عراقيّات وثائرات

المسيرة غير المسبوقة لتحقيق الوحدة الشعبية تُظهر أن العراقيات والعراقيين قد بدأوا يتعافون من عقودٍ من الحرب والتفتت الاجتماعي.
2020-03-08

زهراء علي

استاذة وباحثة في علم الاجتماع، من العراق


شارك
| fr en
تصوير: زهراء علي - العراق

يشهد العراق منذ شهر تشرين الأول / أكتوبر 2019 تحولاً مفصلياً في تاريخه، مع الحركات الشعبية التي تطالب بتغيير جذري في البلاد. الثورة العراقية هي انتفاضة مجتمعية ينضوي فيها طيفٌ واسع من المجتمع، مِن المحرومين والمهمّشين ومسلوبي الموارد والسلطة.

حوّلت مشاركة النساء الواسِعة - من الطالبات الشابات إلى المسنّات - هذه الثورة إلى ثورة شعب. وعلى الرغم من كون مشاركة النساء لافتة للنظر، إلا أنّ هذه المشاركة ليست مثيرة للاستغراب، فهي تُمظهِر الحقائق والتحوّلات المجتمعية العميقة التي وجدت لنفسها مساحة للتعبير في الشوارع العراقية وساحات الاحتجاج.

استعادة الفضاء العام

منذ التسعينيات على الأقل، أثقلت الحروب والعقوبات الاقتصادية القاسية كواهل النساء العراقيات اللاتي اضطررن إلى تحمّل الأعباء المعيشيّة المجتمعية على أكتافهن، كمعيلات أساسيات لأسرهنّ وكعاملات وراعيات يتكفّلن بتأمين المعيشة والاستمرار. كما حولت عقود من الحروب والأزمات الاقتصادية المساحات العامة إلى مناطق معسكرة، يسيطر عليها الذكور إلى حد بعيد.

بيد أنّ ساحة التحرير في بغداد وساحة الحبّوبي في الناصرية وساحات الاحتجاج الأُخرى في جميع أنحاء البلاد، تحوّلت إلى أماكن يمكن لأولئك الذين يُنظَر إليهم عادة باحتقار وفوقية وتمييز أن يتواجدوا فيها بقوة. تستعيد النساء المساحات العامة في المسيرات والتظاهرات واحتلال الساحات والتنظيم، حيث يجعلن أنفسهنّ مرئيات ويُسمِعنَ أصواتهنّ المرتفعة، سواء في الخطوط الأمامية التي تواجه وحشية قوات الأمن العراقية أو من خلال أعمالهن الفنية التي تزيّن ساحات الاحتجاجات، أو من خلال الاعتناء بالمتظاهرين الجرحى والقيام بأعمال الطبخ والتنظيف.

تقوم الشابات والشبان كذلك بإعادة تشكيل مفهوم "العادي" بشكل يتحدى الهرميّات الاجتماعية والأعراف المجتمعية السائدة، بما في ذلك التقسيمات على أساس الطبقة أو نوع الجنس. في ميدان التحرير ببغداد، تصادق شابة من الطبقة المتوسطة من المنصور شاباً من الطبقة العاملة من مدينة الصدر، ويشبك المتحابّون الأيدي بوجه الرصاص الحيّ لقوات الأمن. هكذا، وبشكلٍ يومي، يتمّ تقبّل الاختلاط بين الجنسين، بما لا يترتب عليه أي تحرّش جنسي أو استهجان.

في هذه المساحات، تتمّ حياكة نسيج اجتماعي جديد من خلال التنظيم الجماعي، حيث تجتمع مكوّنات المجتمع العراقي وتتفاوض وتبني روابط وقواعد مجتمعية جديدة، يتساوى فيها الفقراء غير المتعلمين بالطبقة الوسطى المتعلمة، ويجتمع الرجال والنساء والشباب والمسنّون في مساحة موحّدة لبناء حركة تشاركيّة. وفي واقع الأمر، فإنّ المتظاهرين يقومون سوياً بصناعة "أشكال جديدة للدولة" من خلال توفير الخدمات الصحية والتعليمية المجانية وتنظيف الشوارع وطلائها، فضلاً عن ترميم الصروح وتجميل الأماكن العامة من خلال الفنون والتصميمات التي يبتدعونها.

"نساء ثورة تشرين ثائرات، ولسنَ عاهرات"

في حين أن حجم ومستوى مشاركة النساء لافت جداً للنظر، غير أنّه ليس مستغرباً على الإطلاق. فإحدى أولى المظاهرات التي نُظّمت في العراق ما بعد عام 2003 كانت مسيرة لحقوق المرأة، بغرض الاحتجاج على محاولة النخبة السياسيّة الاسلامية المحافظة التشكيك في أسس حقوق النساء في قانون الأحوال الشخصية العراقي. بعد بضعة أشهر فقط من الغزو الأميركي، حاولت النخبة السياسية الإسلامية-الشيعية، المحمولة إلى السلطة من قِبل الإدارة الأمريكية وحلفائِها، وضع قوانين طائفية بدلاً من تلك التي كانت موجودة في حينه، والتي توفّق بين الرأيين الشرعيّين السنيّ والشيعي. وعلى الرغمَ من قطع الطريق على هذه المحاولات من قِبل الحركات النسوية، إلا أنّ الأحزاب الإسلامية الشيعية تجدّد باستمرار محاولاتها لتبني قانون طائفي ومُحافِظ للأحوال الشخصية، وكان آخر تلك المحاولات اقتراح "القانون الجعفري".

