الكرد العراقيون: حركة تحرر «يحررها» الاحتلال

مع الانسحاب الأميركي من العراق في نهاية عام 2011، عادت «المسألة الكردية» العراقية فبرزت إلى الواجهة كقضية أساسية في الاهتمامات الوطنية، وكواحدة من تحديات ضمان وحدة البلاد واستقرارها. ومع ذلك الانسحاب، تفجرت حزمة من المشكلات، وعاد التصادم مع المركز. ذلك أن القيادة الكردية لا تريد مغادرة الوضع الاستثنائي الذي ظلت تتمتع به خلال فترة العقدين الذهبيين السابقين، وهي قلقة من أن تفرض
2014-07-09

عبدالأمير الركابي

كاتب من العراق


شارك
صلاح جياد المسعودي - العراق

مع الانسحاب الأميركي من العراق في نهاية عام 2011، عادت «المسألة الكردية» العراقية فبرزت إلى الواجهة كقضية أساسية في الاهتمامات الوطنية، وكواحدة من تحديات ضمان وحدة البلاد واستقرارها. ومع ذلك الانسحاب، تفجرت حزمة من المشكلات، وعاد التصادم مع المركز. ذلك أن القيادة الكردية لا تريد مغادرة الوضع الاستثنائي الذي ظلت تتمتع به خلال فترة العقدين الذهبيين السابقين، وهي قلقة من أن تفرض عودتها لأحكام التوازنات الوطنية قواعد جديدة تهدد المكتسبات أو «المنجزات» التي تعتقد انها حققتها حينما كانت متحررة من وطأة تلك التوازنات.
الوضع الجديد أسبغ على السلوك الكردي وردود المركز عليه نوعا من الارتجال والتضارب. مع أن الطرفين يدعيان الاستناد للدستور المعمول به بعد الاحتلال عام 2003، وهو ما لا يؤمِّن قاعدة يُركن اليها، بحكم أن التفسيرات الدستورية قابلة للتباين والتباعد، ما زاد من تبرير الحاجة لإعادة صياغة وتجديد الرؤية حول هذه القضية من بين قضايا الانشغال المحورية الأخرى، كمثل «المسألة الزراعية» أو «المسألة النفطية» أو «القضية النقابية»...

تحرر؟

لم تعد القضية الكردية بعيدة عن الشك في نسبتها لمعسكر التحرر. فالأكراد «تحرروا» فعليا منذ عام 1991، مع الحرب الأميركية/العالمية التي شُنت على العراق ثم إخضاعه للعقوبات الدولية. حدث ذلك على يد الأميركيين حين فصلوهم عن المركز، وجعلوا من مناطقهم جيبا محميا، ما وضعهم بموقع حركة تحرر يحررها الاحتلال، في وقت كان العراق يتجه إلى فقدان سيادته الوطنية ككل وصولا إلى الغزو الأميركي عام 2003. ولا يمكن والحالة هذه أن لا تنشأ معادلة تقول ان العراق كلما كان «متحررا» ككل، تناقصت حرية الأكراد كجزء، والعكس صحيح. وهذه فكرة منتشرة عموماً وإنْ تكن غير مبلورة نظريا، والرأي العام في المناطق العربية من العراق يستبطنها، مضيفا لها توابع تُتداول كبداهة، من قبيل علاقة الكرد بإسرائيل وبالغرب المعادي. ومن الطبيعي أن يتصاعد هذا المناخ كلما تعالت نغمات الانفصال الكردي، أو العزم على تصدير النفط من دون العودة للمركز، أو المطالبة الملحاحة بكركوك، أو إثارة مسألة ما يعرف بـ«المناطق المتنازع عليها».

