كُلّنا ضِدَّ الجلاد... ولا أحدَ مع الضحية

"الجُرح كان يجب أن يُغْلق" كما يقول البعض، ولم يكُن مُهِماً كيف يُغلق، حتى وإن تعفّن. رأيت الكثير من المواطنين يفرحون "لتغير" الحكام عن حكام التسعينات الفائتة في الجزائر.. يقولون بأن من خطط للتسعينات صار في السجن وأُبعد عن الحكم. نعم الجميع ضد الجلاد (وهل يوجد جلاد واحد؟)، ولكن من يقف مع الضحية؟
2020-01-24

صلاح باديس

كاتب وصحافي، من الجزائر


شارك
جورج بهجوري - مصر

بالصُدفة، وصلني رابط فيديو تتحدّث فيه امرأة شابّة عن والدها السّجين منذ تسعينات القرن الماضي. "سُجناء التسعينات" في الجزائر! هذا الموضوع الذي اكتشفه الكثيرون من أبناء جيلي مع الحراك الشعبي الجاري. وهو لم يكُن، بالنسبة لي، أمراً واضِحاً، إذ كنت قد سمعتُ منذ سنوات، أنّ ابن إحدى العائلات التي كانت تسكن في حي جدّتي، خرج من السّجن بعد أن دخله مُراهِقاً بتهمة الانتساب لجماعة إسلامية. قالوا أنّه قضى قُرابة العشرين عاماً هناك. لم أحاول أن أفهم، أو ربما كان هذا يفوق قُدرتي على الفهم. وغالباً لأنه يخص ما كُنتُ أصنِّفه في لاوعيي بأنّه من نتائج "الحرب التسعينية"(1) . هنالك أمور كثيرة تحدثُ في الحروب. لكن بعد الحراك، خرج الجزائريون مُجدّداً إلى الشّمس، ورأينا كل المسكوت عنه، وكل ما تناساه المجتمع عامِداً ورماه في الظّل: أمّهات المفقودين، أهالي المسجونين، معطوبو مكافحة الإرهاب.. وآخرون. خرج كل من كانوا يعيشون كالأعراف: بين الجنّة والنّار.

بدأتُ بمشاهدة الفيديو الذي كُتِب فوقه "شاهِد ابنة السجين رحموني مصطفى التي أبكت الجميع بشهادتها". تساءلت عن سبب سجن الرجل، هل كان في الجبهة الإسلامية للإنقاذ؟ وماذا حدث؟ مع بداية الفيديو الذي يدوم 10 دقائق، ومنذ الدقيقة الثانية، شعرت بالانزعاج. يوجدُ شيءٌ في الفيديو يُقلِق. كلمات المرأة الشابة وشهادتها وصوتها، الكلمات الآتية من بعيد، من اللاوعي، من ذلك المكان الذي نرمي فيه ما لا يُعجِبنا وما يؤلِمُنا أيضاً. دخلت إلى صفحتي في الفيسبوك أبحثُ إذا ما كان أحد الأصدقاء - الافتراضيين - قد شارك الفيديو على صفحته. دخلتُ إلى صفحة الرجل الذي شارك الفيديو فوجدت فيها صُورَ السّجناء... القدامى والجُدد، سُجناء التسعينات وسُجناء الحراك.

بعد الحراك الذي بدأ في شباط/ فبراير 2019، خرج الجزائريون مُجدّداً إلى الشّمس، ورأينا كل المسكوت عنه، وكل ما تناساه المجتمع عامِداً ورماه في الظّل: أمّهات المفقودين، أهالي المسجونين، معطوبو مكافحة الإرهاب.. وآخرون. خرج كل من كانوا يعيشون كالأعراف: بين الجنّة والنّار.

صوتُ المرأة الشابّة بقي في رأسي. قرأتُ اسم والدها مرّة أخرى. وفجأة عادت إلى ذهني الصورة. فتاةٌ سمراء في سِنّ المراهقة، بين 12 و14 سنة، تلبسُ حِجاباً أصفرَ (أصفر بلون الخردل) وتأكل الشيبس في ساحة المتوسطة. ابتسامة أو ضحكة. مُقوِّمُ أسنان (لست متأكّداً !). أصبعٌ يرتفع ليشارك في القسم. إكرام!! نعم هذا هو الاسم. بحثت مرّة أخرى عن اسم والدها في فيسبوك، فوجدت الفيديو نفسه، نشره حسابٌ آخر يقول فيه أنّ اسم المرأة الشابة هو إكرام وأن والدها ابن مدينة الرغاية. أعود للفيديو، أسمع صوتها، أرى الرجال الحاضرين كباراً بلحاهم البيضاء، ينحنون في جلستهم ويخرجُ أنينُ بكائهم المكتوم. تحكي كيف تركها والدها وهي ابنة 9 أشهر، أختها الكبرى كانت في الرابعة، والدتها كانت في ال25 من عمرها عندما دخل زوجها السجن. 25 سنة وثلاثُ بنات.