تقوم الشابات والشبان كذلك بإعادة تشكيل مفهوم "العادي" بشكل يتحدى الهرميّات الاجتماعية والأعراف المجتمعية السائدة، بما في ذلك التقسيمات على أساس الطبقة أو الجنس. في ساحة التحرير ببغداد، تصادق شابة من الطبقة المتوسطة من المنصور شاباً من الطبقة العاملة من مدينة الصدر، ويشبك المتحابّون الأيدي بوجه الرصاص الحيّ لقوات الأمن.

إنّ نظام ما بعد عام 2003 هو نظام طائفي - جندري (أو “Sextarian” كما وصفته الباحثة النسوية مايا مكداشي)، بمعنى أنّ نظام المحاصصة لم يعتمد فقط على الاختلاف الاثني والديني والطائفي، ولكنه يعتمد أيضاً على التفرقة على أساس الجندر. فالطائفية ترتبط بنوع الجنس كذلك، كما تعمل سياسات الهوية على المعايير الجندريّة والعلاقات بين الجنسين، وخاصة على الوصاية على أجساد النساء. وإن كانت السياسة الجنسانية المحافِظة قد بدأت بالفعل خلال فترة العقوبات مع "الحملة الإيمانية" لنظام البعث العراقي، فإنّ تفاقم حالة التفتّت الاجتماعي والاقتصادي والسياسي منذ العام 2003، بالإضافة إلى طبيعة النخب السياسية التي وصلت إلى سدّة الحكم، خلقت معاً أشكالاً متطرّفة من السيطرة الاجتماعية والتيارات الرجعية.

إنّ القوى الطائفية الأبويّة لا تهيمن فقط على الدوائر السياسية، بل إنّ هيمنتها تمتد إلى الشوارع عبر أذرعها المسلحة من مجموعات وميليشيات. فقد مثّل الاقتتال الطائفي بين عامي 2006 و2007، بالإضافة إلى الغزو الداعشي عام 2014، مظهران متطرفان من مظاهر العنف الطائفي والجندري. يقوم النظام الطائفي – الجندري بتدعيم سطوته عبر تعزيز الفروقات على أساس الطائفة والجندر، وهذا ما يتجلّى من خلال قيامه بفرض معايير موحّدة وصارمة للّباس، للنساء والرجال على حدّ سواء، مع الحدّ من الاختلاط بين الطوائف وبين الجنسين.

يبدو جليّاً في طبيعة العنف الذي تمارسه المؤسسة السياسية العراقية أنها تحاول بشتّى الطّرق، عبر قنوات الإعلام الخاصة بها، وكذلك عبر حملات وسائل التواصل الاجتماعي، أن تنالَ من الثورة عبر وصمِها بتهمة "الانحلال الأخلاقي". يُتّهم الثوار بكونهم منحلّين جنسياً وفاسقين، تحوم حولهم شتّى أنواع الشائعات وتهم أن تصرّفاتٍ "محرّمة" مفترَضة تحدث بين الشبان والشابات في خيم الاعتصامات في الساحات. يطالُ القمع النساء، ولا سيّما الشابات منهنّ، فتعمد الميليشيات لترهيب النساء وتخويفهنّ عبر العنف لثنيهنّ عن المشاركة في الاحتجاجات، كما في حالة خطف المتظاهرات مثل صبا مهداوي وماري محمّد، أو حتى قتلهنّ كما في حالة سارة طالب وزوجها عادل في البصرة أو قتل زهراء علي في بغداد.

يقوم المتظاهرون سوياً بصناعة "أشكال جديدة للدولة" من خلال توفير الخدمات الصحية والتعليمية المجانية وتنظيف الشوارع وطلائها، فضلاً عن ترميم الصروح وتجميل الأماكن العامة من خلال الفنون والتصميمات التي يبتدعونها.

كذلك تتم مهاجمة النساء على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. ففي حين أُطلِق وَسم (#بناتك_ياوطن) لدعم مسيرة النساء في 13 شباط / فبراير الفائت، فقد تمّ تحويله في حملة مضادة إلى وسم (#عاهراتك_ياوطن). لكنّ الجملة التي عَلت حائط النفق المؤدّي إلى ميدان التحرير، وكُتبت أيضاً على لافتات حملتها الشابات في المظاهرات، كانت تقول "نساء ثورة تشرين ثائرات ولسنَ عاهرات".

