مطلع العام الجاري، قرر «مؤتمر الحوار الوطني» توزيع اليمن على ستة أقاليم، اثنان منها في الجنوب واربعة في الشمال. كان القرار سياسياً بامتياز، يرسم مصير اليمن و25 مليون إنسان من دون كثير مراعاة للعوامل الجغرافية والاقتصادية والثقافية والسكانية والتاريخية. نشر «السفير العربي» ملامح آزال وعدن وحضرموت، ويقدم اليوم اقليم الجند، ثم تهامة وسبأ...يتكوّن إقليم الجند من محافظتي تعز وإب، وهو الوحيد من بين الأقاليم الستة المقررة الذي يتكون من محافظتين فحسب، ولذلك فهو أصغر تلك الأقاليم مساحة (أقل من ثلاثة في المئة من إجمالي مساحة الجمهورية اليمنية). ومع ذلك، فهو الأكثف سكاناً: أكثر من رُبع سكان البلاد يقيمون فيه. فإذا أضيف إليهم المقيمون في المحافظات الأخرى والمهاجرون في الخارج، فقد يصل عدد سكانه إلى نصف عدد اليمنيين، ما يولد حالة من عدم التناسب بين الموارد الطبيعية والبشر. يمكن التغلب على هذه المعضلة التنموية إذا ما توفرت حكامة جيدة في الإقليم، وإذا ما استغلت الموارد البشرية المتوفرة استغلالاً رشيداً. فسكان إقليم الجند هم الأكثر امتلاكاً لرأس المال البشري في اليمن.
انتفاضات فلاحية ضد العسكر
بشكل عام، فإن هذا الإقليم هو إقليم فِلاحي مستقر. لذلك تعامل معه حكام اليمن تاريخياً باعتباره «إقليماً مخزنياً»، حسب التعبير المغاربي. يعتمدون عليه في تحصيل الضرائب والجمارك والمكوس لإعاشة جيوشهم التي يجندون عساكرها من مناطق «السيبة» البدوية والقبلية في الشمال والشرق، ويعتمدون عليهم بالمقابل في قمع تمردات سكان تعز وإب، الذين باتوا خلال القرون الأربعة الماضية خاضعين لظلم الدولة وظلم العسكر من رجال القبائل. ولّد كل ذلك لدى سكان الإقليم رغبة دائمة بالتحرر من هيمنة المركز، سواء عبر الاستقلال أو الحكم الذاتي، فشهد الإقليم عدداً من الانتفاضات الفلاحية، كان أهمها الانتفاضة التي قادها الفقيه سعيد (ثورة الفقيه سعيد) في تموز/ يوليو 1840، والتي رفع الفلاحون خلالها شعارات تشكره على قيادته ثورة ضد العسكر المستكبِرين عليهم.سكان الإقليم كانوا يشعرون أن الحكام الأجانب الذين حكموا اليمن، كالرسوليين (نسبة الى حاكم هناك كان ملقباً بـ«رسول» الخليفة العباسي إلى بلاد الشام. والدولة الرسولية 1229 - 1454 قامت بداية في تعز ثم وحدت كل أرجاء اليمن) والأتراك العثمانيون، كانوا أكثر رأفة بهم من الحكام اليمنيين. لذلك عقد شيوخ ووجهاء إب وتعز مؤتمراً (مؤتمر العماقي) بالتزامن مع مغادرة الأتراك البلاد العام 1918، بهدف الترتيب لحكم ذاتي للمنطقتين. لكنهم لم يستطيعوا تحقيق الأهداف التي اتفقوا عليها في مؤتمرهم، واستطاع الإمام يحيى حميد الدين القضاء على كل حركات التمرد التي قادها بعض مشايخ تعز وإب آنذاك.
وبعد انتصاره عليهم، أطلق العنان لعساكره ليعيثوا في المنطقة فساداً، ويثقلوا كواهل فلاحيها بالإتاوات والمكوس والغرامات. وهو ما جسده الدكتور سعيد الشيباني العام 1958 في قصيدته الغنائية «يا نجم يا سامر فوق المصلا»، التي اختتمها بقوله: «ربي استمع يا هادي كل حائر// دعا الرعية شوقها لماطر// يسقي الحقول// يطهر القرية من العساكر».
