لكل قارئ تجربته الخاصة في القراءة، تحددها عوامل مختلفة: ميوله واهتماماته الشخصية، مجال الدراسة أو العمل، التوجهات الفكرية، وحتى الأحداث السياسية التي تمر به والتي قد تؤثر في اختياراته. ولأننا نعيش في مجتمعات ليست القراءة من أولوياتها أو اهتماماتها، سواء على مستوى الأسرة أم المدرسة أم الجامعة أم وسائل الإعلام، التي لا تشجع على القراءة فضلا عن أن تهتم بتكوين الإنسان القارئ أو المثقف منذ الصغر، فثمة العديد من الصعوبات التي يواجهها القارئ العربي لا سيما المبتدئ، في مقدمتها تلك المتعلقة بمسألة "الاختيار".
ماذا أقرأ، وكيف؟
يبدأ الفرد في مجتمعاتنا في حمل "هم" القراءة متأخرا. فسنوات الطفولة والمراهقة تمر في الغالب من دون توجيه لأهمية القراءة أو للكتب التي ينبغي قراءتها، فتمضي "سدى"، لا يكتسب فيها الفرد المعارف والثقافة اللازمة التي لا توفرها له الكتب المدرسية أو الجامعية التي يُضطر لحفظها، ويكون لها في الغالب تأثير سلبي فيه بتنفيره من القراءة. وعندما يحاول المرء تعويض ما فاته يجد نفسه يبدأ من نقطة الصفر. وربما أنفق الكثير من جهده في قراءة كتب لا تستحق أن توضع ضمن الأولويات، وأهمل أخرى أكثر أهمية. على سبيل المثال يقبل الشباب العربي عادة على قراءة كتب "التنمية الذاتية"، كذلك الكتب التي تثير ضجة أو أزمة، أو تلك التي تحتل قوائم "الأكثر مبيعاً". صحيح أن أي كتاب لا بد أن يضيف لقارئه، ولكن "البناء" الثقافي والمعرفي السليم لا يمكن أن يتحقق في ظل هذه "العشوائية" في الاختيار، بل يتطلب الأمر قدرا من التنظيم والسير وفق منهج أو خـُطة.
تقوم وسائل التواصل الاجتماعي بدور كبير في نشر الوعي بأهمية القراءة وتبادل الخبرات بين القراء، لكن الأمر يتوقف في النهاية على الاجتهاد الشخصي. مثلاً، في كانون الثاني/يناير الماضي، أقيم معرض القاهرة الدولي للكتاب، أعقبه معرضان في الإسكندرية، ومعارض للكتاب في محافظات أخرى. وهو موسم المعارض دولياً. وفي مثل هذه المناسبات يتجمع لدى القراء كم كبير من الكتب، لا سيما من الإصدارات منخفضة السعر ومن الكتب القديمة أو المستعملة التي يمكن شراؤها بأسعار رخيصة. تضيق منازلنا بكل تلك الكتب، وبالإضافة إلى عبء النقل والتخزين والعبء المادي، هناك عبء أكبر، متولد من سؤال: متى نقرأ كل هذا؟ ولكنه لا يمنعنا من شراء المزيد من الكتب والحرص على متابعة أحدث الإصدارات وزيارة المكتبات وبائعي الكتب من وقت لآخر، فالكتب التي تستحق الاقتناء والقراءة لا تنتهي، والبعض يصل الأمر به إلى حد الهوس باقتناء الكتب. ولكن - وكما يقولون - "تجميع المعارف وحده لا يقود إلى الحكمة".يشكو كثيرون من ارتفاع أسعار الكتب. صحيح هناك إصدارات مخفضة مثل بعض إصدارات وزارة الثقافة في مصر منها إصدارات الهيئة العامة للكتاب والهيئة العامة لقصور الثقافة، ولكن ثمة دور نشر خاصة تحتكر عناوين مهمة أو أعمال كتاب كبار وتصدرها بأسعار مرتفعة ولا تُصدر منها طبعات شعبية تكون في متناول يد الشباب، لذلك يلجأ كثيرون إلى القراءة الإلكترونية استسهالا وتوفيرا للمال، وربما نكاية بدور النشر هذه. وهناك أيضا الطبعات المقلّدة، (او المقرصنة)... ولكنّ كثيرين يفضلون القراءة الورقية، كما انهم يحرصون على تكوين مكتبة خاصة يعودون إليها عند الحاجة ويورثونها لأبنائهم أو لمن يحبون.سؤال "ماذا أقرأ؟" يعقبه بالضرورة سؤال "كيف أقرأ ؟". إلى جانب المتعة، تبدو القراءة عملية شاقة تتطلب وقتا وجهدا يختلف قدرهما من كتاب لآخر. فالقراءة العابرة لا تضيف لصاحبها إلا القليل ويسهل معها نسيان ما قرأناه عكس القراءة بتركيز وإمعان. كما أن مناقشة الكتاب مع آخرين تضيف للقارئ وتساعد على تثبيت الأفكار في الأذهان.