صوتُ النساء ثورة

منذ بداية ثورة تشرين الأوّل/ أكتوبر، قُتل أكثر من 700 محتجّ ، معظمهم من الشباب، بالرصاص الحي أو قنابل الغاز المسيل للدموع التي استخدمتها قوات الأمن العراقية والمليشيات التابعة لها، كما أصيب أكثر من 25 ألفاً وخُطف واختفى المئات. غذّى العنف المفرط والترهيب عزيمة المحتجّين على تكريم شهداء الثورة، وسرعان ما صارت أسماء الشهداء من أبرز شعارات الثورة ورموزها. أحد الشهداء الأوائل والرموز البارزة في الاحتجاجات كان صفاء السراي الذي عُرِف باسم "ابن ثنوة"، في إشارة إلى والدته "ثنوة" بدلاً من نسبته على أساس أنه ابن والده كما درجت العادة. تحوّل اسم "ابن ثنوة" إلى اسم شائع الاستخدام لوصف الثوريين، كما أنّ أسماء العديد من المتظاهرين والمتظاهرات باتت تشير إلى أمهاتهم بدلاً من أسماء آبائهم.

تتنوع النساء المشاركات في الثورة، حيث نجد الأم غير المتعلمة متوسّطة العمر تطبخ للمتظاهرين بعباءتها السوداء، والطالبة المثقفة من الطبقة المتوسطة التي تقود حلقات النقاش حول إصلاح القانون الانتخابي. كما نجد الشابات من العائلات المحافظة بملابسهنّ المعتادة مع الشابات اللواتي يتحدّين معايير اللباس المهيمنة.

تتجاوز الانتفاضة المطالب السياسية الضيقة. فالثوّار لا يسائلون فقط الاضطهاد الاقتصادي والسياسي الذي يمارَس من خلال الفساد والمحسوبية والتمييز، بل يعيدون النّظر أيضاً في المعايير الاجتماعية والمجتمعية للنظام التي تفرض أساليبَ حياة معيارية ومحافِظة. يطالب العراقيون من خلال شعار "نريد وطن" بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية وتأمين الدولة للخدمات وتفعيل مؤسسات الرعاية الصحية والتعليم والإسكان والتوظيف وضروريات العيش الكريم. كما يطالبون بالحرية: حريّة ألّا تُقتل بسبب الانتماء الديني أو الطائفي - أو بسبب رفض التماهي مع هذا الانتماء، وحرية التدين أو عدمه وحرية اللباس والتنقّل وحرية الاختلاف.

لم يقم المتظاهرون العراقيون بالمطالبة بالتغيير فحسب، بل قاموا أيضاً بتمثيل هذا التغيير وعيشه في تصرفاتهم، فيقترحون قواعد سلوك جديدة ويبنون معاً صيغة تعايش جامِعة. تتنوع النساء المشاركات في الثورة، حيث نجد الأم غير المتعلمة متوسّطة العمر تطبخ للمتظاهرين بعباءتها السوداء، والطالبة المثقفة من الطبقة المتوسطة التي تقود حلقات النقاش حول إصلاح القانون الانتخابي. كما نجد الشابات من العائلات المحافظة بملابسهنّ المعتادة مع الشابات اللواتي يتحدّين معايير اللباس المهيمنة. تجتمعن جميعهنّ في مساحة مشتركة ويرسمن استراتيجيات وينظّمن الاحتجاجات الأسبوعية، وهنّ يهتفن معاً "لا لا تقولون عورة، صوت المرأة يفجّر ثورة"، فيما هنّ مدركات تماماً للطبيعة المتمرّدة لمجرد وجودهنّ هناك.

في بعض الخيام القليلة، تجري مناقشة أجندات نسوية تتناول قضايا محددة تتعلق بحقوق النساء، بينما في معظم الخيام الأخرى تعتبر النساء أن الثورة قد قامت بإحداث التغيير بالفعل في العراق، وأن تحقيق أهدافها سيكون مفيداً للنساء كما للرجال. وفي أثناء تواجدهنّ في ساحات الاحتجاج، تعي الناشطات النسويات في المجموعات المنظَّمة وتحترمن الطبيعة العفوية والمفتوحة للانتفاضة التي ترفض الانضواء تحت أي نوع من أنواع الانتماءات.

نظام ما بعد عام 2003 هو نظام طائفي – جندري، بمعنى أنّ نظام المحاصصة لم يعتمد فقط على الاختلاف الاثني والديني والطائفي، ولكنه يعتمد أيضاً على التفرقة على أساس الجندر. فالطائفية ترتبط بنوع الجنس كذلك، كما تعمل سياسات الهوية على المعايير الجندريّة والعلاقات بين الجنسين، وخاصة على الوصاية على أجساد النساء.

إن تنوع أشكال مشاركة النساء، سواء كانت مشاركة فردية أو كعضوات في منظمات نسوية، يمكن معاينتها من خلال تحركات يوم المرأة العالمي، التي تُبرهن أن مصطلح "المرأة العراقية" الضيّق المستخدَم تاريخياً -غالبًا مِن قِبَل برامج سياسية ذكورية، علمانية كانت أم إسلامية – يتمّ استبداله عمليّاً بمصطلح "النساء العراقيّات" الجامعِ بشكل أشمل. هذه المسيرة غير المسبوقة لتحقيق الوحدة الشعبية تُظهر أن العراقيات والعراقيين قد بدأوا يتعافون من عقودٍ من الحرب والتفتت الاجتماعي.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه