"فروق التوقيت" بين الأجيال والتيارات السياسية في مصر

بعير في وجه حاسوب. هكذا ظهر الفارق بين ثوار يطلقون غضبهم عبر أحدث ما جاد به العلم في مجال الاتصالات، وسلطة أرسلت إليهم الجمال والبغال لتدوسهم في ميدان التحرير، فعادت الدواب القهقرى وهي تحمل على ظهورها بقايا رجال مبارك لتلقيهم في الدرك الأسفل من التاريخ. لكنها لم تلبث أن عادت من جديد وعلى ظهورها رجال جدد، يرتدون في معاصمهم ساعات حجرية، وينفخون في الرمل متوهمين أن بوسعه أن يغطي على
2013-01-25

عمار علي حسن

روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي من مصر


شارك

بعير في وجه حاسوب. هكذا ظهر الفارق بين ثوار يطلقون غضبهم عبر أحدث ما جاد به العلم في مجال الاتصالات، وسلطة أرسلت إليهم الجمال والبغال لتدوسهم في ميدان التحرير، فعادت الدواب القهقرى وهي تحمل على ظهورها بقايا رجال مبارك لتلقيهم في الدرك الأسفل من التاريخ. لكنها لم تلبث أن عادت من جديد وعلى ظهورها رجال جدد، يرتدون في معاصمهم ساعات حجرية، وينفخون في الرمل متوهمين أن بوسعه أن يغطي على الطمي، ويأخذ البلاد والعباد إلى القرون الغابرة.
هو إذاً "فرق توقيت" يجسد ويمثل المعضلة الرئيسية التي تعانيها مصر الآن بعد مرور سنتين على ثورتها. فارق بين من آمن منذ اللحظة الأولى بأنها ثورة لا بد من أن تُحدث تغييرا جذريا، وتكنس في طريقها ركام الفساد والاستبداد، وبين من اعتبرها فرصة تاريخية ليجلس على كراسي الحكم ثم يدير ظهره لكل شيء: دماء الشهداء وحاجات البسطاء، ورؤى الأذكياء، وأحلام الشعراء. وفارق بين من يرى أن التقدم هو الارتفاع إلى أعلى والسير إلى الأمام ومزاحمة الكبار على عظائم الأمور والأماكن والمكانات، ومن يتوهم أنه الهروب إلى دهاليز الماضي، وبين التوهم بأن العقيدة تحتاج إلى حراس، يزهقون الأرواح في سبيلها.
وفارق أيضا بين من يؤمن بأن الأمر الطبيعي هو أن يدخل التنظيم في عباءة الدولة وبين آخر يعتقد أن بوسعه أن يحشر الدولة في عباءة التنظيم. الخيار الأول طبيعي وحقيقي ومبرر ومفهوم، لا سيما في بلد كبير وعريق مثل مصر، استطاع عبر تاريخه المديد أن يهضم ثقافات ويذيبها، ويطوق نيات سيئة ويهزها حتى تتآكل، ويفرغها تباعا من مضمونها. وهو مبرر أيضا لأن كل الذين أنصتوا إلى الإخوان قبل الثورة ظنوا أن ما يحول بينهم وبين الدخول تحت طائلة الدولة هو وجود نظام مستبد فاسد يتربص بهم. لكن ها هم يجلسون مكانه ويحوزون ما هو أوسع من سلطاته، ومع هذا يصرون أولا على أن تبقى جماعتهم فوق الدولة أو بعيدا عنها أو دولة أخرى داخلها، ويصرون ثانيا على أن تأتي الدولة نفسها راكعة عن طيب خاطر وهي مغمضمة العينين رافعة يديها في استسلام ثم تهرع لتتدثر بعباءة الجماعة على صغر حجمها.