الشباب العربي والقراءة: تجارب وآراء ومقترحات
يبدو محمد عطية – باحث ماجستير في التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة عين شمس – من أولئك المحظوظين الذين يولدون لأسر تولي الاهتمام اللازم للقراءة وللكتاب. من بين كتب مكتبة أبيه الصغيرة الموجودة بالمنزل كانت أولى قراءاته رواية "النداء المجهول" لمحمود تيمور. وكانت شقيقته الكبرى تصحبه من وقت لآخر إلى إحدى المكتبات ليختار الكتاب الذي يريد. أولى الصعوبات التي واجهها تمثلت في أن مصروفه اليومي لم يكن يسمح بشراء كل ما يريد من كتب، ثم الصعوبات المتعلقة باختيار الكتب والمجالات التي ينبغي أن يقرأ فيها. ولكن بمرور الوقت وباستشارة قرّاء قدامى صار أكثر خبرة وقدرة على الاختيار. فبعد أن كان غلاف الكتاب هو ما يجذبه صار يهتم باسم المؤلف ودار النشر بالإضافة لقراءة فهرس الكتاب وبضعة أسطر منه، مع أخذ ثمن الكتاب في الحسبان.يميل محمد لقراءة الأدب، فأكثر من نصف قراءاته كل عام تكون من الروايات والقصص القصيرة وكذلك كتب النقد الأدبي، يأتي كتاب "ساحر الصحراء" أو "السيميائي" لباولو كويلو على رأس أهم الكتب التي قرأها وأثرت فيه، لدرجة أنه يعيد قراءته مرة بعد أخرى، ومنها كذلك كتب مثل "حياتي" لأحمد أمين و"شخصية مصر" لجمال حمدان و"العجوز والبحر" لإرنست همنغواي.عمله متطوعا في مبادرة "كتابنا"، وهي مبادرة شبابية تهدف إلى تحويل الكتب إلى مواد مسموعة ومرئية، قاده للمشاركة في إعداد كتيب إلكتروني لا يتجاوز عدد صفحاته الخمس عشرة صفحة لشرح كيفية استخدام موقع "غود ريدز" ليكون بمثابة دليل للمستخدمين المبتدئين. بالنسبة لمحمد، يعد الموقع الأكثر أهمية بين مواقع التواصل الاجتماعي، لأنه يساعد المستخدم على ترتيب ما يقرأ وعلى اختيار الكتب من خلال الاطلاع على المراجعات المنشورة لها، وكذلك متابعة الإصدارات الجديدة. وهو ما يجعله يقضي أكثر من نصف الوقت الذي يقضيه على الإنترنت بشكل عام لتوسيع دائرة القرّاء لا سيما في أوساط الشباب يرى محمد ضرورة تخفيض أسعار الكتب وقيام دور النشر بإعداد قوائم بإصداراتها واهتمام وسائل الإعلام بنشر الوعي بأهمية القراءة، بأن تكون هناك مثلا مجلات متخصصة في الكتب تهتم بتقديم ملخصات وعروض وترشيح أخرى لا سيما للأطفال والناشئين. ويمكن اعتبار برنامج "عصير الكتب" الذي كان يقدمه الكاتب بلال فضل على إحدى الفضائيات المصرية أسبوعيا، مثالا جيدا للبرامج الثقافية التي تهدف للتشجيع على القراءة والتعريف بأهم الكتب والمؤلفين. كان يلقى إقبالا من الشباب المتعطش لمثل هذه النوعية من البرامج، ولكنه توقف منذ فترة بينما تستمر برامج لا تضيف للمتلقي سوى التسطيح والبلادة وضيق الأفق.البداية بالنسبة لعمر أبو الوفا – باحث ماجستير في الهندسة الكيميائية بجامعة القاهرة - كانت مع أعداد سلسلة "رجل المستحيل" لنبيل فاروق، وذلك في المرحلة الإعدادية . بعد توقف امتد لثلاث سنوات (باستثناء قراءة الكتب الدراسية) وبتشجيع من شقيقه، عاد للقراءة مركزا على كتابات عمر طاهر وبلال فضل ويوسف زيدان، وذلك في المرحلة الجامعية، وكانت الصعوبة وقتها تقع في كيفية التوفيق بين "حب" القراءة و"أعباء" المذاكرة.