تفاوتات

أصحاب التحليل الطبقي يميلون لعدم أخذ الأكراد ككتلة، فيعمدون للتفريق بين قيادة كردية إقطاعية المنحدر والواقع، وشعب كردي موزع على ولاءات متغيرة. إلا أن مثل هذا المنطلق في الحكم غالبا ما يفتقر للقاعدة أو للخلفية المنهجية، ما يجعله يتراوح بين التبسيطات الطبقية الإيديولوجية، والقاموس الدعائي المعتاد، ولا تصبح هذه الناحية ذات دلالة إلا إذا حسم أولا موضوع ما اذا كانت كردستان مشمولة بعملية التشكل الوطني العراقي الحديث، والتي تبدأ من القرن السابع عشر، بعد قرون الانهيار والفوضى التي استمرت إثر سقوط بغداد العباسيين عام 1258. وقتها، أي مع القرن السابع عشر، ظهر أول التبلورات الاجتماعية الحديثة ممثلة بـ«الاتحادات القبلية» في الجنوب والشمال، فكان اتحاد قبائل «المنتفك» في الجنوب يناظره اتحاد «آل بابان» القبلي في الشمال.
والاتحادان مارسا الفعالية على مستوى العراق، كلٌ من موقعه وبالعلاقة مع المركز المملوكي أو العثماني. كذلك يدخل الشمال، والسليمانية بالذات، ضمن عملية تشكل السوق الوطنية، ما تدل عليه فعاليات اقتصادية وتجارية تابعها باحثون مختصون. ويفسر هذا السياق موقع الأكراد في الدولة الحديثة بعد تشكلها في 1921. فأول انقلاب عسكري في العراق والمنطقة (وربما في العالم الثالث)، قام به عام 1936 بكر صدقي وهو كردي. إلا أن الناحية اللافتة للنظر ـ والتي قد تتشابه مع ما كان للاحتلال الأميركي عليها اليوم من أثر ـ أن تكون «الثورة الكردية» قامت عند مطلع الستينيات من القرن الماضي، بعد سقوط النظام الملكي وفي عز ثورة 14 تموز 1958 الوطنية. غير أن دلالتها كانت مناقضة للثورة الوطنية العراقية وأهدافها، وكأنها حدثت لتثأر من ثورة قامت ضد الإقطاع وعمدت لتصفية ركائزه على مستوى العراق. وسواء في حينه أو اليوم، يمكن أن يُعزى الموقف الكردي الى نوع من التفاوت في النمو مصدره تباين في بنى مناطق العراق، حيث المنطقة الشمالية يسودها نمط من العلاقات الإقطاعية، بينما لا يعرف العراق وأرض السواد تاريخياً مثل هذا النوع من العلاقات، بل سادت هنا علاقات شبه مشاعية، مساواتية، فرضتها ظروف وطبيعة الإنتاج النهري بمقابل الإنتاج الزراعي الديمي شمالا.
وفي حين أن نظام «شبه الإقطاع» فُرض جنوبا بالقوة بتمليك بعض شيوخ العشائر الأرض وفق «قانون التسوية» لعام 1932، ما خلق حالة غير مسبوقة من التذمر والرفض منحتْ القوى الحزبية الإيديولوجية زخما هائلا، وسهلت سقوط النظام الملكي وركيزته الاجتماعية الإقطاعية، ظل الإقطاع في كردستان معتبرا كحالة طبيعية، ما يجعل من غير المبالغ به القول بأن أحد أهم الحوافز الدافعة للثورة الكردية المسلحة بقيادةٍ ذات انحدار إقطاعي، هو دافع الحفاظ على مواقع هذه القوى اجتماعيا وسياسيا، بصرف الاهتمام إلى المسألة «القومية» وتغليبها على المحركات الاجتماعية. ومن هنا تتأتى الحاجة لدى القيادة الكردية للتركيز على كون الطابع «الاحتلالي» داخلي، وان «الإمبريالية» عربية عراقية لا أميركية، وأن الثورة كما في الستينيات ليست تلك التي تصفي الإقطاع، وتسن قانون الإصلاح الزراعي، وتعيد توزيع الأرض على الفلاحين (كما حدث خلال ثورة تموز/يوليو 1958)، بل التي ترفع السلاح بوجه الثورة باسم الحقوق القومية الكردية لتغدو أخيرا هي التي تتحرر بالاحتلال الأميركي.
بالمقابل لا يمكن تجاهل أن القيادات الكردية ليست كلها إقطاعية الانحدار. فجلال الطالباني من منشأ ديني صوفي، وهو يؤيد الاندماج بالعرب، وهناك تيارات صاعدة مثل حركة «التغيير» الوازنة الآن، تمثل قوى بعيدة عن المنحدر الإقطاعي، ما يجعل احتمالات انتصار آليات التشكل الوطني العراقي وشمولها كردستان غير مستبعدة، وإن تأخرت أو تعثرت، أو تطلبت ـ وهذا حتمي ـ ابتكار صيغ مرنة في العلاقة بين مكونات البلاد.

