اليمن مجتمع قبلي. ولكن هذا الوصف صحيح جزئياً. فالحديث عن القبيلة في اليمن ينصرف بشكل أساس على اتحادي قبائل حاشد وبكيل اللذين تسكن عشائرهما في المنطقة الممتدة من العاصمة صنعاء حتى الحدود السعودية شمالاً، والتي تتوزع إدراياً على محافظات صنعاء، عمران، الجوف، صعدة، وبعض مديريات محافظة مأرب. وهما يشكلان لوحدهما حوالي 20% من إجمالي سكان الجمهورية، وينتميان إلى المذهب الزيدي. أما باقي محافظات اليمن التي ينتمي جل سكانها إلى المذهب الشافعي، فيتوزعون على ثلاثة اتحادات قبلية هي مذحج، حمير، وكندة، وقد ضعفت فيها البنى والعلاقات القبلية. وبشكل عام، فإن النخب القبلية تعتمد على الريع المركزي، المالي والعقاري والاداري: التحويلات المالية الحكومية لشيوخ القبائل عبر «مصلحة شؤون القبائل»، والعقارات التي كان الرئيس السابق علي عبد الله صالح يأمر بصرفها لهم، والوظائف السياسية والدبلوماسية والإدارية العليا التي يمنحها لهم. أما أفراد القبائل العاديون فإنهم يحصلون على «وظائف ريعية» في الجيش والأمن، وفي قطاعي التربية والتعليم والصحة. وقد قدرت وكالة التنمية الأميركية عدد الموظفين الوهميين تماماً عام 2006 بحوالي 30000 موظف، من إجمالي الموظفين في الجهاز الإداري للدولة البالغ عددهم آنذاك حوالي 473000 موظف (وجزء من هذا الرقم الأخير نفسه موظف على أساس خدمة المحسوبيات تلك)، وقدرت الجنود الوهميين بما يقرب من ثلث جنود القوات المسلحة.
ريع مركزي ومحلي وخارجي!
وعلى الرغم من أن كل القبائل تستفيد من أشكال الريع المركزي هذه، فإن قبائل حاشد هي المستفيد الأكبر منه، وبدرجة أقل قليلاً قبائل بكيل. أما القبائل في محافظتي شبوة ومأرب النفطيتين، فتستفيد من الريع الذي تفرضه على الشركات النفطية الاجنبية العاملة في مناطقها، حيث تنال مبالغ مالية كبيرة مقابل حمايتها لها، فضلاً على ما تفرضه عليها من توظيف لأبنائها. وغالباً ما تنشب النزاعات بين القبائل على هذا المصدر الريعي، تماماً كما كانت تتنازع حول المراعي. ففي عام 2008، نشبت حرب بين قبيلتي «آل بريك» و«النسيين»، على خلفية ادّعاء كل منهما ملكية منطقة العقلة النفطية في مديرية عرما بمحافظة شبوة. وفي حزيران/ يونيو 2010 نشبت حرب بين قبيلة «عبيدة» من محافظة مأرب وقبيلة «بلحارث» من محافظة شبوة حول الأرض المجاورة للمجمع النفطي رقم 18. وفي كانون الثاني/يناير 2011 اندلعت مواجهات مسلحة بين قبيلتي «النسيين» و«آل إسحاق» حول الحدود القبلية في المنطقة ذاتها. أما شيوخ القبائل، فإن بعضهم يمتلكون شركات خدمات نفطية في محافظات مأرب وشبوة وحضرموت، تتنافس مع الشركات المملوكة لأقارب الرئيس السابق والمقربين منه من كبار ضباط القوات المسلحة.
