تعلمت الانظمة العربية القائمة، من أسلافها الذين انتزعت الثورات والانتفاضات العربية المتوالية الحكام من مواقعهم والقت بهم في السجون (كما حال السودان ومصر السيسي وجزائر الثورة المغدورة قبل اكتمالها بإسقاط النظام بمختلف رموزه، لا سيما الجيش بشخص قائده الذي ورث بوتفليقة..). تعلمت هذه الانظمة عبر تجاربها، عموماً، من الحركات الثورية بعض تكتيكاتها، وسرقت بعض شعاراتها، وزايدت عليها أحياناً لتدفع البلاد إلى فوضى عارمة تجعل جموع الشعب تتفرق وتختنق حتى تأكل خلافاتها الثورة وأهداف التغيير: اتركوا الجماهير تأخذها راحتها وتتوهم انها تقترب من تحقيق اهدافها ثم أطلقوا عليها جماهيرنا، فمتى اختلط الحابل بالنابل أمكن لقواتنا الانقضاض بحجة الفصل بين المختلفين المتعاركين في الميدان والذين يهددون السلم الأهلي... فتكون نهاية الحراك، وينتصر النظام، بأقل التكاليف.
اذاً فليكن الحل الوسط بدلاً من الثورة.. لكن الثورة لا تعترف بالحل الوسط.. فالعسكر لا يحبون الشراكة، والعسكر ينظرون إلى "المدنيين" باحتقار، ويعتبرون السياسيين إما عملاء للأجنبي وإما من أهل الفساد يرشون ويرتشون ويسرقون المال العام.
هكذا فان العديد من الاقطار العربية يحكمها أنصاف ثوار، ودول النفط والغاز العربية من المكر بحيث تتقدم لشراء النصف الآخر بإغراء المساعدات المذهبة والمشروطة بتطهير صفوف الثورة من "المزايدين والمنافقين".. بذريعة أن الاستقرار أهم من الثورة التي يمكن أن تتحول إلى فوضى، والفوضى إلى حرب اهلية.
الخيار يصبح محدداً ومحدوداً أمام المطالبين بالتغيير: الثورة مع الفوضى أو النظام مع الاستقرار ومعالجة الامور بالحسنى، أي بأنصاف الحلول..
على هذا فان العديد من الدول العربية يحكمها رجالات انصاف الحلول التي تُبقي الازمة كامنة وقابلة للتفجر في أي وقت، وهذا مكسب للنظام، ولو ظل مؤقتاً.. مع الاشارة إلى أن معظم الانظمة العربية تعيش بأفضال هذا "المؤقت"!
وواضح أن معظم الانظمة العربية قاصرة عن تلبية مطالب شعوبها.. بل هي في الغالب الأعم لا تسمع ولا تفهم هذه المطالب التي ترى فيها خطراً على استمراريتها.
ولقد تكفل عدم الفهم هذا بادعاء الدكتاتوريات العسكرية التي تقمع شعوبها بلا رحمة أنها انما قامت بانقلاباتها وتولت الحكم في بلادها من أجل المساهمة في تحرير فلسطين مثلاً.
وهذا ما تسبب، جزئياً، في انصراف الناس عن القضية المقدسة، أولاً لغرقها في همومها، وافتراض أن تلك الانظمة الحاكمة ربما غطت عجزها عبر اندفاعها (!!) إلى نصرة شعب فلسطين في مواجهة توحش الاحتلال الصهيوني... وهكذا ضاعت القضية المقدسة بين العجزين: العجز الُدّعى والعجز المفروض بالأمر، وبالتيه الذي اغرقت فيه الشعوب العربية، بين هموم الداخل، وهي ثقيلة كفاية، وهمّ التحرير وهو أثقل من أن تتحمله منفردة.
اما اليوم فقد تزايدت الهموم داخل كل قطر عربي (خارج بيداء الخليج المذهب):
- مصر اغلقت الباب على نفسها، وانهمك نظامها القمعي في بناء الطرقات، ومعالجة اعتراضات الحبشة على السد العالي عبر بناء سدها الكبير فوق نهر النيل، قرب منابعه، مما يؤثر بشكل هائل الضرر على مصر التي يمكن القول أن السد العالي قد أعاد بناءها من جديد بإضافة آلاف الاميال إلى ارضها الزراعية وانعاش اقتصادها..
- والعراق يقف شعبه على أبواب عنف يقضي على ما تبقى من موارد أرض الرافدين عبر الصراع الضاري بين النفوذ الاميركي والنفوذ الايراني الذي يختبئ خلف "حقوق الشيعة"، بينما المرجعية العليا في النجف تنصر الحراك الشعبي وتساند جهده من اجل التغيير نحو الافضل.. برغم انف الطبقة الحاكمة متعددة الولاء والموزعة بين ترسبات الاحتلال الاميركي والنفوذ الايراني الذي يتلطى بنصرة الشيعة، في حين أن الشيعة يريدون التلاقي مع اخوتهم السنة وسائر مكونات الشعب العراقي للسير على طريق التحرر واستعادة الهوية الاصلية والقرار الوطني الحر..
- سوريا تحاول جاهدة الخلاص من ترسبات الحرب فيها وعليها التي تدور رحاها في انحائها جميعاً، مند تسع سنوات طويلة، وقد أضيف اليها مؤخراً الاحتلال التركي لبعض أراضيها في الشمال والشرق بذريعة مطاردة "المتمردين الاكراد"، والخوف من أن يتمدد هذا التمرد إلى الخمسة عشر مليوناً من اكرادها..
- اما لبنان فيعيش فرحة اكتشاف أهله، لأول مرة في تاريخه، انهم شعب وأن لبنانهم غير "لبنان" الذي اصطنعه الاحتلال الفرنسي على قواعد طائفية تلغي الوطن وتجعله كياناً - رهينة قابلاً على الدوام بالنفوذ الاجنبي، باعتباره من استولده وفصله عن اهله في سائر الاقطار العربية، بل وجعله نموذجاً يمكن أن يحتذى به في بلاد عربية أخرى، كما تدل المحاولات الخبيثة الجارية لتقسيم العراق وربما سوريا على قاعدة طائفية. وعلى الرغم من المؤامرات المتلاحقة على "الثورة" التي تفجرت في لبنان، بمختلف مناطقه وجهاته، ووحدت اللبنانيين على قاعدة المواطنة، وحاولت وما تزال تحويل "الكيان" إلى "وطن"،
إلاّ أن الزعامات الطوائفية تعمل على مدار الساعة لزرع الفتنة بين جماهير المتظاهرين الغاضبين والرافضين لاستمرار الكيان بديلاً من الوطن، والطوائف بديلاً من الشعب..وهكذا صار همّ الانتفاضة الحفاظ على وحدة جماهيرها وسلمية مسيرتها حتى لا يصادرها النظام ويحرفها عن طريقها فتصير فتنة لا تبقي ولا تذر..
وبين أسلحة النظام، هذه الايام، تجويع الشعب.. فالمصارف هرّبت أرصدتها إلى الخارج، ولا تعطي من له رصيد فيها الا مبلغ تافه لا يكفي لشراء ما يكفي لإطعامه مع عائلته..
وها هي لعبة تشكيل الحكومة والتسويف في التكليف ثم في التأليف اول الطريق إلى ما يشبه الحرب الاهلية، أو توزع اللبنانيين بين "شعوب عدة".. وثبات النظام بالدعم الاميركي المفتوح وامتناع أهل الذهب من عرب النفط والغاز عن مساعدة هذا الشعب الذي استعاد، أخيراً، هويته الاصلية.