أكملت تونس أول ثورة عربية بالديمقراطية وانتخاب الرئيس من الشعب مباشرة، وفي جو من التنافس الديمقراطي المميز، بل الفريد من نوعه. لا ضغوط بالمال أو بالعسكر، ولا تدخلات اجنبية مؤثرة على هذا الشعب الفقير والطيب، الذي من حقه أن يباهي بأنه قد أعاد الاعتبار الى "الشعب" وأسقط الطغيان بلا عنف وفتح أبواب الغد الافضل أمام الامة العربية جميعاً.
ألم يكن محمد البوعزيزي هو من أطلق، ومن أرياف تونس، الصرخة الاولى الداعية الى التغيير. ألم يحرق نفسه يأساً من ان يسمعه الناس، فيهبوا الى مواجهة الحكم العسكري لبن علي الفاسد - المفسد وزوجته؟ ألم تشكل تلك الصرخة نقطة تحول تاريخية تجاوزت بتأثيراتها حدود تونس لتمتد، بعد حين، الى القاهرة فتملأ ميادينها بالملايين المفقرة والغاضبة والمشلوحة في بئر القهر والنسيان، وتثبت في مواقعها وعلى مطالبها حتى اسقاط حكم الرئيس السابق حسني مبارك وحاشيته الفاسدة..
بل أن أصداء تلك الصرخة التونسية الموجعة قد بلغت المشرق العربي أيضاً، فتحركت الجماهير المحتجزة بالفقر والإهمال في كل من سوريا والعراق فضلاً عن ليبيا والجزائر والسودان، والتي ستتحرك طلباً للديمقراطية والخبز في بلاد الخير، نفطاً ونيلاً وقمحاً اضافة الى شباب الورد الطامح الى حقه في الغد الافضل.
لقد شكلت صرخة البوعزيزي نقطة البداية لعصر عربي جديد، فاستحضرت الشعوب المغيبة عن القرار، وأكدت القدرة على التغيير الديمقراطي من دون سفك دماء، واستدعاء القوات الاميركية أو الاستنجاد بالعدو الاسرائيلي.
وصحيح أن التغيير في تونس، بعد تلك الصرخة، قد اقتصر على ازاحة الدكتاتور، الذي هرب بطائرته الى "النموذج الديمقراطي الارقى" عربياً، السعودية، بينما أعيد الاعتبار الى بعض رجال بورقيبة، ولكنها كانت خطوة حاسمة بالعودة الى الانتخابات وحرية الاختيار والحكم "المدني". وها هي تونس تنجز الآن الخطوة الحاسمة على طريق بناء الديمقراطية بالانتخابات والتنافس المفتوح بين المرشحين، وسط حماسة شعبية مفرحة تؤكد تشوق المواطن العربي الى التعبير عن رأيه، من دون رقابة بوليسية وقمع يتمثل في قاعدة " نحن نعبر عن رأيك".
الأخطر والأعظم تأثيراً على المستقبل العربي أن شعب تونس قد أكد التلازم بين الديمقراطية والعروبة بعنوان تحرير فلسطين.. وكانت راية الحلم العربي المرفرفة في شوارع تونس العاصمة والمدن الأخرى تعبر عن التوحد بين فلسطين والتحرر والوحدة العربية التي تشكل ساحة المواجهة الفعلية بين هذه الامة المفرقة أقطارها والمرتهنة الى ضباط الانقلابات والتدخلات الخارجية التي تستقوي عليها بالفرقة والفقر، أغناها يقاتل أضعفها ويحاول وراثة الاستعمار في البلاد التي دمرها الطغيان، مما يفتح الباب امام استعمار جديد أو ارتهان للعدو الصهيوني، الحامي الجديد للنظام العربي الفاسد والمفسد.
هنا، نبذة عن شخصية هذا الرئيس التونسي الجديد الذي نتمنى أن يكون فوزه في معركة ديمقراطية نظيفة بشارة خير بمستقبل عربي واعد، متحرر من الدكتاتوريات والطائفية التي تمكّن للاحتلال الاسرائيلي وللهيمنة الاميركية، وتهدد الأمة العربية جميعاً بالخروج من العصر ومنجزات القرن الحادي والعشرين.
من هو قيس سعيد؟
هو قيس ابن منصف سعيد من بني الخير (الرأس الطيب)، من عائلة مثقفة. كان عمه هشام سعيد أول جراح للأطفال في تونس، وكان معروفاً في جميع أنحاء العالم لفصله التوائم السيامية في السبعينات الفائتة.
الرئيس الخامس في تاريخ الجمهورية التونسية. اشتهر بإتقانه اللغة العربية ومداخلاته الأكاديمية المميزة للفصل في الإشكاليات القانونية المتعلقة بكتابة الدستور التونسي بعد الثورة. رفض المنحة المقدمة من الدولة للقيام بالحملة الانتخابية بحجة أنه مال الشعب، فيما استند في حملته إلى مجموعة من المتطوعين الشباب من حوله. وفاز بالأغلبية الساحقة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية التي دارت بتاريخ 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.
ولد قيس سعيد في 22 شباط / فبراير 1958 في تونس، وهو متزوج وأب لثلاثة أبناء، وحصل على شهادة الدراسات في القانون الدولي العام من كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس. وهو حاصل أيضاً على دبلوم الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري، ودبلوم المعهد الدولي للقانون الإنساني في "سان ريمو" الإيطالية. بدأ حياته المهنية، في 1986، مدرسا بكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية والسياسية بمدينة سوسة (شرق)، قبل أن ينتقل في 1999 للتدريس بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس العاصمة.
