تقف طرابلس في وسط يد الله منذ ثمانية أيام، تحيّينا ونحن نرد التحيّة، تتلو علينا آيات الثورة، تحملنا على أكتافها لتُرينا المشهد من فوق، فتعلّمنا كيف تقع المدن ثمّ تنهض، وكيف تكون الثورات. هذه المدينة تكشف اليوم عن وعيها الجماعي في الساحات، وعن مشيئة أهلها على الأرض.
لا يزال المشهد صادماً في كل المناطق اللبنانية، خصوصاً في الأطراف: الشمال والجنوب. يوم أمس وتحديداً في النبطية، تكرّر مشهد مدينة صور وبلدة بنت جبيل، حين هجمت مجموعات تابعة لسلطة الاحزاب -"حركة أمل" و"حزب الله" - على المتظاهرين وحاولت تفريقهم بالقوّة، بحجّة أن مظاهراتهم تتسبب بـ"إقفال الطرقات المؤدية إلى السوق التجاري"، على الرغم من أن التظاهرة محصورة قرب السراي. وقد استنكرت جمعيّة التجّار ربط اسمها بهذا الحدث. يوم أمس برهن حزب الله أن "العقيدة" أهم من "الوطن"، فوقف الأخ في وجه أخيه، وابن الأخت في وجه خاله، وتحوّل شعار "نحن قوم لا نترك أسرانا في السجون" إلى "نحن قوم نضرب إمرأة مسنّة إذا شككت بسلطتنا واستنكرت مصالحنا المرتبطة بهذا العهد. ورئيس البلدية يدعمنا".. وقد استقال من مجلسها بعد ذلك ثلاثة من أعضائها.
هؤلاء الذين أرسلوا شبابنا إلى سوريا بهدف "حماية الحدود من داعش"، يرسلونهم اليوم إلى قراهم وبين أهلهم للحفاظ على أنفسهم.. وأمام من؟ أمام أفراد عزّال مسالمين، لم يتوجّهوا بأية إهانة لـ "سيّدهم"، ويطالبون فقط بأدنى حقوقهم المعيشة، رافضين المذلّة اليومية. هؤلاء هم أبناء الحسن والحسين المحرومين من الماء في منازلهم، ينزفون دمهم اليوم على تراب الجنوب بعد تعرّضهم للضرب والسحل على يد من حرروها في أوائل الالفية الجديدة. وكلّنا يعلم أن أهل الجنوب لا ينسون.
في قرية أنصار، محافظة النبطيّة، تعرّض الشاب يوسف عاصي قبل ساعات، وأثناء قيادته لسيارته، لإعتداء وحشي من قبل مجموعة تضم احد أبناء المسؤولين في حركة أمل، مما اضطره للهرب والإختباء ريثما وصلت شعبة المعلومات وأمّنت له الحماية.. وحتى اللحظة فليس بامكانه العودة إلى منزله.
هؤلاء هم أبناء الحسن والحسين المحرومين من الماء في منازلهم، ينزفون دمهم اليوم على تراب الجنوب بعد تعرّضهم للضرب والسحل على يد من حرروها في أوائل الالفية الجديدة.
يختلف المشهد في الجنوب عن باقي المناطق، نحن نتحدث عن مجتمع الوجوه فيه معروفة جيّداً. مجتمع انقسم خلال الأسبوع الماضي بين مؤيّد للثورة وبين متحزّب لسلطة جاثمة على صدره منذ سنوات طويلة. في بيروت مثلاً وفي حال قرّر أحد الأفراد من المتظاهرين العودة إلى المنزل، فقد تطاله قوى الأمن بسبب منشوراته على الفيسبوك. في الجنوب ستطال يد تلك الاحزاب كل من شاركو تأتي به من منزل عائلته. ولهذا السبب فلا مجال للتراجع، والمعركة الحقيقة هنا هي لمن سيفرض سيطرته وهي للنفس الاطول. حان الوقت لكي تفهم السلطة أن كل عملية إعتداء على المتظاهرين، وكل خطاب مثل الذي ألقاه رئيس الجمهورية، هو حافر لنا للبقاء في الشارع ولتزايد أعدادنا. حين علمنا في بيروت عمّا حدث في النبطيّة، أقفلنا جسر الرينغ ومنعنا مرور كل ما هو إمتداد للسلطة، من شرطة ، وأمن، وحتى الجيش. وهنا حصل نقاش طويل كانت نتيجته: "المواطن الذي في هذه اللحظة يضع جسده في الساحات وتحت المطر للدفاع عن بلده، أهم من الجميع. إن لم يمر هو، فلا أحد يمر، الشعب هوالوطن".
