في لحظة تسجيلها الانتصار الأول بتنحي حسني مبارك، واجهت «ثورة 25 يناير» مفرق طرق مصيريا، فإما أن تنساق إلى صراع القوى على السلطة من دون محددات أخرى، أو تنخرط في مرحلة انتقالية نحو التغيير العام. والمرحلة الانتقالية ليست مجرد تسمية، بل لها علامات وشروط للتحقق، وعلى رأسها تشكيل هيئة تأسيسية مؤقتة تتولى التحضير ـ مجرد التحضير - لمشروع دستور جديد، والتهيؤ لانتخابات تشريعية عامة، وطرح الخيارات الكبرى، السياسية والاقتصادية والاجتماعية للنقاش العام.
فات هذا الخيار الأخير، وهو الأساس، وانشغلت مصر في الصراع حول «السلطة». وفي هذه يفوز بنصيب الأسد من يملك التنظيم، والقدرة على الحشد، والإمكانات المادية و«اللوجستية» المفتوحة. ولم يكن من أطراف جاهزة سوى الجيش والأخوان. وهما كانا قد احتكما إلى معادلات وتوازنات القوى خلال العقود الستة الماضية منذ ثورة 23 يوليو.
التحالف ضد الثورة
تحالف الجيش والإخوان ضد الثورة الجديدة بهدف لجم جموحها، والإطاحة خارج الحلبة بالشباب والقوى التي أطلقت شرارتها. وتعاونا على تخطيط وتنفيذ المسار القسري الذي دُفعت إليه البلاد بعد الثورة: تأجيل صياغة مشروع دستور ديمقراطي مدني، والاتجاه إلى إجراء انتخابات متسرعة، كانت نتيجتها منح المجالس النيابية والجمعية التأسيسية والحكومة وموقع الرئاسة للتيارات الإسلامية، مع غض النظر عن تشكيل أحزاب دينية صرفة بتجاوز فظ للقانون، ومع تجاهل المليارات التي تدفقت على تيارات الإسلام السياسي من دول النفط الخليجية.
حكمت المواجهة بين العسكر والإخوان الحياة السياسية على امتداد الفترة السابقة، وطغت على السجالات والتوترات كافة. وتستند هذه المواجهة إلى عناصر داخلية وأخرى خارجية. فعلى المستوى الداخلي، كان عنوان الصراع المحموم هو إعادة تعريف توازن القوى، وموقع كل طرف وحدوده. أما على المستوى الخارجي، فالتنافس بين الطرفين جرى للفوز بالحظوة لدى واشنطن.
يتضمن المعسكر الأول قوى الإسلام السياسي المتحلقة حول جماعة «الأخوان المسلمين» وحزبها السياسي، «الحرية والعدالة». وأبرزها حزبا «النور» و«الأصالة» السلفيان، وحزب «التنمية والإصلاح» الذراع السياسية للجماعة الإسلامية، وحزب «الوسط» (برغم التناقضات بينه وبين «الأخوان»)، وجماعات أخرى أقل أهمية، فضلا عن قطاعات من ائتلافات شباب الثورة وبعض الرموز الوطنية التي تحالفت مع الأخوان ضد «حكم العسكر»، المسؤول عن غياب الحريات وتدهور الأوضاع على امتداد العقود الستة الماضية، فضلا عن الأخطاء الجسيمة في فترة ما بعد الثورة، وخصوصاً أحداث «ماسبيرو»، وشارعي «محمد محمود» و«القصر العيني»، والتجاوزات غير المسبوقة التي شرخت العلاقة بين المجلس العسكري وبين «شباب الثورة» الذي طالما هتف: «الجيش والشعب يد واحده»، فصار هتافه: «يسقط يسقط حكم العسكر». ينضم إلى هذا المعسكر قطاعات من المواطنين «العاديين»، ناصروه إما لأنهم متدينون بالسليقة ويرون في الحكم الإسلامي استجابة لتطلعاتهم، وإما لأنهم ضاقوا ذرعاً بفساد نظام حسني مبارك وأملوا الخير على أيدي ألد خصومه. وأخيرا، تضاف إليهم قطاعات من «البيروقراطية الحكومية» التي اخترقتها جماعة الأخوان بدأب طوال العقود السابقة. كما يستفيد الإخوان من الاستعداد لخدمة «السيد» المتربع على سدة الحكم أياً كان توجهه السياسي أو الاجتماعي، في تقليد راسخ يحترم الدولة المركزية سحيقة القدم في مصر.