إلى جانب الريع المركزي والمحلي، تعتمد النخب القبلية على ريع خارجي، ممثلاً بالتحويلات الشهرية التي يحصلون عليها من السعودية. فقد أسست المملكة العربية السعودية بعد ثورة أيلول/سبتمبر 1962 لجنة برئاسة الأمير سلطان بن عبد العزيز للتعامل مع شيوخ القبائل اليمنية. وظل الأمير سلطان رئيساً للجنة منذ تأسيسها حتى وفاته أواخر العام 2011. وتبلغ ميزانيتها حوالي 3.5 مليارات دولار (13 مليار ريال سعودي). ومثلما كانت قبيلة حاشد المستفيد الأكبر من الريع الحكومي المركزي، فإنها المستفيد الأكبر من الريع الخارجي السعودي، حيث يحصل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر على أكبر مخصص شهري يقدر بحوالي 800 ألف دولار أميركي.
اقتصاد الحرب
اقتصاد الحرب مصدر إضافي لدخل النخب القبلية، حيث يشكل بعض شيوخ القبائل مليشيات قبلية أو فرق جيش شعبي لدعم الأطراف المتحاربة في النزاعات المسلحة الداخلية. بدأ ذلك مع الحرب بين الملكيين والجمهوريين في ستينيات القرن العشرين، وانتهى بالحرب بين الدولة وتنظيم «أنصار الشريعة» المرتبط بالقاعدة، التي تدور هذه الأيام في محافظة أبين. وقد اتسع هذا المصدر خلال الأعوام الماضية ليشمل موارد خارجية، حيث يتهم البعض قبائل وائلة (القسم اليمني من قبيلة وائلة) في صعدة وبعض القبائل في محافظة الجوف اليمنية بأنها تحصل على أموال لمحاربة «أنصارالله» (جماعة الحوثي). فقد انخرط بعض شيوخ قبيلة وائلة اليمنية وأتباعهم في الحروب الثلاث الأخيرة (الرابعة والخامسة والسادسة) التي دارت بين النظام اليمني والحوثيين.
قبائل متضادة
على المستوى السياسي، فإن الطابع الانقسامي للبنية القبلية يدفع كل قبيلة لاتخاذ مواقف مضادة للقبيلة المقابلة لها. لذلك، فإن المواقف السياسية لشيوخ القبائل (ولقبائلهم)، تتحدد في ضوء المواقف السياسية لشيوخ القبائل المنافسة والمقابلة لقبائلهم. فعندما وقفت حاشد مع الجمهورية، وقفت بكيل مع الملكية، وعندما تحالف شيخ مشايخ حاشد مع الإخوان المسلمين، تحالف كثير من عائلة شيخ مشايخ بكيل آنذاك (الشيخ سنان أبو لحوم) مع حزب البعث العراقي، واستغلت جماعة الحوثي التنافس بين حاشد وبكيل للانتشار خارج محافظة صعدة، فتواجدت في المناطق البكيلية في بعض مديريات محافظتي عمران وصنعاء، تماماً مثلما استغل تنظيم القاعدة التنافس والنزاعات بين قبيلتي مراد وعبيدة في مأرب للانتشار في أراضي هذه الأخيرة.
مع ذلك، فقد استطاع الرئيس السابق أن يبني شبكة محسوبية واسعة مع شيوخ القبائل، وأن يربطهم جميعاً بعلاقات مصلحة مباشرة. فقد بنى الدولة نفسها والنظام السياسي على أساس تشارك القوة السياسية مع النخب المشيخية، فصاغ التشريعات الانتخابية وصمم بنى المؤسسات والأجهزة الحكومية بما يمكِّن شيوخ القبائل من الهيمنة على مواقع السلطة التشريعية والمجالس المحلية ومناصب محافظي المحافظات ووكلائها، فضلاً عن النصيب الأوفر من المناصب العليا في المكاتب التنفيذية في المحافظات. هذه البنية السياسية سلاح ذو حدين، فمثلما سهلت له السيطرة على المجتمع خلال السنوات الثلاث والثلاثين الماضية، سهلت الانقلاب عليه عام 2011. فهو منذ بدأ في الإعداد الجاد لتوريث رئاسة الجمهورية، بعد نجاح التوريث في سوريا عام 2000، باشر بإضعاف قوة شيوخ القبائل الكبار الذين يعتقد أنهم سوف يعارضون مشروع التوريث، وفي مقدمهم الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، ومن بعده أبناؤه، من خلال صناعة ما يسمى بالمشايخ الجدد، لا سيما في حاشد التي كانت عصية عليه. وقد واجه شيوخ القبائل محاولات الرئيس لإضعافهم واستهدافهم بردود متعددة، فأسس أبناء قبائل بكيل عدداً من التنظيمات القبلية شبه المدنية، مثل «مجلس بكيل العام»، وأسس شيوخ قبائل مأرب «حراك أبناء الصحراء». وقد استخدم أبناء مشايخ حاشد الأساليب نفسها التي استخدمها مشايخ بكيل، والتي تجمع بين المستويات المدنية والقبلية، فأسس الشيخ حسين بن عبدالله الأحمر «مجلس التضامن الوطني»، ونشط الشيخ حميد بفعالية في إطار «التجمع اليمني للإصلاح»، فضلاً عن توظيفهم جميعاً للآليات القبلية التقليدية.