معركتنا كنساء بقسمها الأكبر هي معركة قانونية. على الأرض، النساء يقفن كحاجز بشري بين قوى الشرطة والرجال المتظاهرين. وأمام المصرف الهتافات تقودها إمرأة. طبعاً التمييز والقوى الإجتماعية الذكورية لا تزال بيننا، لكن حين نسترد حقوقنا الدستورية سنسترد من الشارع ما تبقى لنا.
تذكرتُ بالأمس حركة كنتُ قد ألفتها في طفولتي. ترقص "الحجّة" في الساحة مع رجل. وبعفوية تنزع الحجاب عن رأسها وتلوّح به في الهواء. في صغرنا كانت جداتنا وأمهاتنا الجنوبيات يقمن بهذه الحركة حين يشعرن بالإلفة ، كنّ يلبسن فساتين مطرّزة بالورد ويضعن الجرة على رؤسهن، كانت ثقافة الحياة غالبة على ثقافة الموت التي تعشعشت في هذا الزمن الأخير، حيث لم نعد نميّز الفساتين بسبب لونها الأسود. ثقافة الحياة عادت إلى بيروت أيضاً، هذه المدينة التي نجلس لساعات في مقاهيها خائفين من أن نترك أغراضنا على الطاولة أمام أعين الجميع، ونعاني من عجزنا عن خلق علاقات جديدة في دوائرها، هي نفسها من أصبحنا نوزّع الطعام على بعضنا فيها، ونأكل من الملعقة نفسها على الأرصفة، ننتشل أشخاصاً لا نعرفهم من بين الجموع في حال تعرضهم للخطر، ولا نترك بعضنا سوى في ركن آمن. بيروت هي بيروت، تشبه نفسها بكل تنوّعها ابتداء من ساحة الشهداء وصولاً إلى ساحة رياض الصلح التي تتعرّض لهجوم "حزبي" حتى الساعة، وكل من يقطع هذه المسافة سيدرك ثلاثة أمور:
أولاً، هذه هي المرة الأولى التي تجتمع فيها كل الاطراف في بيروت تحت إطار مليء بالفرح وخال من الخوف، وهذا الوجود كافٍ بحد نفسه.
ثانياً: هناك دورة اقتصادية خلقت في الأيام الثمانية الماضية، حيث أصبحنا نشتري طعامنا بكلفة تناسبنا. وللمرة الاولى استردّ العمّال والطلاب والكادحين البلد وكل ما يحتويه من أملاك عامّة، من الأرصفة وصولاً إلى مبنى "البيضة" (السينما المصممةعلى شكل بيضاوي وقد عطلتها الحرب قبل ان تكتمل وتركت عليها ندوباً عميقة)، حيث عرض بالأمس فيلم قديم، هو "أجمل الامهات". وهذه الدورة الإقتصادية تدفع جزئياً الناس للعودة يومياً.
ثالثًا: معركتنا كنساء هي بقسمها الأكبر معركة قانونية. على الأرض، النساء يقفن كحاجز بشري بين قوى الشرطة والرجال المتظاهرين. وأمام المصرف الهتافات تقودها إمرأة. طبعاً التمييز والقوى الإجتماعية الذكورية لا تزال بيننا، لكن حين نسترد حقوقنا الدستورية سنسترد من الشارع ما تبقى لنا!