يتهم الإخوان في مصر منافسيهم بأنهم يستدعون الجيش إلى الساحة السياسية من جديد. وهذا الاتهام لا يقوم على ادعاء، بل له أصل لا تخطئه بصيرة ولا يهمله عقل. لكن كان يجب على الجماعة أن ترى الخشبة في عينها قبل أن ترى القشة في عين خصومها.
الجيش يلعب كرة القدم
جماعة الإخوان أيضاً، تقوم عبر ذراعها الرئاسي باستدعاء القوات المسلحة إلى الساحة السياسية، حتى تكون يداً أمنية باطشة ضد الثوار والمغبونين. ولهذا أعطى مرسي الجيش «حق الضبطية»، وأراد منه أن يطبق قراره المتسرع، كالعادة، بفرض حظر التجوال في مدن القناة الثلاث، علاوة على استدعاء الجيش لتأمين الاستفتاء على الدستور. وتصرف مرسي على أن «القوات المسلحة» ستعمل وفق مشيئته، لأنه «القائد الأعلى» لها، وستتورط من جديد، لكن لمصلحة جماعته هذه المرة، في اعتقال وتعذيب وتصفية شباب الثورة، فيزداد الجدار ارتفاعاً وسمكاً بين قادتها وبين الطليعة الثورية ومن ثم القاعدة الشعبية. وهذا جزء أصيل من تكتيك الإخوان، لكن الجنرالات يفهمون هذه اللعبة، ولذا تركوا الضباط والجنود يلعبون كرة القدم مع شباب مدن القناة في وقت الحظر. ومرسي، وبتنسيق على ما يبدو مع مكتب الإرشاد، يحرص على إظهار أن الجيش يوافق على كل خطواته، ولذا قرر تحديد موعد الانتخابات البرلمانية عقب لقائه وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي.
مرسي وليس السلمي
قبل ثورة 25 يناير لم تكن في مصر «مؤسسة عسكرية» بالمفهوم الوظيفي والتاريخي القائم في تجارب دول أخرى ومنها تركيا وباكستان مثلاً، بل كانت لدينا «قوات مسلحة»، حرص مبارك على أن يبعدها عن لعب دور سياسي مباشر، حتى يمهد الطريق لنجله. وكان الدستور ينص على أن «الجيش ملك الشعب»، وما له من خصوصية مالية أو وظيفية كان مسألة عرفية لا يسندها تشريع. فجاء الإخوان ليمنحوا الجيش في دستورهم «المسلوق» وضعاً خاصاً جداً، بعد أن أقاموا الدنيا ولم يقعدوها على «وثيقة السلمي»، وقالوا إنها ستجعل القوات المسلحة دولة داخل الدولة. واتضح أنهم يريدون أن يبرموا هم هذه الصفقة مع الجيش وليس غيرهم، موفرين مزايا للقوات المسلحة أكبر بكثير مما ورد في الوثيقة المشار إليها. وبالتالي فهم الذين أوجدوا وضعاً جعل من الجيش دولة داخل الدولة. ولن ينسى أحد ما قاله مرسي أمام القادة في أحد المواقع العسكرية: «هناك من يريد أن يوقع بيني وبينكم، لكن هذا لن يحدث. لن يمس أحد أموالكم وعرَقَكم». ووفق الصفقة أيضاً، وفر الإخوان للجنرالين طنطاوي وعنان خروجاً آمناً ومريحاً ومثمراً. وفي حقيقة الأمر، فإن قضيتي «أموال الجيش» و«الخروج الآمن» كانتا تمثلان الترمومتر الذي يقيس علاقة الجيش بالعديد من القوى السياسية منذ الإطاحة بمبارك. ولا تزال ترن في كل الآذان مقولة مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية، في معرض حديثه عن المشروعات الاقتصادية للجيش قبيل انطلاق الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية: «هذا عرَقنا وسندافع عنه بدمنا».
ثروات هائلة يديرها الجيش
لقد كانت هذه القضية هي محور الإجابة على سؤال مهم ومؤرق: لماذا يكره المجلس العسكري الثورة؟ وهي مسألة لم تقف عند حدود التصورات القديمة التي ترى أن الجيوش بوصفها مؤسسات أمنية بيروقراطية في المقام الأول تكره الاضطراب والارتباك الذي يصاحب الثورات، بل كان من الضروري أن نبحث في اتجاه دفاع الجنرالات المستميت عن الثروات الطائلة الهائلة التي يديرونها، جنباً إلى جنب مع المخاوف المشروعة والطبيعية من تنظيم الإخوان بمشروعه وحساباته المتناقضة مع مشروع الدولة الوطنية الذي يفهم الجيش أنه حارس لها.
