في منتصف تشرين الاول/ أكتوبر الماضي، وفي أجواء تظاهرة إعلامية، استقبل ملك البحرين رئيس ديوان الرقابة المالية والإدارية ليستلم منه آخر تقرير أصدره الديوان. فيما بعد، وككل سنة، تستمر الأجواء الإحتفالية برتابة طقوسٍ لا تتغير، فيزور رئيس الديوان كبار مسئولي الدولة بمن فيهم رئيسَي مجلس النواب والشورى لتسليم التقرير إليهم. وعلى هامش تلك الزيارات التي توثقها وسائل الإعلام بتفاصيلها، يتولى صحافيون تدبيج المقالات ونشر التحقيقات حول بعض ما يتضمنه التقرير من أمثلة على سوء إدارةٍ وهدر مالي. تتغير العبارات ويتغير أصحابها، ولكنها تتشابه في إنها لا ترى إلا ما تريد السلطة أن يراه الناس.
طقوس سنوية لإدانة الفساد
لم تتغير هذه الطقوس منذ أن بدأ ديوان الرقابة نشاطه في 2002. وحسب مرسوم تأسيسه، يتولى الديوان مهمة الرقابة المالية على أموال الدولة والتحقق بوجه خاص من سلامة ومشروعية استخدام هذه الأموال وحسن إدارتها. لا تشمل صلاحيات الديوان الرقابة المالية أو الإدارية على وزارتي الدفاع والداخلية، وعلى الحرس الوطني وجهاز الأمن الوطني التي تشكل ميزانياتها المعلنة أكثر من 38 في المئة من ميزانية الدولة (2019).
لم يتوصل ديوان الرقابة المالية والإدارية طيلة الستة عشر سنة الماضية إلى تسمية فاسدين، أفراداً كانوا أو شبكات، ناهيك عن مقاضاتهم. فمنذ تأسيسه، لم يكن مطلوباً منه وليس متوقعاً في المستقبل أن يتمخض ديوان الرقابة ذاك وتقاريره السنوية بأكثر من الضجيج الذي يمكن تقديمه في المحافل الدولية تنفيذاً لمتطلبات "الشفافية" وحكم القانون. فالمطلوب كما رأينا بعد ستة عشر تقرير سنوي هو تنظيم مهرجان ينشغل به الناس، مع ما ينشره الإعلام وما يدور في مجلس النواب من مداولات حول طرق إجتثاث الفساد. وطيلة أسابيع قليلة بعد صدور التقرير تنشر الصحف مقالات مكرورة تستنكر الفساد والهدر وتعلن في الوقت نفسه ثقتها في الملك وعائلته.
يتولى الديوان مهمة الرقابة المالية على أموال الدولة والتحقق بوجه خاص من سلامة ومشروعية استخدام هذه الأموال وحسن إدارتها. لا تشمل صلاحياته الرقابة المالية أو الإدارية على وزارتي الدفاع والداخلية، وعلى الحرس الوطني وجهاز الأمن الوطني التي تشكل ميزانياتها المعلنة أكثر من 38 في المئة من ميزانية الدولة.
يتكرر هذا الطقس في مجلس النواب المؤلف من نوابٍ سهّلت السلطة وصولهم إلى عضوية البرلمان بدون تمييز بين الليبراليين منهم أو رجال دين يراوحون بين مختلف درجات التشدد. يتنافس بعض النواب على رفع الأصوات إستنكاراً لتجاوزات ذكرها التقرير. ثم تنتهي سريعاً مناقشاتهم بإتفاق الجميع، بمن فيهم ممثلي الحكومة التي يستعرض التقرير بعض مظاهر الفساد وسوء الإدارة فيها، على ضرورة الإصلاح. طيلة ممارسة هذه الطقوس السنوية لا يرفع أحدٌ صوته (أو صوتها) إلى أعلى مما هو مقبول. وبالطبع لا يجرؤ أحدٌ أن يطالب بمساءلة وزير أو محاسبته ناهيك عن سحب الثقة منه. فهذه جميعها أدوات دستورية لم تستطع البرلمانات المتتالية التي شهدتها البحرين منذ 2002 أن تستخدمها.