يتحلق المعسكر المواجه حول المجلس العسكري، وقد استخدم ما صار يوصف بقوى «الدولة العميقة» في صراعه ضد الأخوان. أي مؤسسة الجيش العتيدة، وعلى رأسها جهاز المخابرات، وجهاز الأمن المبرمج تقليديا على خصومة الأخوان. ويضاف إلى هؤلاء بقايا النظام القديم، التي ترى في وجود «العسكر» الحماية الوحيدة من انتقام «العدو التاريخي». وهناك أيضاً العديد من القوى والأحزاب التي تحالفت مع المجلس العسكري في مواجهة ما تعتبره خطر «الدولة الدينية»، كما هناك الباحثون عن «الاستقرار»، وبعض جماعات «المجتمع المدني»، وقطاعات من النخبة الثقافية القلقة على أوضاع الحريات والحقوق في ظل حكم الإسلاميين، فضلا عن أغلبية المسيحيين المصريين الذين أفزعهم صعود التيارات الدينية، وما طرحه بعض المنتسبين لها من أفكار متشددة حول وضع الأقباط كـ «أهل ذمة».
حيثيات الصراع بين العسكر والإخوان
استخدم طرفا الصراع سياسة «حافة الهاوية»، أي تسخين الأوضاع، والإيحاء بأنَ «حرباً أهلية» توشك أن تندلع بينهما، (مثلما حدث عشية الحكم ببطلان «الجمعية التأسيسية» للدستور الجديد ذات الأغلبية الإسلامية، وفى قضية بطلان تكوين جماعة «الأخوان المسلمون» ذاتها)، وستفلت الأمور من أي سيطرة، مسترجعين ذكريات «أزمة مارس» 1954 الدامية. غير أنهما كلاهما كانت لهما مصلحة في ضبط الوضع عند لحظة معينة. فالتناقضات بينهما ثانوية، بمعنى أنهما رغم تنافسهما، يتقاسمان معاً مصالح اقتصادية، إن لم يكن قطاعياً (حيث هناك اختلاف بين مجالات نشاط المؤسسة العسكرية والإخوان) فعلى صعيد المفاهيم المتشابهة عن «التنمية» وإدارة الاقتصاد. فالطرفان يؤمنان بحرية السوق، والخصخصة، وما يسمونه «الاندماج بالاقتصاد العالمي». وهكذا غَلب التفاوض لتحسين مواقع نفوذ كل منهما. أما القضايا المتنازع عليها، فتأتي على رأسها قضية وضع الجيش في الدستور الجديد: حدود سلطاته، وحرية حركته، وسرية مخصصاته، ومسألة «الخروج الآمن»، (أي ضمانات بعدم محاكمة أعضاء المجلس العسكري في المستقبل عن تهم قتل الشهداء وعن الضحايا)، وأخيرا مستقبل «إمبراطوريته الاقتصادية».