وفي الواقع فإن كلاماً كثيراً جرى تناقله أو التهامس به عقب رحيل مبارك مباشرة، بخصوص المشروعات الاقتصادية الضخمة التي يديرها الجنرالات. لكنّ الهمس لم يلبث أن ارتفعت نبرته وصار صراخاً، مُنهياً زمن الصمت. كذلك وبالتلازم قيل إنه من الصعب على العسكر أن يقبلوا بسهولة رئيساً من «الإخوان» يطّلع على ما يديرونه من ثروات ضخمة، ناهيك عن المعلومات الدقيقة التي تمسّ عصب الأمن القومي المصري. ويفهم مرسي هذا، لذا يبقي هذا الملف حتى الآن خارج النقاش، بل يستعمله وسيلة لاسترضاء العسكريين. وقد تردّد أنه حاول برفق أن يفتحه حين طلب من وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي أن يمنح التلفزيون المصري الرسمي، المثقل بالديون والأعباء، بعض المال لتعويم أزمته، لكنه قوبل برفض قاطع. ورغم أن الجيش كان يقوم بهذا أيام مبارك، إن طلب الرئيس، ووقت أن أدار المرحلة الانتقالية عقب الثورة، لكنه يدرك الآن أن فتح نافذة، ولو صغيرة، حول هذا الموضوع قد يفتح باباً أمام جماعة الإخوان للتفكير في وضع يدها على هذه الأموال، سواء بطريقة مباشرة ومباغتة، أو بطريقة غير مباشرة من خلال محاولة رجال أعمال الجماعة وتجارها للدخول في شراكة مع الجيش في مشروعاته العملاقة.
الجهل بالدولة الوطنية
لا يملك مرسي وجماعته أي خبرة في إدارة الدولة، ويسدّون الأفق السياسي بشكل عنيد وبليد، ولا يبدون إيماناً قاطعاً بتداول السلطة، وينكلون بالطليعة الثورية بعد أن خانوها، أو «نصبوا عليها»، ويخسرون حلفاءهم، ويستنزفون شعبيتهم، ويقامرون بأمن البلاد ومصلحتها الوطنية، ويحوّلون الثورة إلى مجرد فرصة لتمكينهم من رقبة مصر، فيفتحون بذلك باباً واسعاً لفئات من الشباب، وربما قطاعات عريضة من الشعب، لتنادي بتدخل الجيش، تحت دعوى أن الوطن في خطر، لا سيما أن الأدبيات الفكرية للإخوان لا تحمل تصوراً عميقاً وأصيلاً لفكرة «الدولة الوطنية» التي يتعارف المصريون عليها، ويعملون لها، على اختلافهم. وهناك سؤال مهم يفرض نفسه في هذا المقام: هل الإخوان قوة مدنية، أم هم مزيج من تدبير ميليشياوي وتلاعب بشعارات دينية؟ وهل هم حريصون على أن يبقى الجيش مؤسسة مهنية محترفة، أم يسعون إلى التسلل الناعم إليه بغية التحكم فيه وتحويله إلى جيش إخواني، أو مُتأخْوِن، لخدمة مشروعهم الوهمي، الذي لم يُحصد منه سوى خسارة مزدوجة لصورة الإسلام ولمصلحة مصر؟
مَن إذاً يستدعي الجيش؟
الإخوان هم أول من يستدعي الجيش إلى الساحة السياسية، مرة لأنهم يظنون أنه ذراعهم الأمني، ومرة لأنهم يقتلون «البديل المدني». وبذا يجبرون بعض منافسيهم وبعضاً من عامة الشعب، ضاقوا منهم، على أن يطلبوا الجيش. وفي الحقيقة فإن الجيش ليس ضامناً للديموقراطية إنما ضامن للوطنية وبقاء الدولة من دون انهيار تام ولا تفكك. وهذا أمر حيوي ولا تنازل عنه، لكن لا أحد بوسعه أن يرحب بعودة العسكر إلى الحكم، رغم تزايد الطلب على وجودهم في الساحة السياسية. وعلى القوى المدنية أن تتماسك وتطرح نفسها بديلاً مقنعاً للشعب المصري، الذي يتطلع دوماً إلى من يملأ الفراغ. فأغلب النخب السياسية المدنية على الساحة المصرية تقول: نريدها دولة مدنية حقيقية، لا تتلاعب بالدين فتحوله إلى أيديولوجية بائسة، ولا تستند إلى سلاح العسكر. وقطعاً فإن هذا ما أرادته الثورة التي تنكّر لها الإخوان وتعاملوا معها على أنها مجرد فرصة لاقتناص السلطة.