في العام 2006 دخل عليّ شاب لا أعرفه، تخرج حديثا من كلية الإعلام، وطلب مني أن أساعده في الحصول على عمل بأي جريدة. وحاولت قدر استطاعتي، فعمل في مكتب لصحيفة عربية بالقاهرة. بعد ثلاثة شهور، زارني مرة أخرى، وقال لي: أنا الآن محرر في جريدة «الوطني اليوم» التي كان يصدرها الحزب الوطني. وجاءتني أخبار متقطعة عنه تبين كم هو مداهن وملاين ومنافق لرؤسائه، نميم بين زملائه ورئيس التحرير.
وكنت أشتري الجريدة بين حين وآخر حتى أقف على تطورات الحزب، الذي كنت من الذين يعملون على إسقاطه، فأجد اسم هذا الشاب مكتوبا على حوارات وتحقيقات تهاجم الإخوان بضراوة، وتكيل إليهم اتهامات، وتختلق لهم ما ليس فيهم، وتزيد مما عندهم من عيوب وتنفخ فيه. وطلب مني بإلحاح أكثر من مرة أن يجري معي حوارا حول «الإخوان»، فوافقت على مضض، ودافعت يومها عن حق الإخوان في إنشاء حزب سياسي، ورفضت تحويلهم إلى محاكم عسكرية، وقلت إن النظام مطالب بأن يدمجهم في الحياة السياسية الطبيعية من خلال بوابات نظيفة وليس بصفقات أمنية، وتوقعت أن يرثوا نظام مبارك إن ظل مصرا على سياسات إضعاف الأحزاب وتفجيرها وتشويه الرموز الوطنية. واشترطت عليه أن ينشر الحوار كاملا أو لا ينشره إطلاقا، فذهب وفرغ شريط التسجيل، وقدم الحوار لرئيس تحريره، الذي رفض نشره.
ومرت الأيام وقابلته مصادفة بعد الانتخابات التي جعلت الإخوان والسلفيين أغلبية في البرلمان، فوجدته قد أطلق لحيته، نظرت إليه وابتسمت، فقال لي: شعار المرحلة. وبعد أسابيع وجدت اسمه في مطبوعة للإخوان. وذات يوم كنت في النقابة فوجدته جالسا مع مجموعة من الشباب يفرط في الدفاع عن الإخوان ويمدحهم بغزارة، وينسب إليهم أكثر من حقيقتهم.
أمثال هذا الشاب كثيرون، شباب ورجال، ذكور وإناث، أساتذة جامعات وصحافيون وموظفون وعمال وفلاحون وتجار ورجال أعمال وناشطون سياسيون وضباط شرطة ومخبرون، وفي كل المجالات والاتجاهات. وقد يفرح الإخوان بهم باعتبارهم من مناصريهم، لكن «الفيروس» الذي ينخر في أي جسد بنعومة ودأب حتى يرديه قتيلا.
فالإخوان جماعة تقوم على إيمان أغلبية أتباعها بمنهجها، وهذا ما يعطيها تماسكا ويقويها في مواجهة خصومها ومنافسيها. والصغير فيها ينظر إلى الكبير باعتباره الأكثر تضحية أو استعدادا لدفع الثمن. والآن تغير الأمر، فالكبير ربما يكون الأكثر انتفاعا أو حيازة للنفوذ والجاه والثروة. وعلى التوازي، لا ولاء لمن يداهنون الإخوان إلا لأنفسهم، وسيتركونهم في أقرب محطة إن وقعوا في أزمة كما تركوا الحزب الوطني. لكن يبدو أن الإخوان يحتفون بالمتأخونين، ومن يراجع أسماء وزارة هشام قنديل، وكذلك أغلب من تولوا مناصب تنفيذية أو تم اختيارهم في مجالس تشريعية أو نيابية، لن يجد صعوبة في إثبات هذا عيانا بيانا.
ولأن المتأخون إنسان انتهازي بالسليقة، فسيقوم كل لحظة بمراجعة علاقته بالجماعة وزائدتها الدودية المسماة «حزب الحرية والعدالة»، فإن وجد أن هناك ما يعود عليه بالنفع، يظل مستمرا في موقعه ملتصقا بقادة الجماعة، يتزلف إليهم، ويعطيهم من طرف اللسان حلاوة حتى يحصل على المزيد، وإن غابوا عن عينيه تكاسل وتراخى وزاغ وربما يخرج لهم لسانه.