الخيار الثاني يثير السخرية فضلا عن الاشمئزاز، فضلا عن أنه ينم عن جهل وروح متوثبة للطغيان والاستحواذ ونفس شرهة تواقة للخطف والابتلاع... فإنه مستحيل التطبيق، فلا الجماعة لديها مشروع لاستيعاب الدولة أو حتى لإدارتها، ولا لديها من الخبرات والكوادر من بوسعهم أن يصنعوا قرارا رشيدا، أو يرتبوا أحوال الناس ومعاشهم على سنن الكفاية والعدل والرفاه. بل بدا شعارها الأثير "نحمل الخير لمصر" موضع تهكم شديد وجارح، بينما اختفى شعارها التاريخي "الإسلام هو الحل" بعد أن أدى دوره في الاستعمال السياسي الواقعي والعملي المتنصل من أي حمولات للمبادئ والقيم والمصالح العامة.
لكنه العناد الذي يورث الكفر، يدفع الجماعة، بعد أن صَدَّرت بعض رموزها في العقود الفائتة ليرسموا لها صورة معتدلة، كي تدخل هي تحت عباءة الزمن القديم، وتجري عليها معادلة "فرق التوقيت" بعد أن تحالفت مع التيار السلفي، الذي يعيد كل شيء إلى مكان أو زاوية راكدة ينقسم فيها العالم إلى فسطاطين، ويعاد من جديد وضع الجمل في وجه الحاسوب.
والإخوان لن يقروا بهذا، كعادتهم، وينكروا أن يكون ما يميلون إليه قديم إلى هذه الدرجة، ويزحزحوا التوقيت ولو على مستوى الشكل إلى عهد أقرب، لنجد فيه أن من يقف في وجه الحاسوب ليس بعيرا بل "نورج" يجاهد في سبيل أن يؤدي دوره، متغافلا عن أن الإنسانية قد عرفت أحدث ماكينات الزراعة والحصاد.
فإذا كان الراغبون في استعادة دور الجمال والجياد في الفتح والنصر وتشييد أركان الدول يثيرون الفزع والاشمئزاز، فإن من يصرون على إعادة استعمال النورج، يثيرون الغيظ والاستغراب، حين يتنكرون لشروط اللحظة الراهنة ومقتضياتها، ويتصرفون وفق منطق هجره العالم وأنكره، وكان الثوار يدركون جيدا أنهم يدوسونه بأقدامهم الزاحفة في الشوارع، وهم يصرخون "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية".
العودة إلى الوراء ظاهرة في "الدعاية الإخوانية" التي لم تدرك حتى الآن أن العالم تحول إلى حجرة صغيرة، وأن أسلوب ترويج الأكاذيب وتشويه الخصوم والمنافسين وإرهابهم لم يعد يصلح أن يعيد الى القمقم شعبا غضب وثار. وعلى الوجه الآخر، فإن الدعاية الإيجابية لمصلحة السلطة، والتي تحاول أن تصور رئيس الدولة على أنه ولي الأمر الذي تجب طاعته في المنشط والمكره، لا تلقى قبولا لدى شعب يتابع قصص وحكايات المهانة التي يكابدها رئيسه السابق في سجنه، وهو الذي ظن أنه في عصمة من المحاسبة والمساءلة وأن كل شيء يجري وفق مشيئته.

