أسهمت الدراما عبر العصور في تقديم صور وقراءات متعددة لواقع الحال الذي تتوجه به إلى الجمهور، سواء كان هذا الأخير مستمعا أم مشاهدا أم هما معا، رغم ما يبدو من اختلاف في زوايا نظر مبدعيها وصانعيها، من خلال المدارس الفنية والإخراجية التي ينتمون إليها. وفي دراستنا النقدية هذه عن مسلسل "عمر" لمخرجه "حاتم علي"، وكتابة السيناريو لـ"وليد سيف"، وإنتاج مشترك بين قناة mbc وتلفزيون قطر، نجد أن هناك مجموعة من العناصر التي تدفع المشاهد قبل الناقد لقراءة العمل من جديد:
- اعتبار مسلسل "عمر" أول عرض درامي يشخص الخلفاء الراشدين والصحابة المبشرين بالجنة وزوجاتهم.
- ارتباط عرض العمل بالواقع العربي في سياق ما يسمى بـ"الربيع الديمقراطي"، وحصول نوع من الحنين إلى زمن التوسع والازدهار العربي والإسلامي.
- الميزانية الضخمة التي رصدت لإخراج العمل، والتي تقدر، بحسب مواقع إخبارية، بمئة مليون دولار.
- قيمة ومكانة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في تاريخ العرب خاصة والمسلمين عامة، سواء باعتباره رمزا دينيا، أم مسؤولا وقائدا صاحب "كاريزما" سياسية بالتعبير الحديث.
هذا بالإضافة إلى عناصر أخرى تتفرع عما ذكر أعلاه. لذا سنحاول ملامسة ومقاربة العمل من زاوية درامية، بعيدا عن الإشكالات الفقهية العقيمة، التي تحصر هذا المنتوج الدرامي في سياقات مغايرة لآليات العمل الفني.
لا بد من الإشارة كذلك إلى أن مسلسل "عمر" خلف وراءه مجموعة من الانتقادات المعزولة فكريا وثقافيا، من خلال دعوة بعض الدعاة إلى عدم مشاهدة المسلسل، وتأسيس كثير من رواد شبكة الانترنت، على غرار ذلك، صفحات في المواقع الاجتماعية تدعو إلى مقاطعته، بدعوى أن تمثيل شخصيات عن الصحابة، وكبارهم بالخصوص، يعتبر انتهاكا وتطاولا على مكانتهم، وهو شيء يمكن أن يضعهم موضع القداسة والعصمة، في وقت أصبحت فيه المطالبة بجعل فنون العرض ضمن المناهج التربوية والتعليمية بحكم أنها تؤسس للذوق والطبع السليمين، فكم من مدينة وشخصية تاريخية وأحداث ووقائع غيرت مجرى التاريخ لا نجدها مكتوبة بالشكل الذي يجعلها مُستوعبَة لدى قارئها.
استطاع مسلسل "عمر" أن يضع خطوة مهمة في مسار التخلص من بعض العراقيل لدى المبدع العربي نفسه قبل المشاهد، ومكنته من الجرأة الكافية لطرق حيثيات حساسة وغير محسومة في المجال الفقهي، ما دام الأمر لم يصل إلى تجسيد الأنبياء، باعتبار مكانتهم الروحية والمعنوية لدى كل الديانات السماوية، مع الاستثناء الذي نسجله لدى الأعمال الدرامية التي تنسب جغرافيا لإيران ومذهبيا لـ "الشيعة"، والتي لا يجد مخرجوها حرج في عرض شخصيات تمثل الأنبياء والرسل عليهم السلام صورة وصوتا، ويعتبر مسلسل "يوسف" عليه السلام نموذجا لذلك، والذي سبق لنا أن كتبنا عنه السنة الماضية مقالا في موقع "هيسبريس" المغربي، بعنوان: "مسلسل الحسن والحسين: دراما أم تقريب بين المذاهب؟".
وتبقى هناك مجموعة من النقاط البارزة والمثيرة في هذا العمل الدرامي الهام، والتي تستدعي الوقوف النقدي عليها، لكن سأقتصر هنا على عنصرين مهمين أثارا فضولي في الكتابة وهما البطل والايقاع الدرامي.