والمتأخون قد يكون ثقبا في الصندوق الأسود لأسرار الجماعة، وهو بالطبع لن يتمكن من الوصول إلى قعر الصندوق هذا، لكنه سيسترق السمع إلى ما يقوله بعض قادتها، لاسيما حين يتململون من الأوضاع التي آلوا إليها، وينظرون إلى ما في أيدي زملائهم ممن ركبوا فوق أعناقهم. وهذه الأسرار ستتسرب تباعا إلى خارج التنظيم الحديدي، فيعرف الناس طرفا مما حرص القادة على كتمانه طويلا، فتنفضح عوراته، وتظهر مزالقه، وتنكشف نواياه، ويجد من يناوئونه سبيلا إليه.
والمتأخون قد لا يكون بالضرورة عضوا دخيلا على الجماعة أو حزبها، أو عنصرا مدسوسا أو مزروعا من منافسيها في الساحة الاجتماعية والسياسية والمجال الديني أيضا، بل قد يكون «إخوانيا» صميما، عاملا في الجماعة، راسخ الأقدام في تنظيمها، من أولئك الذين التحقوا بقطارها من محطته الأولى. فالجماعة تقوم بالإنفاق على أطفال فقراء ويتامى منذ صغرهم، ليس كعمل خيري كما تفعل «الجمعية الشرعية للعاملين بالكتاب والسنة» مثلا، إنما كجزء من آليات التجنيد وجذب البراعم والأشبال، الذين يعدون على مهل ليكونوا أعضاء فاعلين في الجماعة.
بعض هؤلاء قد يقتنع بمرور الزمن بنهج الجماعة وأفكارها، فيخلص لهذا الشق المعنوي أو العقدي، حسب ما يصفه الإخوان، وبعضهم لا يقتنع، لكنه يجد نفسه مربوطا بمصلحته أو شبكة علاقات اجتماعية تلتف حول عنقه، ولذا يظل متواجدا جسدا في الجماعة، لكن روحه ترفرف بعيدا عنها كلما وجدت إلى ذلك سبيلا. وهؤلاء ينفضون عن كاهلهم أحيانا عبء السقوط الأخلاقي للجماعة ولا يبدون تحمسا شديدا للدفاع عنها، فإن وجدوا من يطمئنون إليه من خارج الجماعة أسرّوا إليه بالمشكلات التي يواجهونها، والانتقادات التي تنحبس في صدروهم. وبعضهم قد يواجهك بالعبارة الشهيرة «أنا مش إخوان»، ليس لأنه ملقن أن يقول ذلك حتى يتحايل عليك ويتمكن من امتلاك رأسك فيقنعك بوصفه محايدا، لكن لأنه يشعر بالخذي حيال ما جرى لصورة الإخوان في المخيال الشعبي المصري الآن.
والمتأخون لن يكون في الصف الأول حين تحين اللحظة الفاصلة للجماعة، سواء إن أخذت المجتمع كله إلى مواجهة عنيفة، لا قدر الله ولا سمح، أو كانت متجسدة في انتخابات مقبلة، خاصة أن من بين المتأخونين من يسعون إلى تعزيز مراكزهم داخل الجماعة عبر الترشح للانتخابات والفوز فيها. فإن وجدوا صدّا أو استبعادا من قبل قادة الجماعة سيتميزون غيظا وإن كتموا، ويشعروا بالغبن وإن بالغوا في اصطناع الرضا.
والثابت تاريخيا أنه لا يوجد تنظيم عاش على ظهر الأرض كان كل رجاله على قلب رجل واحد، ومخلصين للفكرة مهما كانت قيمتها أو عمقها أو اتساقها وتماسكها، وإلا ما كان قد صُنِّف هؤلاء في دوائر متلاحقة سواء من حيث النفوذ أو الولاء. وحتى المجموعات التي تحلقت حول الأنبياء لم يكن أفرادها متساوين أبدا في الإيمان بالرسالة، وإلا ما وجدنا الحواريين والصحابة، وتبعتهم دوائر أخرى من المتلفين حولها.
وقد يكون «النفاق» مدخلا لفهم موقف ووضع المتأخونين، مع الأخذ في الاعتبار أننا نتحدث في مجال الولاء السياسي والاجتماعي والفكري وليس في موضع الإيمان والكفر. لكن كما أن المنافقين يشكلون خطرا على رسالات السماء، أمضى أثرا بكثير من الكافرين بها، حسب ما ينبئنا القرآن الكريم، فإن المتأخون، أو أي شخص ينتمي اسما لتنظيم أو جماعة ما من دون إخلاص لها، يمثل خطرا شديدا عليها أيضا ـ وقطعا سيرفض قادة الإخوان هذا، لكن دعك من حديثهم عن أن صفوف الجماعة «بنيان مرصوص»، فالمرض الذي يصيب الجميع، بمن فيهم التيار السلفي، أصابها، لكن قادتها يبذلون قصارى جهدهم في سبيل أن تبقى أعراضه بعيدة عن أعين الناس، وإن كان الوجع يسرى في أعطافها كما يسري الماء ناعما تحت أكوام من القش.