من الصعوبات التي واجهها أيضا أنه من محافظة سوهاج، حيث لا يوجد سوى عدد قليل جدا من المكتبات (في المدينة أما القرى فلا تسل عنها)، ولا تتوافر فيها العناوين المهمة فضلا عن ارتفاع الأسعار، وعدم وجود فرع للهيئة العامة للكتاب بالمحافظة، على أهمية إصداراتها ذات الأسعار المخفّضة. مشاكل وجد لها حلا بعد إقامته الموقتة في القاهرة للدراسة. يعتبر عمر المفكر علي عزت بيغوفيتش من أكثر المفكرين الذين أثـّروا فيه من خلال كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب"، وكذلك كتاب "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" لمحمود شاكر. الاهتمام بالقراءة والكتاب ازداد لدى عمر في أعقاب ثورة يناير.
في نظره، لا يقتصر هذا الأمر عليه، إذ يرى أن الثورة ساهمت بشكل كبير في نشر الوعي الثقافي بين الشباب. وعن تأثير القراءة فيه يقول: "باختصار، القراءة جعلتني إنسانا آخر تماما غير ذلك الذي كانت اهتماماته تنحصر في متابعة مباريات كرة القدم وأخبار الصفقات الرياضية ومشاهدة التلفاز والخروج مع الأصدقاء. الآن لم أعد حتى أهتم كثيرا بقراءة الأعمدة الصحافية وإنما اهتمامي الأساسي ينصب على القراءة بشكل منهجي ومرتب إلى حد كبير، وذلك من خلال حصر الاهتمام بمجالات محددة هي الفكر والفلسفة والتاريخ".
شهدة محوك – فتاة سوريّة مقيمة في السعودية – تعتبر أنّ "بذرة القراءة مغروسة منذ الولادة في أعماق كل إنسان لأنها لا تنفصل عن غريزة الحياة والنمو والتجدد. البعض تثور في داخلهم وتنمو رغما عن الجميع، والبعض يهيئ الله لهم من يسقيها ويرعاها حتى تـُزهر، ولكن يؤسفني أن أكثر بذور شبابنا تذوي جهلا وتغاضيا وتأجيلا ولا مبالاة". لدى شهدة مقترح لمواجهة مشكلة التخبط بين الكتب التي يواجهها القارئ المبتدئ. يتمثل مقترحها في أن توضع خارطة لكل علم تعطي صورة عامة ومختصرة عنه: تعريفه، تطوره التاريخي، أهم مفكريه في كل مرحلة تاريخية، أهم المؤلّفات التي وُضِعَت فيه... إلخ، وتُنشَر في صورة كتيب مطبوع أو إلكتروني، وذلك لمساعدة القارئ المبتدئ. بل وضعت شهدة تصورا مكتوبا يتضمن شرح الفكرة وأهداف المشروع وتحديد المهام وتوزيعها على المشاركين، وهي ترى أنه مشروع كبير ما زال في صورته المبدئية ويحتاج إلى مزيد من العمل بمشاركة فريق كبير من الباحثين والمختصين في كل علم، مع اعتبار موسوعية المقترح، وخطر تعرضه للانتقائية والحاجة الى جهة علمية/عالمية منزهة الى حد كبير من أجل تنفيذه.تبقى لكل قارئ تجربته الخاصة في القراءة، إلا أن الاطلاع على تجارب الآخرين يزيد المهتم غنىً وتجربته جمالا، لأنه يساعد على تعبيد درب القراءة الطويل الوعر. والذي كلما سار فيه المرء خطوة صار أكثر وعيا ومعرفة وفهما لنفسه وللعالم، وباختصار أكثر سعادة.