كما أن "النموذج المملوكي" الذي يرهن الدولة لمصلحة أمراء الجند، ليس له محل من الإعراب ولا الوجود، ولا يمكن لمجتمع حلم ببناء مؤسسات حديثة، تعزز المسار الذي بدأه محمد علي وراكم عليه من جاء بعده، أن يتواءم مع طريقة قروسطية في الإدارة والتسيير، أو يقبل أن يقوم رجال السلطة بالحديث عن تسليح شباب تابعين لهم كي يدافعوا عن أنفسهم أو عن مقرات جماعة الإخوان وحزبها.
وظهر فرق التوقيت أيضا في نظرة الإخوان إلى مؤسسات الدولة. فالجماعة لا تستوعب مقتضيات ومتطلبات الدولة الحديثة التي تفرض فصلا تاما بين السلطات الثلاث، وتحاول أن تستعيد موقع الحاكم الذي يهيمن على كل شيء. وقد ظهر هذا في تصرف الدكتور مرسي حين أراد أن يضع يده على القضاء بعد أن امتلك السلطتين التنفيذية والتشريعية. وقد برر له أحد الدعاة هذا بالقول: "كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعين القضاة ويعزلهم وسلك الخلفاء مسلكه في هذا"، وهي اللغة ذاتها التي يتحدث بها بعض السلفيين سواء في تأييدهم الرئيس، أو في مواجهتهم المختلفين معهم فكريا وسياسيا. بل إنهم يغلظون عليهم ويتوهمون أن العلاقة معهم هي ذاتها التي كانت تربط بين المسلمين الأوائل وكفار مكة أو يهود المدينة، وهذا ليس زعما ولا ادعاء إنما تصور مستخلص من تصريحات السلفيين وأحاديثهم وكذلك تصرفاتهم المتتالية.
ويتجلى فرق التوقيت أيضا في أسلوب إدارة التنازع إذ ابتعدت جماعة الإخوان عن الطرق القانونية والمؤسسية في هذا الشأن ولجأت إلى أسلوب بدائي، تمثل في دفع ميليشيات لحصار المحكمة الدستورية العليا ومدينة الإنتاج الإعلامي وفض اعتصام الثوار أمام قصر الرئاسة، والتهديد باقتحام مقرات أحزاب المعارضة وحرق مقرات الصحف المستقلة والحزبية وإعداد قوائم اغتيالات لكتاب ومثقفين وإعلاميين وساسة.
وقد بدا جليا عقب نجاح الثورة في الإطاحة برؤوس نظام مبارك أن جماعة الإخوان ليست راغبة في التقدم إلى الأمام من خلال شراكة وطنية كاملة مع القوى الثورية والمدنية بل رجعت خطوات إلى الخلف بتحالف مع السلفيين، ربما لأنها اعتقدت أنهم القوة الأكبر على الساحة، أو لأن قادة الجماعة الحاليين قد تسلفوا بالقدر الكافي الذي يجعلهم لا يجدون أي غضاضة في أن يضعوا إيديهم في أيدي أصحاب تصور يبتعد كثيرا عن ثقافة المصريين وقيمهم الحضارية وطرائق عيشهم وطبيعتهم الدينية الوسطية المعتدلة. وفي تصرف الإخوان هذا غياب لإدراك فروق التوقيت بين ما يريده الشباب، وهم القوة الرئيسية في الثورة، وما تريده الجماعة التي لا هم لها ولا صناعة سوى السيطرة على الحكم بأي طريقة، ولو على حساب ما تبقى من مشروعها.
وتم تكريس فرق التوقيت هذا في مشروع الدستور، الذي جاء ترجمة قانونية واضحة وفاضحة لخطة "التمكين" التي وضعتها الجماعة في تسعينيات القرن المنصرم، وهي حزمة من الإجراءات التي تقوم على التسلل إلى مؤسسات الدولة والاستيلاء عليها، ولو على مهل، ثم جاءت الثورة لتدفع الإخوان إلى التسريع في تحقيق هذا الهدف وتحصيله بأي وسيلة وأي ثمن. فالثوار انتظروا أن يعكس الدستور أهداف الثورة ومطالبها وغاياتها، ويهندس الأحلام التي راقت لهم للعيش في دولة وطنية حديثة، وتحت حكم مدني لا لبس فيه ولا التواء، ولا يريدون أن ينفكوا حتى يحققوا أحلامهم تلك.
وفي كل هذا يخون الوقت الإخوان دوما، فهذا وقت الثوار الذين يضمون إلى صفوفهم كل يوم شبانا جددا، ومن أعمار مختلفة تبدأ من الصبية وحتى مشارف الأربعين، في مجتمع يشكل الشباب النسبة الأكبر من تركيبته السكانية، بينما تصر الجماعة على أن تتعامل معهم بعقلية مكتب إرشادها الذي يعاني شيخوخة سواء على مستوى سن أعضائه أو طريقة تفكيرهم.
إنه حقا فرق توقيت، لا يدركه كل من يصل إلى السلطة، فلا المجلس العسكري استوعبه ولا الإخوان يدركون كنهه، وتغافل كلاهما عن أن هناك قوة ثورية حقيقية موجودة، وهي الرقم الصعب، العصي علي الهضم والإقصاء، وكل من لا يفهم هذا أو يغفل عنه، مصيره الخسران المبين، وقد لا يكتشف هذا إلا بعد فوات الأون، أو حين يدرك "فرق التوقيت".

            
 

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

أسباب فقر الخيال عند جماعة الإخوان

لا تمتلك جماعة الإخوان المسلمين قدرة على «التخيل». وهي تجري مدفوعة كعربة طائشة نحو نهاية فكرتها، وتحولها إلى سلطة غاشمة متجبرة وغبية. لم تقدم الجماعة للحياة على مدار تاريخها مفكراً...