لم تعرف أبداً إكرام رائحة الأب. عندما عانقت إكرام والدها للمرّة الأولى اكتشفتها مثل من اكتشف بعينيه الألوان لأول مرّة. إكرام رحموني، نعم أذكر هذا الاسم جيّداً، كانت زميلتي في السنوات الأربع التي قضيتها في المتوسطة ب"الرغاية" (شرق العاصمة). لم نكُن مقرّبَين، ولكننا كُنّا نعرف بعضنا البعض بحكم أنّنا درسنا في نفس القسم. فجأة تُطِلُّ عليّ إكرام في فيديو وقد صارت امرأة، وأعرف بالصّدفة أنّ والدها مسجون منذ سنة 1994، ومحكوم عليه – من طرف المحاكم الخاصّة، حسب ما ذكر مقال لصحيفة الأمّة الإلكترونية - بالإعدام ! ولكنّه لم يُنّفَذ فيه، ولا في مساجينَ آخرين. (حسب ما قرأته، فآخر مرّة نفّذت الجزائر حُكم إعدامٍ كان سنة 1993).

عِشتُ في لحظاتٍ سنواتٍ كاملة من المراهقة. أسمعُ كلام إكرام في الفيديو. أسمعُ صمودها في كلماتها وصوتها، وأشاهد انهيار من في القاعة بُكاءً وحسرةً. أتذكّر كل السنوات التي قضيناها في المتوسطة. وأعيشُ وأنا جالِسٌ أشاهد الفيديو، أسمعها وهي تقول أبتي، أحاول – عبثاً - تذكّر موقفٍ غضبت فيه إكرام في القسم، أو خلال فترة دراستنا، أو ربما حزنت بخصوص شيءٍ مثل عيد الأب أو أي ذِكرٍ للأب. "والو" (أي "لا شيء" بالدارجة الجزائرية). لا أتذكّر شيئاً، ولا أظن أن الفتى الذي كُنته كان لينتبه لشيء كهذا. أمّا هي فأتصوّر أنها كانت تنتبه لكل شيء. عاشت منذ وعَت على هذا العالم والحِمْل على ظهرها. ابنة السّجين. كانت تعرفُ القصّة التسعينية التي سنُكوِّن، نحن زملاءَها عنها رأينا لاحقاً عندما نكبر. رأياً منقوصاً ومُتحزِّباً، يُشبه رأي أهالينا وذاكرتهم. أو قد ينقلب بعضنا على آبائه مثل الصديقة التي كان والداها يُعرِّفان التسعينات كحربٍ على الإرهاب وفقط: هنالك الخيّرون ويقابلهم الأشرار. وعندما سافرت إلى فرنسا ودرست علم الاجتماع ودرست التاريخ وحاولت بناء رأيها الخاص... توصّلت إلى نتيجة مُخالفة لما حكاه لها والدها، وعندما عادت لتُواجهه برأيها عن التسعينات وما حدث... صُدِم الوالد وقاطعها لأيام.

لم تعرف إكرام أبداً رائحة الأب. وعندما عانقت إكرام والدها للمرّة الأولى اكتشفتها، مثل من يكتشف بعينيه الألوان لأول مرّة.

عرَفتْ إكرام، زميلتي السّابقة في المدرسة، خريطة بلدها عبر زيارتها للسجون المختلفة التي بقِي فيها والدها، في رحلات الشّتاء والصّيف، مُنِعت إكرام من إدخال صُوَرِ ابن أختها لوالدها. مُنِعت من إدخال القفّة لوالدها لأنّه محكوم عليه بالإعدام. وكُلّما ألِفَت عائلتها الطريق لسِجنٍ ما... تغيّر السّجن. تساءلتُ لماذا لا يتحدّث الإعلام عن هؤلاء؟ لماذا لا تُغطّي الصحافة هذه القصص؟ أين الحيادية؟ لماذا لا تُغطي الصحافة المولودة من رحم التسعينات هذه القصص، وتترك للرأي العام وللمحاكم أن تحكم... الصحافة تنقُل فقط، المفروض يعني. لكن الصحافة في وادٍ آخر، غارقة في الطين لا تستطيع منه فِكاكاً. لكن لماذا لا يشارك الناس على نطاق واسع هذه الفيديوهات والصور؟ صور وفيديوهات أهالي الضحايا والمفقودين والمسجونين؟ ألإنها ليست جميلة مثل بعض صور الحراك الملونة التي ذكّرتنا بأن هذا الشعب يمكن أن يكون جميلاً أيضا؟ ما ديكتاتورية الصورة هذه؟