تقلد بين عامي 1989 و1990 مهام مقرر اللجنتين الخاصتين لدى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية في القاهرة من أجل الإعداد لتعديل مشروع ميثاق الجامعة، ومشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية. كما عمل خبيراً متعاوناً مع "المعهد العربي لحقوق الإنسان" من 1993 إلى 1995. حصل في 1997 على عضوية المجلس العلمي وعضوية مجلس إدارة الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري، وهو أيضاً رئيس "مركز تونس للقانون الدستوري من أجل الديمقراطية" (مستقل).
أستاذ القانون الدستوري لم يتكلف الكثير في الحملات الدعائية واستطاع كسب ود الناخب التونسي، ليحقق نتيجة متوقعة، على عكس الزلزال السياسي الذي أحدثه تصدره للدور الأول من الاقتراع، منتصف ايلول/ سبتمبر الماضي. مناهض شرس للنظام السابق ولنواقص الحكومات المتعاقبة منذ 2011، وهو داعم قوي لمطالب ثورة 2011، التي أطاحت الرئيس حينها، زين العابدين بن علي، الذي حكم في الفترة ما بين (1987 – 2011). ولقد أطلق الأكاديمي قيس سعيد، حملته الانتخابية من شقة متواضعة مستأجرة في عمارة بشارع ابن خلدون في قلب العاصمة تونس، وليكون المرشح المستقل لانتخابات الرئاسة. وتلقى دعماً واسعاً خلال حملته الانتخابية، من طلبة الجامعات خصوصاً. يقول أحد أعضاء الحملة: "نحن تعلمنا من قيس سعيد العفة ونكران الذات. تعلمنا الكثير من الأستاذ. كل يوم نتعلم منه". وعلى النقيض من برنامج منافسه نبيل القروي الاقتصادي، يرتكز مشروع سعيد على لامركزية القرار السياسي، وتوزيع السلطة على الجهات. ويتبنى شعارات الثورة التي أطاحت بنظام بن علي في 2011 ومنها "الشعب يريد" "و"السلطة للشعب".
لكن مشروع سعيد لا يتضمن تفاصيل تبلور رؤيته لحل المشاكل التي يعاني منها المجتمع التونسي، ومنها البطالة، على سبيل المثال. ويرى أعضاء من الحملة أن قيس سعيد وضع "قاعدة" لحل المشكلة، ليستكمل المواطنون من بعده حلها. فحل مشكلة البطالة، على سبيل المثال، يبدأ من إنشاء مجالس محلية تضع مشروعات تنمية بناء على مطالب سكان كل منطقة، وذلك لتلافي صرف منح مالية دون تحقيق عوائد والعمل على إنهاء ثقافة العمل السائدة التي تعتمد على "التواكل".
قيس سعيد "الفلسطيني"..
لم يُسعِد فوز الرئيس الجديد التونسيين فقط، بل تجاوزها الى الملايين العربية التي هبت عبر الشبكات الاجتماعية لتهنئة التونسيين برئيسهم، في وقت كانت فيه القضية الفلسطينية حاضرة بشكل بارز في خطابه واحتفالات أنصاره. كما حضرت القضية الفلسطينية في المناظرة المتلفزة بينه وبين منافسه نبيل القروي، حين أعلن موقفه دون مواربة من قضية التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، واصفاً إياها بـ"الجريمة والخيانة العظمى". وشدد سعيد على "أن التونسيين في حالة حرب مع كيان غاصب ومحتل شرد الشعب الفلسطيني"، كما أعلن أنه في حالة فوزه بكرسي الرئاسة سيمنع دخول أي شخص بجواز سفر إسرائيلي إلى البلاد.
ويأتي موقف سعيد الرافض للتطبيع على النقيض من خصمه نبيل القروي الذي كشفت صحف أجنبية عن لقائه مع ضابط موساد إسرائيلي، ودفعه مبالغ طائلة لقاء الترويج لحملته الرئاسية دولياً، حيث فتح القضاء التونسي تحقيقا في القضية. كما عبرت شخصيات إسرائيلية عن دعمها للقروي على غرار الإعلامي إيدي كوهين، الذي غرد عبر حسابه على تويتر متوجهاً بما قال إنها "نصيحة" للشعب التونسي لانتخاب القروي.
وحرص قيس سعيد خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب لحظة إعلان فوزه على تجديد تعهداته تجاه الفلسطينيين، مؤكدا أنه سيعمل على دعم القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.. كما وعبر عن أمنيته في أن يكون العلم الفلسطيني حاضراً جنباً إلى جنب مع العلم التونسي، موجهاً شكره لجميع الأحرار في العالم.. وهذا يؤكد ان هذا الرئيس يحمل سمات المناضل، وقد جاء في وقت دقيق ووسط جموح عربي رسمي نحو التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، ليعزز أصواتاً حرة تدافع عن الشعب الفلسطيني وحقه في استعادة وطنه.
الدولة ليست اشخاصاً..
وشكر الرئيس التونسي بكلمته الأولى، بعد انتصاره الشعب وأكد على "ثورة بمفهوم جديد". وشكر في كلمة أمام صحافيين وحشود من أنصاره، كل من انتخبه ومن لم ينتخبه، كما شكر الشعب التونسي في كل مكان، ووصف الفترة المقبلة "بصفحة جديدة في التاريخ". وأضاف: "هي ثورة بمفهوم جديد، ثورة بإطار الدستور، فليطمئن الجميع بأنني سأحمل الرسالة والأمانة بأعبائها وأوزارها بكل صدق، ونحاول نبني تونس جديدة". مكملاً أن "الدولة ليست أشخاصاً، وليطمئن الكثيرون بأننا نعرف حجم المسؤولية، ومعنى الدولة التي يجب أن تستمر".