أتصيد النوم، فأبحث عن برنامج تلفزي ممل يخدّر أعصابي حتى يغلبني النعاس. بعد نصف ساعة من اللف والدوران وتعذيب "الريموت كونترول"، أعثر أخيرا على ضالتي في قناة إخبارية تبث باللغة الانجليزية التي لا أفهمها جيداً عندما يتعلق الأمر بمادة مسموعة. المشكلة ان ضيوف البرنامج الحواري ليسوا من الناطقين الأصليين بالانجليزية. بطء تدفق الكلام والتركيز على مخارج الحروف يجعلني التقط كلمات وعبارات وأركز مع الموضوع : أوروبا بعد ثلاثين سنة من سقوط جدار برلين..
***
لا أتذكر جدار برلين ولا ينتابني حنين خاص إلى ما قبل سقوطه.. لكن تربطني به ذكرى. ففي نفس ذلك اليوم توفي جد أمي وفقدت العائلة آخر أبنائها الذين ولدوا في القرن التاسع عشر. لا أتذكر هذا الجد فلم يكن عمري يتجاوز الخمس سنوات عند مماته. لكن، بقيت في ذهني ذكريات أو بالأحرى صور من يوم جنازته. بدأ ذلك النهار بالبكاء وانتهى بحالة فرح جماعي، فأحد أبناء العمومة عاد من فرنسا بعد سنوات من الغياب. ابن العم هذا افتتح "موسم الهجرة إلى الشمال" الذي ما زال مستمراً إلى اليوم حتى أصبحت لنا فروع عائلية في أغلب الضواحي الباريسية. وهذه حكاية اخرى..
***
لا أتذكر سقوط جدار برلين، ففي عاداتنا نغلق التلفاز لمدة تتراوح بين أسبوع وشهر عندما يموت احد الأقارب. وحتى عندما كنت افتح خلسة تلفازنا ال"تليفنكن" أبو كرش، فذلك لمشاهدة الرسوم المتحركة في إحدى القنوات المتوفرة آنذاك: ا.ت.ت (الإذاعة والتلفزة التونسية) و الفرنسية "فرانس 2" التي كان الرقيب التونسي يتدخل أحياناً لقطع بثها عندما تمرر مشاهد "ساخنة" (أظن ان تقدير مدى "سخونة" المشهد كان يترك لاجتهاد الرقيب ومرونته)، وقناة "راي أونو" الايطالية. أحياناً، وعندما يكون الطقس صافياً، كان هوائي التلفاز يلتقط قنوات ايطالية أخرى (لها أفضال على اجيال من المراهقين التونسيين)، وكذلك قناة الجماهيرية الشعبية العظمى التي كانت برمجتها تقوم أساساً على بث خطب القذافي واجتماعات اللجان الشعبية وأغاني محمد حسن. "ليش بطى مرسالك عني" و "يسلم عليك العقل ويقلك نبيك..أما خطاوي الرجل صاعب عليها تجيك".
***
لم يكن سقوط جدار برلين الحدث التاريخي الوحيد الذي "عاصرته" ولم أعي به في سنوات الطفولة. بعدها بأشهر اندلعت حرب الخليج الثانية. حرب لا أتذكر منها إلا تعطل الدراسة لبضعة أيام وصور صدام حسين التي كانت في كل مكان. لم يفتني الكثير وأبت الأقدار إلا أن "تعوضني"، فشهدت حرب الخليج الثالثة وغزو العراق مباشرة عبر القنوات الفضائية.. وسقطت قطعة من قلبي عندما سقطت بغداد.
***
بعدها بسنة سينهار الاتحاد السوفيتي أيضاً.. لم أفهم ماذا حدث حينها، لكنني أتذكر رجلاً لديه "لطخة" حمراء غريبة أعلى جبينه: ميخائيل غورباتشوف. يبدو إن ما حصل كان مهماً جداً، فلقد كان أبي وكبار العائلة يتحدثون عنه كحدث فارق في التاريخ. طبعاً لم يعني لي هذا السقوط شيئاً في تلك الفترة، لكن بعد سنوات طويلة، ومع بداية المسيرة "الايديولوجية"، سينتابني الحزن. حاولتُ أن أفهم لماذا انهار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي والأحزاب الشيوعية عموماً. تكفل الرفاق، الله يكثر خيرهم، بتوضيح الأمور وأكدوا لي أن النظرية علمية وصحيحة لكن المشكل في الممارسة والتطبيق. لم يطمئن قلبي كثيراً وما زلت اشك في صحة كلامهم، لكن جبر الخواطر حلو.