رأيت الكثير من المواطنين يفرحون "لتغير" الحكام عن حكام التسعينات، يقولون بأن من خطط للتسعينات صار في السجن وأبعد عن الحكم... نعم الجميع ضد الجلاد (وهل يوجد جلاد واحد؟) ولكن من يقف مع الضحية؟

عالمٌ غريب هو عالم التسعينات، البعض لا يعرف عنه شيئاً والبعض الآخر يعيش حسرته وحُزنه كل يوم. البعض فقد فيه والده، مثل زميلنا السّابق – في القسم نفسه - ص. م - الذي فقَدَ والده العسكري في جبال سطيف. ومثل الأستاذ طاهر، في المتوسطة نفسها، المسؤول عن المخبر والذي رأى والِده يُذبح أمامه. وأنا –ربما الأكثر حظاً من بينهم جميعاً- من خُطِفَ قريبي الشاب العسكري الذي كان في زيارة لأهله، من أمام والدته ولم يظهر أبداً. وآخرون كثيرون، في متوسطتنا وبلدتنا، وسائر مُدن البلاد. هل أشعرُ بالامتنان لأنّنا، وعلى الرغم من كل ما حصل، استطعنا أن ندرس في قِسمٍ واحد ونركب القطار نفسه ونعيش في الجوار نفسه، ولم نتقاتل ونثأر، أم أتحسّرُ لأنّنا نعيشُ كل واحد بحزنه وقهره وحسرته معزولاً عن الآخرين، مُتناسِياً قصّته؟

التسعينات كانت دائماً هنا، ولكنّ "الجُرح كان يجب أن يُغلق" كما يقول البعض، ولم يكُن مُهِماً كيف يُغلق... المهم أن يُغلق حتى وإن تعفّن وبقي كذلك. جاء بوتفليقة وراح بوتفليقة، شوية قوانين وشوية خطابات ولا شيء تغيّر. لا بالنسبة لأبناء الضحايا ولا لأمّهات المفقودين ولا لأبناء مساجين المحاكم الخاصّة. تقول إكرام أنّه، وخلال الحراك الشعبي، سمعوا أكثر من مرّة أنّه سيُطلق سراح هؤلاء المساجين. ربطوا الأمل على اليأس، ولكن لا شيء.

عرَفتْ إكرام، زميلتي السّابقة في المدرسة، خريطة بلدها عبر زيارتها للسجون المختلفة التي بقي فيها والدها، في رحلات الشّتاء والصّيف. مُنِعت من إدخال صُوَرِ ابن أختها لوالدها. مُنِعت من إدخال القفّة لوالدها لأنّه محكوم عليه بالإعدام. وكُلّما ألِفَت عائلتها الطريق لسِجنٍ ما... تغيّر السّجن!

قد يقول قائل، مُحاولاً قطع الطريق على التساؤلات (ونحن في الحقيقة لا نفعل سوى قطع الطريق على بعضنا البعض في مسائل التسعينات، أو الحرب الأهلية كما أسمّيها ويرفض الكثيرون هذه التسمية)، قد يقول: وماذا عمّن فقدوا أباءهم ولم يعرفوهم أصلاً؟ أقول، ولست بقاضٍ ولا قبّاضَ أرواح: هم أيضاً ضحايا، هم أيضاً لحمُ هذا الشعب، وهم أيضاً يُمّسِّدون بأناملهم على صُورٍ قديمة بالية لوجوه الآباء الغائبين.

اسمي صلاح، عُمري 25 عاماً، وكذلك زميلتي السّابقة إكرام رحموني، وهو أيضاً - بالتقريب - عددُ سنوات سِجن والدها المحكوم عليه بالإعدام، وهو أيضاً - تقريباً... تقريباً - نِصفُ عُمرِ استقلال هذي البلاد المُسمّاة الجزائر... وعلى الرُغم من ذلك، وفي هذه السنوات القليلة، هنالك من عاشوا دُهوراً من الظُلم والعذاب.

_____________________

1) "العشرية السوداء في الجزائر" حين ألغيت نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في 1991 لفوز "الجبهة الإسلامية للإنقاذ فيها. ووقع صراع مسلح دامٍ ومجازر مشهودة، وقد بلغ ذروته في 1979 واستمر حتى 1999 حين انتخب رئيس جديد للبلاد هو عبد العزيز بوتفليقة ، وصدر قانون عفو عام.

مقالات من الجزائر