وبعد قيام ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962، استمرت هيمنة الدولة المركزية على هذا الإقليم. واستمر نضال سكانه من أجل التحرر من المركزية المعيقة لمبادراتهم وطموحاتهم. لذلك جاء التحول من الدولة الموحدة إلى الدولة الاتحادية ليحقق حلماً قديماً للمواطنين في مناطق تعز وإب.
إقليم الثقافة المدنية
تُعرف مدينة تعز بشكل خاص ومحافظة تعز بشكل عام بأنها رائدة التحديث والنضال في سبيل بناء الدولة المدنية في اليمن، ومنها انطلقت الشرارات الأولى لكل الثورات اليمنية الحديثة. وينتمي إليها معظم رواد الفنون والآداب العليا (الشعر، القصة، المسرح، الغناء، الفن التشكيلي، الصحافة، السينما...) والسياسة وناشطي المجتمع المدني. لذلك صدر القرار الجمهوري رقم (2) العام 2013 باعتماد تعز عاصمة ثقافية لليمن. ونصت مادته الثانية على إنشاء مجمع ثقافي يحوي مسارح مفتوحة، مجمع للغة العربية، مراكز للتنمية الثقافية والإنتاج الثقافي (استوديوهات، مطابع، ومراسم حرة)، دار «وطنية» للمخطوطات، متاحف، مراكز تدريب، قناة فضائية ثقافية، مكتبة مركزية كبرى، إعادة بناء وترميم المعالم الثقافية والتاريخية، وبناء مجسمات لبعض معالم ورموز النهضة العربية والإسلامية.هذا القرار هو مجرد كذبة كبيرة تشبه كذبتي الكهرباء النووية وسكة حديد المهرة - حرض اللتين أطلقهما علي عبد الله صالح العام 2006. فالهدف من القرار الجمهوري ليس سوى خداع مثقفي تعز وشبابها الذين أشعلوا شرارة ثورة 11 شباط/ فبراير 2011. ففي ظل الأزمة المالية الخانقة التي تمر بها اليمن حالياً، والتي من المتوقع تفاقمها مستقبلاً، لا يمكن للحكومة توفير ملايين الدولارات لتمويل هذه المشاريع ولا حتى بعضها.الريادة الثقافية لمحافظة تعز وإقليم الجند عموماً لا تقتصر فقط على إنتاج الفنون والآداب العليا على الرغم من أهميتها، بل باعتبارها منظومة قيم واتجاهات وسلوك وممارسات. فسكان إقليم الجند متشربون بقيم الثقافة المدنية، ملتزمون بالقانون، يحترمون التعددية السياسية والتنوع الثقافي، وينفتحون على كل الثقافات. ومحافظة تعز هي المحافظة الوحيدة التي استطاعت كل الأحزاب المشاركة في آخر انتخابات تشريعية أن تفوز بمقاعد نيابية فيها.
وخلافاً للسكان في بعض الأقاليم الأخرى الذين يتبنون ثقافة ريعية، ويعتمدون على الدولة كمصدر للتوظيف (في الجيش والأمن بشكل خاص)، فإن السكان في إقليم الجند يحترمون العمل باعتباره قيمة إنسانية أساسية، ويقبلون عليه في كل القطاعات، ويحترمون حق المرأة في العمل في مختلف المجالات، وحقها في المشاركة السياسية والاجتماعية والثقافية.وهم ميالون لحل الخلافات بأساليب سلمية، ونادراً ما تتحول خلافاتهم ونزاعاتهم الفردية إلى نزاعات جماعية... وذلك خلافاً لما يحدث في بعض الأقاليم الأخرى، التي لا تزال فيها البنى القبلية والتقليدية قوية، والتي تنتشر فيها ظاهرة الثأر والحروب القبلية والمذهبية والطائفية.لذلك سوف تنعكس قيم الثقافة المدنية إيجاباً على التنمية البشرية في إقليم الجند مستقبلاً.
