على رؤوس البنايات العالية، البنايات التي تقف طوال الوقت واجمةً وعالية، البنايات التي تشبه قلبي هذا المساء، قلبي الذي يشبه البنايات العالية التي تقف واجمةً ووحيدة، قلبي الفضّي الكئيب، المريض بالحنين والأغنيات الضائعة، إنَّه يزعجني الآن، ويؤلمني، إنَّه ثقيلٌ في صدري مثل ورمٍ خبيث، وباردٌ كقطعةٍ من جليد، آه يا قلبي الفضي الكئيب، يا قلبي المريض بالحنين والأغنيات الضائعة، يا قلبي الثقيل مثل ورمٍ خبيث، والبارد كقطعةِ جليد، يا قلبي المحكوم بالموت.
المدن تشبهنا، عندما نحزن ونمرض ونخاف، نتكئُ على جدار العزلة، وتتكئُ هي عليه أيضاً، نلوذ بالصمت، وتلوذ به كذلك، أستطيع تحسس ذلك وقراءته في مدينة إسطنبول، أعرف حزنها في البنايات العالية والواجمة، والدروب الخالية، ونظرات القطط والكلاب التي تفتقد مداعبة المارة، أعرفه من شرود المارة القليلين، واستعجالهم للاختفاء، أعرفه من صوت النوارس وكأنها تنادي على الناس أن لا تختبؤوا.
لكنَّه الوباء. ذلك الوحش الذي ينبش في أنقاض حيواتنا وينتشل منها ذكرياتنا القديمة عن الوحدة، وخوفنا من الفناء القريب والمفاجئ. الوحش الذي يستدعي حذرنا وريبتنا من الآخر، ويؤثث عزلتنا بالصور الغائمة عن المدن والبلاد، ويُعيد ترميم جدار حزننا العالي، الذي نعمل على هدمه لبنةً لبنة. الوحش الذي يحيط بنا ولا نراه، ونشعر بوجوده لكننا نعجز عن طعنه بثأرنا، يغرس خنجره الحاد في إدراكنا، ويهبنا نذوراً للعزلة والخوف.
1 -جسر خشبي صغير يوصل محافظة الانبار ببغداد، تكدس عليه ألاف النازحين بعدما منعوا من دخول العاصمة أثناء هربهم من تنظيم داعش ومن المعارك الحربية. وقد استمرت المأساة لاشهر بدءاً من أيار/مايو 2015.