***
خلال نفس تلك الفترة "الجميلة"، كانت "انتفاضة الحجارة" الفلسطينية في أوجها. أتذكر حضورها الدائم في نشرات الأخبار، وبعض الصور التي ألصقها أخوالي في بيت جدي: أطفال ملثمون يحملون في أياديهم المقلاع وتمتلئ جيوبهم بالحجر. لكن تبقى أغنية "وين الملايين" عنوان تلك الفترة في ذهني. وطبعاً كنت أغنيها "ترتاح أولاد الفراشة وتشقى الملايين" قبل أن أكتشف بعد سنوات انها "أولاد الفلاشا".. تراجع صدى هذه الأغنية لفائدة اوبيريت "الحلم العربي" مثل نهاية مرحلة وبداية أخرى. في إحدى سنوات الانتفاضة طلبت منا معلمة التاريخ والجغرافيا ان نعد بحثاً عن عواصم عدة بلدان، فاخترت فلسطين لأن اسمها كان يعود يومياً وبشكل متواتر في وسائل الإعلام. لم أكن اعرف اسم عاصمتها فطلبت المساعدة من أبي. كان يومها في حديقة المنزل يقتلع الأعشاب الضارة (سنوات المكتب والوظيفة لم تُنسه أرض الأجداد وخدمتها). سألته عن المعلومة فأجاب ببساطة: "القدس المحتلة". ثم عاد بسرعة إلى اقتلاع الطفيليات كأنه كان يحدثني عن تعاقب الفصول أو هطول المطر. لزمت مكاني وطلبت منه إجابة أكثر وضوحاً وخاصة أن يشرح لي معنى "محتلة" ولِما سُمّيت كذلك. كلماته البسيطة والواضحة ظلت إلى اليوم بوصلتي رغم كل ما قرأت وفهمت بعدها.
***
وعيي الأول بتعاسة وخيانة النظام العربي كان بفضل المرحوم جدي.. كان ذلك في أوائل التسعينات الفائتة، في أيلول/سبتمبر قبل يومين أو ثلاثة من العودة المدرسية. يومها كنت فرحاً بالأدوات المدرسية ورائحة الكتب الجديدة. جدي كان جالساً في ركنه المعهود يترشف الشاي الأحمر ويستمع إلى بي.بي.سي عبر جهاز راديو "طومسون" عتيق ورثه عن أبيه (حرصتُ على أن يكون نصيبي من ارثه عندما توفي)، ثم فتح التلفاز وظل يشاهده بتركيز وتوتر. أظن انها كانت المرة الأولى التي أرى فيها جدي حزيناً. انظر إلى التلفاز ولا أرى شيئا يستدعي الانتباه.. فقط رجال في حديقة جميلة وشاسعة، أمامهم طاولة وكراسات يتداولون على الكتابة فوقها. أحد الرجال كان يرتدي بدلة خضراء غريبة تشبه لبس العسكر والمدنيين في آن واحد، وكان يضع على رأسه غطاءً أبيضاً مرقطاً بالأسود. كلهم كانوا يبتسمون، إلا جدي كان غاضباً ويتمتم: "باعوها الكلاب". لم افهم مَن هم الكلاب وماذا باعوا ومَن المشتري. يومها لم أكن اعرف إنني بصدد مشاهدة بيل كلينتون واسحاق رابين وشيمون بيريز وياسر عرفات وآخرين مجتمعين لتوقيع اتفاقية أوسلو 1993.