على مدار تاريخ الجماعة، قبل الثورة، كان من يتقدم الصفوف ويعلو في المراتب ينظر الأتباع إليه باعتباره الأكثر استعدادا للتضحية، ومن ثم يحدبون عليه، ويطيعون أمره، ويحترمون وضعه. الآن طرأ تغير كبير بعد وصول الجماعة إلى السلطة، فالأكبر يعلو جاهه، ويحوز مزيدا من النفوذ والثروة. وبالطبع سينكر الإخوان هذا، ويصورون للناس أنهم أولياء الله الصالحين الزاهدين في المناصب والأموال، وهو ادعاء لن يصدقه أحد بعد كل ما ظهر من أكاذيب وسعي محموم للسيطرة على كل المناصب، واستئثار بالسلطة، ومحاولة حيازة المال من خلال توسيع التجارة ومشاركة رجال أعمال نظام مبارك.
وقد شكا لي مر الشكوى بعض شباب الاخوان ممن التقيتهم، من عمليات التضييق التي تتم عليهم، وتذمرهم من حشر شباب الجماعة في مواجهات عنيفة مع المجتمع، وتحدثوا عن صراعات حول المواقع. وقالوا لي إن صراعات قوية تدور الآن حول من سيتم ترشيحه في مجلس النواب، فهناك أكثر من شخص لديهم رغبة في الترشح على كل مقعد، لكن مكتب الإرشاد سيختار واحدا ويترك الآخرين مغبونين. واستمعت قبل أيام إلى قيادي من جيل الوسط في الجماعة يتذمر من أن مكتب الإرشاد ومن بعده ذراعه الرئاسي، الدكتور محمد مرسي لا يحسن اختيار الأكفأ داخل الجماعة نفسها، وقال: «في كل منصب تنفيذي، وزيرا كان أو محافظا أو أقل من هذا، تركوا الأكفأ واختاروا من كان ولاؤه للمجموعة المسيطرة على الجماعة في الوقت الحالي... إنهم لا يحرمون أصحاب الكفاءات في البلد كله ويبتعدون عنهم، لكنهم أيضا يحرمون أمثالهم داخل الإخوان».
وعرفت من كل هؤلاء أن شخصيات عديدة من الانتهازيين الذين دخلوا إلى حزب الحرية والعدالة بحثا عن منافع خاصة لهم، ومبدأهم في السياسة «مات الملك، عاش الملك» يضغطون الآن في سبيل أن يدفعوا قادة الحزب إلى ترشيحهم. وإن لم يحدث فقد يخرجون عليه، أو يهاجمونه. ورغم أن الجماعة تحرص على أن يظل مركز الثقل داخل الحزب في يدها، فإن هؤلاء سيسببون إزعاجا شديدا، وقد يضطر رئيس الحزب، بما له من صلاحيات واسعة، إلى طردهم والتخلص منهم، لكنهم لن يصمتوا إنما سيشاركون في تجريس الجماعة وفضح مخططاتها.
الأهم من هذا كله هو التصدع الأخلاقي الذي بدأ يصيب رجالا في الجماعة أخلصوا لها، غبنا من الطريق الذي يسير فيه القادة، حيث التنكر لكل القضايا التي ربوا أجيالا عليها، وظهور هوة مخيفة بين القول والفعل، واستشراء آفتي الكذب والإنكار عند الممسكين بزمام الأمور، واتساع مساحة الكراهية في نفوس الناس للجماعة. والوضع الأخير يجعل مكتب الإرشاد حريصا على أن يستحضر دوما «عدوا مزعوما» ليكتل الصفوف في مواجهته، أو يبقى، رغم الوصول إلى السلطة، على حديث المحنة والابتلاء، ناهيك بالطبع عن ادعاء المؤامرة، ليس فقط على الإخوان، إنما على الإسلام.
وهذه الألاعيب تحقق نتائجها إلى حد كبير حتى الآن، لكنها لن تصمد طويلا، فالكذب لا أرجل له، والجري وراء المنافع إن كان هادئا الآن سيتسارع، وكل هذا يتم بينما الجدار العازل بين الجماعة وبين الشعب يرتفع كل يوم ويزداد سمكه وسواد لونه. ولحظة الفصل، سيكون المتأخونون أول من يهرول بعيدا.