القضية الأولى تردد صداها مبكرا في «وثيقة السلمي» (وهو نائب رئيس مجلس الوزراء السابق، وسميت باسمه)، وتضمنت رؤية المؤسسة العسكرية لحقوقها غير القابلة للتنازل. سقطت الوثيقة بعدما ثارت جماعات واسعة من المجتمع ومعها الأخوان على هذه السلطات «فوق الدستورية»، التي تذكِّر بوضع الجيش في التجربة التركية الكمالية. ويقع في صلب الضمانات التي طالب بها «المجلس العسكري» استمرار هيمنته على إمبراطوريته الاقتصادية التي قدّرها الخبراء بنحو ثلث الاقتصاد المصري كله. دافعت المؤسسة العسكرية بضراوة عما اعتبرته، على لسان المفوض العسكري لإدارة هذه الإمبراطورية، اللواء محمود نصر، ملكيتها الخاصة: «هذه ليست أموال الدولة، وإنما «عرق» وزارة الدفاع من عائد مشروعاتها»، و«سنقاتل على مشروعاتنا، وهذه معركة لن نتركها».
وفي هذا الصراع المصيري، لجأ كل طرف إلى «أسلحته». تذكّر الأخوان «ميدان التحرير» بعد طول تنكّر، واستدعوا شخصيات عامة انفضت عنهم. وبعدما كان شعار الجماعة وحزبها ـ في فترة شهر العسل مع المجلس العسكري ـ أن «الشرعية للبرلمان ولا شرعية للميدان»، وبعد اتهامها الشباب الثائر بالبلطجة والدعارة وتجارة المخدرات، أعادت تنشيط العلاقات مع بعض فصائلهم، ورفعت مجددا شعارات الثورة التي غُدرت، وحشدت المليونيات فى صراع الإرادات مع العسكر، لإجباره على التراجع حتى الحدود المقبولة. أما العسكر، فقد أخرجوا من جعبتهم المليئة بالأسرار، سلاحين ماضيين: الإعلام والقضاء. فترسانة الإعلام المصري الضاربة، مملوكة في أغلبها للدولة (القطاع الرسمي)، وخاضعة لهيمنة العسكر، أو ملك لـ«فلول» النظام السابق من رجال الأعمال، الذين يخشون القادم الجديد، بـ«حيتانه» المالية المنافسة. وقد دارت ماكينة الإعلام الجبّارة لتعرية سوءات الخصوم، وفضح هزال حضورهم السياسي رغم ضخامة حجمهم التنظيمي والمالي، مترصدةً سقطات بعض المنتسبين لجماعاتهم. ونجحت في هزّ صورتهم. وتبدى ذلك في انكشافهم السريع والمريع، حيث فاز محمد مرسي بفارق ضئيل من الأصوات على مرشح «الفلول» أحمد شفيق، بخلاف اكتساح الإخوان انتخابات مجلس الشعب قبل أشهر معدودة. أما الترسانة القانونية، فقد استخدمها المجلس بصورتيها المباشرة (إعلانات دستورية، وإعلانات مكمِّلة تمنحه ما شاء من مزايا وسلطات)، وغير المباشرة عن طريق مؤسسة القضاء الرسمي. فبعد حكم المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب، ذي الأغلبية الدينية، نظر القضاء في أسبوع واحد في سيل من القضايا، تهدد بإبطال مجلس الشورى والجمعية التأسيسية الجديدة التي تشكلت بعد حل الأولى. بل هدد صراحة بأن يدفع ببندٍ قاطع إلى مسودة الدستور الجديد، يحتم إجراء انتخابات رئاسية فور الانتهاء من إعداده، للإطاحة بمحمد مرسي من موقع الرئاسة، الأمر الذي يعني توجيه ضربة صاعقة للوجود المادي والمعنوي لجماعة الأخوان، ولمشروع «أسلمة مصر». وقد صرح المشير حسين طنطاوي، بأن «مصر ستظل لكل المصريين، وليست لمجموعة واحدة أبداً».