إقليم خالٍ من السلاح.. تقريباً
في اليمن، لا يمكن الحديث بشكل مطلق عن إقليمٍ خالٍ من السلاح أو من التنظيمات المسلحة. مع ذلك، يمكن القول إن إقليم الجند شبه خال من السلاح، ومن التنظيمات والجماعات المسلحة. على الأقل وجودها فيه غير ملموس وغير مؤثر بشكل مباشر على التنمية وعلى حياة المواطنين. فـ«القاعدة» تكاد تكون غائبة عن هذا الإقليم، وينحصر وجود بعض الميليشيات المسلحة على المديريات الشمالية في محافظة إب، وشيوخ القبائل فيه لا يمتلكون أسلحة بالكميات والنوعيات نفسها التي يمتلكها شيوخ القبائل في إقليمي أزال وسبأ، وحتى في إقليمي حضرموت وعدن مؤخراً. ساعد على ذلك الطابع الزراعي للإقليم وضعف البنى القبلية فيه، وارتفاع معدلات الهجرة والالتحاق بالتعليم، فضلاً عن عدم رغبة النظام السابق في نشر الفوضى في هذا الإقليم لاعتماده عليه في دخل الضرائب.وتبقى حالة الفوضى التي نشرها النظام في مدينة تعز العام 2011 محدودة الأثر، وسوف تتلاشى تدريجياً. لذلك ربما يشكل هذا الإقليم حالة استثنائية في اليمن، لا تشبهها سوى حالة إقليم تهامة.
تحديات وفرص تنموية
تعاني محافظتي إقليم الجند حالياً من عدد من المشكلات والأزمات التنموية، ومن المتوقع أن يظلّ بعضها قائماً على المدى المتوسط والبعيد، وفي مقدمها أزمة المياه.ففي مدينة تعز لا تصل المياه إلى المنازل عبر الشبكة المحلية إلا مرة واحدة كل 30 إلى 40 يوماً، بسبب الفساد والإدارة السيئة. ويعاني الإقليم كغيره من الأقاليم من مشكلة الكهرباء، ومن تدهور وإهمال ميناء «المخا»، الذي يشكل المنفذ الوحيد للإقليم على العالم الخارجي.لذلك، فسيتعيّن على أول حكومة للإقليم أن تعمل على تطوير ميناء المخا وتحويله إلى منطقة حرة، وإعداد خطة متكاملة لخلق سوق منافسة كاملة على مستوى الإقليم.فالجند هو واحد من الأقاليم التي يمكن فيها تحرير الأسواق، حيث النخب القبلية فيه لا تتمتع بالقوة نفسها التي تتمتع بها النخب القبلية في إقليمي أزال وسبأ، والتي مكّنتها من احتكار الأسواق.
يتطلب ذلك إعداد خطط لجذب رؤوس الأموال والكفاءات البشرية المهاجرة، وجذب رؤوس الأموال من الأقاليم الأخرى للاستثمار في مجالي الصناعة والتجارة، وفي مجال التعليم الجامعي، كما تأسيس بعض الجامعات ذات المستوى العالي، التي يمكن أن تجذب الطلاب من الأقاليم الأخرى، بل ومن القرن الأفريقي وبعض الدول العربية، بالإضافة إلى مستشفيات ذات مستوى جيد، لجذب المرضى الذين يسافرون إلى القاهرة وعمان للعلاج.ولعل الفرصة الأكثر إمكانية هي السياحة الترفيهية. وربما تستطيع البرجوازية التعْزية المساهمة بدور مهم في هذا المجال. فعلى الرغم مما تعرضت له من تدمير منهجي خلال العقود الثلاثة الماضية لحساب البرجوازية «الكمبرادورية» المحمية والمدعومة من النظام العائلي، إلا أنها قادرة على النهوض من جديد.