وزير مالية فاشل في دورٍ جديد
التقرير الجديد ضخمٌ، تقارب صفحاته التسعمئة. وهو أول تقرير يصدره الديوان منذ أن تولى رئاسته أحمد الخليفة في أيار/مايو الماضي. وهو نفسه الذي تولى وزارة المالية في الفترة بين 2005 و2018 وكرّس دورها في حراسة الإعتداءات على المال العام فساداً أو هدراً أو نهباً. ففي تلك الفترة، كانت المخالفات والتجاوزات في وزارة المالية مواضيع متكررة في جميع التقارير السنوية لديوان الرقابة. إلا إن السلطة وعلى رأسها الملك وعمه رئيس الوزراء استمرت في تجاهل ما أشارت إليه تلك التقارير صراحة أو ضمناً، كما استخفت بما كانت تطرحه أطرافٌ معارضة من حلول إصلاحية. فتلكَ تستدعي بدايةً أن تتخلى العائلة الحاكمة عن إمتيازاتها التي تستند من جهة إلى حقوقها في "غنيمة فتح البحرين"، ومن جهة أخرى إلى ما سنّه الإستعمار البريطاني من قوانين وأنظمة وأساليب حكم.
بعد أربعة عشر سنة من ولاية أحمد الخليفة على وزارة المالية، وصلت البلاد إلى مشارف الإعلان عن إفلاسها وبدا واضحاً فشله في الإمساك بزمام الأمور. فلقد إنخفضت إحتياطياتها من النقد الأجنبي وتجاوزت تكاليف خدمة ديونها، المعلنة وغير المعلنة، قدرتها على التسديد وإنخفض تصنيفها الإئتماني. ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه اتخذ الوزير، وبموافقة أعضاء مجلسي النواب والشورى، سلسلة من الإجراءات المتخبطة بما فيها إلغاء الدعم الحكومي على المواد الأساسية وفرض سلسلة من الضرائب غير المباشرة وزيادة الرسوم المفروضة على الخدمات. وعلى الرغم من الأعباء الإضافية التي فرضتها تلك الإجراءات على الفقراء وشرائح الطبقة الوسطى، إلا إنها لم تؤدِ إلى وقف وتيرة الإنهيار الإقتصادي الوشيك.
لم تعد الإجراءات الترقيعية تكفي وليس مطروحاً مجرد التفكير في إدخال إصلاحات حقيقية على النظام السياسي والإقتصادي.
وزير المالية الذي غادر وزارته وقد تجاوزت ديون البحرين الثلاثين مليار دولار أمريكي، أي ما يزيد على أربعة أخماس الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، هو نفسه الذي يتولى الآن المراقبة المالية والإدارية في الدولة.
جاء الفرجُ، مرة أخرى، عن طريق السعودية والإمارات والكويت التي قدمت دعماً مالياً مشتركاً بقيمة عشرة مليارات دولار. لم تكن هذه أول مرة تتلقى العائلة الحاكمة في البحرين دعماً مالياً من العوائل الحاكمة في كلٍ من السعودية والإمارات والكويت وقطر (قبل 2016). فقبل أيام قليلة من دخول القوات السعودية والإمارتية إلى البحرين للمشاركة في قمع إنتفاضة دوار اللؤلؤة، أعلن المجلس الوزاري لدول مجلس التعاون الخليجي عن تخصيص مبلغ عشرة مليارات دولار لتمويل مشاريع التنمية في البحرين لفترة عشر سنوات قادمة. (جريدة الرياض 1/3/2011). إلا إن الدول الثلاث إشترطت ما يرقى إلى فرض الوصاية المالية على البحرين، أي إشرافها المباشر على تطبيق برنامج متكامل يتضمن مراجعة السياسة المالية وصولاً إلى تحقيق التوازن المالي بحلول العام 2022. كان ذلك الشرط إعلاناً بعدم الثقة في قدرات وزارة المالية في البحرين والخشية من أن تلقى المليارات العشرة الجديدة مصير ما سبقها.
إنقاذ البحرين من الإفلاس
25-10-2018
على الرغم من الحصانة الخاصة التي يتمتع بها أفراد العائلة الحاكمة في البحرين، لم يجد الملك مفراً من التضحية بوزير ماليته في نهاية العام الماضي بآخر من أفراد العائلة. فحين أقال الملك وزير المالية من منصبه كان يؤكد للسعودية والكويت والإمارات جدية إلتزامه بالشروط التي يتطلبها "برنامج التوازن المالي".
عُزل وزير المالية من منصبه في كانون الأول/ ديسمبر الماضي بسبب عدم ثقة الدول الثلاث المانحة في قدراته وكفاءته. إلا إنه لم يختفِ. ربما فرضت توازنات أجنحة العائلة الحاكمة والحصانة الخاصة التي يتمتع بها أفرادها أن يحتفظ الملك به بل وأن يكافأه بعد ستة أشهر من عزله. لهذا رأينا إن وزير المالية الذي غادر وزارته وقد تجاوزت ديون البحرين الثلاثين مليار دولار أمريكي أي ما يزيد على أربعة أخماس الناتج المحلي الإجمالي للبلاد هو نفسه الذي يتولى الآن المراقبة المالية والإدارية في الدولة.