"عمر" البطل
تشكل التمثلات الذهنية التي نراكمها، في المدرسة والشارع والأسرة والمسجد والسوق ... إلخ، عن مجموعة من المكونات والعناصر الأساسية للموروث الحضاري والثقافي لمجتمعنا العربي، عناصر إجابة عن تصورات راسخة في اللاوعي العربي. ومن هذه التمثلات نجد صور الرعيل الأول لظهور الإسلام، أي الصحابة الكرام، نظرا لارتباطهم بمرحلة كان يحكمها عنصر الوحي الإلهي المقدس والمنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الشيء الذي يصعب معه تحقيق إجماع لدى المشاهد العربي فيما يخص مدى نجاح أو فشل الممثل في تجسيد دور الصحابة الكرام، خاصة إذا تعلق الأمر بشخصية عظيمة في التاريخ الإسلامي كعمر بن الخطاب، صاحب النظريات في تأسيس الدولة بالمفهوم الإسلامي، والأقوال والقواعد التي لخصت مفاهيم في القيادة والتسيير والتخطيط ... وفي مقدمتها نجد العبارة الشهيرة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
إن هذه المعطيات المذكورة جعلت من دور البطل، الذي شخصه الممثل السوري الشاب "سامر إسماعيل"، تحديا كبيرا، على اعتبار أن أفق توقع الجمهور العربي أكبر بكثير من مجرد خوض تجربة فنية عادية، وإنما الأمر يمكن أن يصل إلى درجة "حياة" أو "موت" فنية للمثل، مع ما سيرافق ذلك من آثار ايجابية أو سلبية على مسيرته الفنية. لكن عموما يبقى أنه حقق نسبة نجاح كبيرة على مستوى الأداء الدرامي، إضافة إلى السلاسة الواضحة في تعامله مع النص، مع تسجيل بعض الملاحظات المرتبطة بدور المخرج في "الزج" بالبطل في ايقاع تتباين فيه فترات الصراع الدرامي على طول المسلسل؛ هكذا نجد غياب نسبي لقوة "عمر بن الخطاب" التي نقرأ عنها في كتب التاريخ، والتي يشهد عليها مثال دفنه لابنته في التراب وهي تمسكه من لحيته، إضافة إلى حالات أخرى كانت في أكثر الأماكن قداسة وهي المسجد، إذ تسجل كتب السير أيضا أنه كان يضرب بعصاه كل من لم يلتزم بالصف في الصلاة، إضافة إلى وقائع أخرى حاسمة في التاريخ الإسلامي يصعب الإحاطة بها في هذا المقال.
وفي هذا السياق، لا بد من التنويه بالأداء المتميز للممثلين المغاربة الذين شاركوا في هذا العمل الدرامي المميز، وفي مقدمتهم أسطورة وأيقونة الدراما المغربية "محمد حسن الجندي"، حيث مثل دور "عتبة بن ربيعة" بشكل متفرد، فرغم تقدمه في السن إلا أنه لازال ينبض صوته/رمزه حيوية وقدرة إبداعية متجددة... وكذلك الوافد الجديد على الدراما التاريخية الممثل "محمد بهلول" الذي مكنه دوره في مسلسل "عمر" من حضور أكثر مقارنة بمسلسل "الحسن والحسين"، دون نسيان الممثل "محمد مفتاح" الذي تقمص دور حمزة بن عبد المطلب، وبشكل أقل حضورا يأتي زميلهم الشاب والقادم بقوة "أمين الناجي"، إضافة إلى "كمبارس" مغربي متمرس في مرتفعات وارزازات، تلك القلعة الفنية التي لا زالت تنتظر حقها من الإنصاف ورد الاعتبار. وهذا موضوع آخر.
ايقاع المسلسل
إن المشاهدة المتأنية لحلقات المسلسل تجعلك تقف على ملاحظة أخرى أساسية، وهي كثرة الأحداث والوقائع التي حاول المخرج جاهدا تناولها وعرضها، الشيء الذي جعله يدخل في صراع مع زمن الحكي؛ فعوض الاكتفاء بنص يقف على ملامح بارزة من شخصية "عمر بن الخطاب"، فقد غرق في تفاصيل كثيرة ضيعت في كثير من الحلقات، خاصة الأولى منها، شخصية البطل المحوري في المنتوج الدرامي المرتبط بالقضايا التاريخية. وفي المقابل، كان ممكنا الاشتغال أكثر لايجاد صراع درامي قوي ومكثف لقضايا ووقائع محدودة في المكان والزمان، حينها سيكون أثرها أكثر وقعا لدى المشاهد، بعيدا عن هاجس الوحدة والشمولية في التعاطي مع التاريخ في الأعمال الدرامية التي تتناول مراحل زمنية من قبيل ما عُرض في مسلسل "عمر". فالعبرة ليست بكثرة الأحداث التي سيستند عليها المخرج في علاقته بالكاتب ومؤلف السيناريو، وإنما بقدرتهما الإبداعية على خلق ايقاع ينمو ويتطور على طول العمل.
إن عنصر الزمن في الأعمال الدرامية عامة هو المقياس الحقيقي لمدى الانسجام الحاصل بين كل مكونات وعناصر الإنتاج التلفزيوني؛ التقنية منها والبشرية، من أجل خلق التناغم الضروري لانسياب الحبكة الدرامية، "ملح طعام" فنون العرض.
وأخيرا، لا يجب أن ننسى أن معيار نجاح عمل تلفزيوني من هذا القبيل يُحدَّد بمدى المتابعة الجماهيرية والإعلامية المواكبة لعرضه، وهو الشيء الذي تحقق من خلال الصدى الذي نجده في مختلف وسائل الإعلام بمختلف أشكالها وأنواعها، مما يصعب معه التطرق لكل الأفكار النقدية التي خلفها عرض هذا المسلسل، لكن لابد من الإشارة إلى مجموعة من العلامات المهمة والفارقة في هذا العمل العربي الكبير والمحترم، والتي تحتاج جهدا وإعدادا كبيرين لتحقيقها، من قبيل: المؤثرات البصرية والسمعية الموظفة بشكل محترف ودقيق، وكذا الطاقم المكلف بالمعارك والحروب، والتصوير عالي الجودة، والتصميم الناجح لأماكن التصوير ... وغيرها من النقاط المضيئة في هذا العمل التلفزيوني الذي أعاد الحنين إلى الكثير من عشاق الحرية والربيع.
صحافي وباحث في الدراما والوسائط المتعددة ـ المغرب
karim.media10@gmail.com