التخبط

الأزمة الأخيرة، بعد سقوط الموصل، جسدت بسطوع عمق اختلال العلاقة الكردية، وبالأخص تلك التي يمثلها تيار مسعود البارزاني، بالمركز وبالشركاء العرب عموما. وبينما بدا التباعد بين موقف البرزاني وموقف تيار الطالباني واضحا عبر تصريحات الطرفين ومواقفهما، عمد الاول إلى استغلال الوضع، فتقدمت قوات البيشمركة الكردية الى كركوك ومناطق أخرى انسحب منها الجيش. وبعد أن استمع بارزاني خلال لقائه وزير الخارجية الأميركي جون كيري في أربيل، إلى تجديد لرفض هذا الأخير تصدير الأكراد للنفط من دون موافقة المركز، وهو موقف أميركي يرد على ما ذُكر عن «اضطرار إعلان الاستقلال» بعد خطاب عن المظلومية الكردية.. فوافق البارزاني على الاشتراك في الحكومة القادمة التي سيتم تشكيلها بسرعة مع قدر من توسيع المشاركة لا يخرج على الأسس نفسها التي أرسيت عليها «العملية السياسية الطائفية». وزارة الخارجية الأميركية بادرت فأعلنت ذلك على لسان الناطقة باسمها من واشنطن. تلى ذلك إعلان البارزاني بعد يومين على ذلك، وبحضور وزير الخارجية البريطاني، الاستيلاء على كركوك و«الأراضي المتنازع عليها» وتشمل سهل نينوى، أي نصف محافظة الموصل، ثم عودته في اليوم الثاني للتراجع والقول في بيان صادر عن مكتبه انه دخل تلك المناطق ليحمي حدود كردستان، بينما أرسل إلى بغداد يفاوض حول الانسحاب... ما يثير التساؤلات حول ظاهرة اضطراب تصل حد المأزق، سببها صعوبة تأقلم مع الظروف الناجمة عن «ما بعد الانسحاب الأميركي»، والاضطرار للعودة لحكم التوازنات الداخلية.
تعيد قراءة الحالة الكردية للأذهان ضرورة إلا يخضع المراقب لأحكام اللحظة والآنية في أي مفصل وقضية أساسية من قضايا العراق خلال ما يبدو اليوم من اضطراب انتقالي يغلِّف تلك القضايا أو الموضوعات. فالعراق ما زال لم يصل غاية تشكّلهِ الحديث. وفيما هو يواصل تقدمه على هذا الطريق، فإنه قد يتراجع، لا بل قد يبدو وكأنه يتحلل إلى أوليات تكوينه الغني المتعدد.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

الثورة الأخيرة

كتب الكثير عن حدث 14 تموز 1958 العراقي، من دون أن تذكر الثورة، أو بالأحرى أن الثورة لم تجسَّد من حيث الوقائع الدالة عليها أو التي هي روحها. ربما تكون...