تدخلت ساعتها الولايات المتحدة الأميركية، الراعي الرسمي للعلاقات بين الصديقين اللدودين، لنزع فتيل الانفجار، وإعادة ترسيم الحدود بينهما. وعلاقات الولايات المتحدة بالمجلس العسكري وبالإخوان لم تنقطع للحظة. وأما الأولى فمعروفة، وأما العلاقة بالإخوان فقديمة أيضاً، تواترت سرعتها بمجرد إسقاط مبارك، فتقاطرت الوفود الأميركية المستطلعة لمواقفهم من «القضايا الملّحة»، وبالذات من إسرائيل والاتفاقات معها، ومن طبيعة النظام السياسي والاقتصادي الذي يتأسس على أنقاض حكم مبارك. وقد خرج جميع المبعوثين الأميركيين الذين التقوا بقيادات الأخوان (وأشهرهم ماكين، وكيري، وكارتر، وكلينتون،) بنص شبه موحد: «تلقينا ضمانات قاطعة بالحفاظ على الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، وتدعيم النظام الاقتصادي القائم».
لا غالب ولا مغلوب إذاً. كسب المجلس العسكري «تحصين» وضعه وسلطاته ومصالحه الاقتصادية في الدستور الجديد. وأما الإخوان، وإن خسروا مجلس الشعب، فقد ضمنوا حماية موقع الرئاسة لخمس سنوات قادمة (حسب المدة المقترحة في الدستور الجديد، بدلا من أربع). وباركت الولايات المتحدة الاتفاق عن طريق الوعد الذي قدمته هيلاري كلينتون، في لقائها يوم 13 تموز/ يوليو الماضي مع الرئيس محمد مرسي، بـ«حزمة مساعدات أميركية، وصندوق جديد لزيادة الاستثمار في مصر»، وبإعلانها أن الولايات المتحدة «تقف على مسافة واحدة من أطراف الحكم». وتبع ذلك حدث يخص العلاقة بين الأخوان وإسرائيل، وهو رد محمد مرسي على رسالة التهنئة التي تلقاها من شمعون بيريز.
أما الاختراق الثاني فقد تحقق بتدشين «المحور السني»، الذي أعلنه الرئيس المصري من السعودية، في حضرة الملك عبد الله، بما يعنيه من خطوة بالغة الأهمية في حصار إيران وحزب الله وسوريا، وفى خدمة الإستراتيجية الأميركية في المنطقة. فكوفئ الإخوان بوديعة الملياري دولار التي وضعتها الدوحة في البنك المصري.
ولعل هنا يقع سر الترتيبات «المتوازنة» التي بدت درامية ومفاجئة، كإحالة الجنرالين طنطاوي وعنان إلى التقاعد (وتعيينهما مستشارين لمرسي)، وكذلك تعيين كل الجنرالات الآخرين المقالين في مواقع إدارية واقتصادية كبرى. وبهذا تفتتح صفحة جديدة من توفير الاستقرار لـ«مرحلة ما بعد مبارك»، وربما لإبراز القدرة الوظيفية الفائقة للإخوان في خدمة «النظام» بمعناه العميق (هو الآخر)!
امبرطورية الجيش
علاوة على شركات التصنيع والتجارة في الأسلحة والذخائر والمعدات والأنظمة العسكرية، هناك مروحة واسعة من الشركات العملاقة العاملة في مجالات النقل البحري، وإدارة الموانئ، وصناعات السفن والسكك الحديدية، والكمبيوترات، والبتركيماويات، والطاقة من غاز ونفط، ومشروعات الصرف الصحي، والبيئة، والبنية الأساسية، والاتصالات، ومستلزمات الزراعة من أجهزة وأسمدة، وإنتاج وتصنيع زراعي، وتربية الماشية، وتجارة الجملة والتجزئة... ولاقتصاد الجيش شراكات مع القطاع الخاص المحلي والأجنبي.
...واقتصاد الإخوان
يتجه الأخوان للتركيز على تجارة الجملة والتجزئة، وخدمات الصحة (المستشفيات والمستوصفات)، والمشروعات الزراعية، وشركات الطباعة، والخدمات التعليمية (المدارس والمعاهد)، والصناعات الاستهلاكية، والمشروعات الخدمية (مطاعم، أسواق جملة، مواد غذائية، ملابس، عقارات، مضاربة على الأراضي..)، وأنشطة السوق المالية (تجارة العملة).