***
في تلك السنوات "المجيدة" ستتفكك يوغوسلافيا وتندلع حروب البلقان. أتذكر مشاهد التقتيل والدمار التي كانت تبثها القناة التلفزية الوطنية ودعوات أفراد العائلة لتفريج كرب المسلمين الذين يتم تذبيحهم وإبادتهم. كنت معجباً بشجاعة الصحافي حبيب الغريبي (يعمل حالياً في قناة الجزيرة) صاحب برنامج "جواز سفر" الذي كان يصور من على عين المكان مرتدياً خوذات وقبعات غريبة. التصقتْ في ذهني ثلاث أغنيات من تلك الفترة، الأولى ومضة اليونيسف "أنقذوا هذه الطفولة.. انقذوا هذه الحياة"، وكليب اغنية حزينة بالانجليزية تبث مدبلجة بالعربية (sing for me, sing for Sarajevo) ، وكذلك أغنية "سراييفو" للطفي بوشناق:
" سراييفو
لا شيء هذا الخريف
سوى الحرب تدوي بصمت مخيف
وتسرق منك الخطى والرغيف"
***
خلال حروب البلقان، كنا في المدارس التونسية نجمع معونات لإرسالها إلى "إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك".. ملابس شتوية، أدوية ومواد غذائية معلبة. علب المعكرونة (معجنات) والطماطم المجففة كانت أكثر المواد الغذائية التي تقدم في حملات التبرع، حتى أعتقدتُ ان البوسنيين لا يأكلون إلا "السباغيتي" وكنتُ أغبطهم على ذلك. في كل حملة تبرع كنت أساهم حماس، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأدوية.. أطوف على غرف منزلنا وبيت جدي واجمع كل علبة دواء تقع عليها عيني، حتى مراهم أوجاع المفاصل وأدوية السكري وضغط الدم. كانت أيضاً فرصة للتخلص من أدويتي، خاصة تلك ذات المذاق المر.
البعض كان يشكك في مصير المعونات المجمعة، وكان هناك من يعتقد جازماً ان الدولة كانت توجهها لاستعمالات محلية وتقدمها في شكل مساعدات للفقراء بإسم الحزب الحاكم.. لا أعلم ان كانت هذه إشاعات أم حقيقة.
***
الغريب في الأمر اني لا أتذكر أموراً كثيرة فيما يخص الشأن السياسي المحلي في تلك الفترة. فقط صور ضبابية عن كلمات معقدة تُكتب على الجدران ليلاً ثم يأتي رجال آخرون ليغطونها بالطلاء في الصباح الباكر. فيما بعد سيخبرني أبي أن تلك الكلمات كانت شعارات سياسية يكتبها المعارضون لبن علي (خاصة الإسلاميين) في أوائل التسعينات، عندما كان الجنرال يضع أسس ديكتاتوريته التي عشتها طفلاً ومراهقاً وشاباً. كانت هناك كلمات يقولها الناس همساً وهم مرتعبون: "مناشير"، طلبة، سياسة، "فلان هزوه في الفجر"، "فلان ورا الشمس"، "خوانجية"..
***
تلك الفترة كانت الأتعس في تاريخ البشرية على مستوى الموضة، سواء تعلق الأمر بالملابس أو بتصفيفات الشعر. هذا الأمر لم أنسه أبداً. يكفي ان تشاهد البوم صور التقطت في اواخر الثمانينات - بداية التسعينات من القرن الفائت لتتأكد بنفسك.
***
في العشر سنوات الأولى من حياتي، سقط عالم قديم وولد آخر. وكنت حينها مشغولاً بمشاهدة "الكرتوون" وجمع صور لاعبي كرة القدم لإكمال ألبومات "بانيني" لكأسي العالم ايطاليا 1990 وأمريكا 1994. ولدت متأخراً جداً أو مبكراً جداً، وعشت مع العالم "فترة انتقالية" ستنتهي مع صور سقوط جديد: برجي"مركز التجارة العالمية" بنيويورك في 11 أيلول/ سبتمبر 2001.
***
لم أنم بعد، انتهى البرنامج الحواري وبدأت القناة في بث برنامج آخر حول البيئة على ما أظن. أقوم بجولة أخرى بحثاً عن قناة مملة أكثر فأشعر برغبة في التدخين. أجد علبة السجائر فارغة فأقرر الخروج لشراء علبة أخرى. طار النوم..