وجد شيوخ القبائل المعارضون لمشروع التوريث في ثورة الحرية والتغيير، التي أشعل الشباب والطلاب شراراتها، فرصة للتخلص من نظام علي عبدالله صالح. فالشيخ صادق الأحمر، وهو أكبر أبناء الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، وبويع بعد وفاة والده العام 2007، أعلن دعمه للثورة في 22 أذار/مارس 2011. أما اللواء علي محسن الأحمر، قائد المنطقة الشمالية الشرقية، وقائد الفرقة الأولى المدرعة الذي انشق على الرئيس السابق وأعلن دعمه للثورة في اليوم نفسه الذي أعلن فيه الشيخ صادق موقفه، فلقبه يرجع إلى قريته، «بيت الأحمر» في قبيلة سنحان، وهي القرية نفسها التي ينتمي إليها الرئيس السابق علي عبدالله صالح. وليس بينها وبين آل الأحمر، مشايخ حاشد، أي قرابة. وقبيلة سنحان تنتمي تاريخياً إلى قبائل حمير، لكنها ارتبطت باتحاد قبائل حاشد عن طريق «الحلف والولاء»، لذلك يطلق عليها وعلى القبائل الأخرى التي ارتبطت بذلك الاتحاد، مصطلح القبائل «المتحيشدة»، وبالمثل يطلق على القبائل التي ارتبطت بقبائل بكيل، «المتبكْيلة».
وبالضد، تبنى الشيخ محمد الشايف (نجل شيخ مشايخ بكيل) موقفاً معارضاً للثورة ومؤيداً للرئيس السابق. مع ذلك لم يستطع إي منهما أن يوحد مواقف كل قبائل وعشائر الاتحاد القبلي الذي يتزعمه. فقد ظل بعض شيوخ حاشد على ولائهم للرئيس السابق، وأعلن كثير من شيوخ بكيل مساندتهم للثورة، كالشيخ محمد علي أبو لحوم (أحد أهم مشايخ قبيلة نهم البكيلية) الذي استقال من «المؤتمر الشعبي العام». وامتد هذا الانقسام إلى مستوى كل قبيلة.
عند منتصف عام 2011، كانت المواقف السياسية لمعظم القبائل اليمنية قد تحددت، وباتت خارطة توزيع القوة السياسية تبدو أنها تميل لصالح قوى الثورة اليمنية، ومعارضة النظام السابق، الأمر الذي مكَّن الشيخ صادق الأحمر من إشهار «تحالف قبائل اليمن» في 30 تموز/يوليو 2011، وتوقيع «وثيقة نصرة ثورة الشباب». وفي 16 أب/أغسطس 2011، نظم الشيخ محمد الشايف مؤتمراً مقابلاً تحت اسم «المؤتمر الوطني لقبائل اليمن» لدعم نظام الرئيس صالح، إلا أن معظم شيوخ القبائل الذين حضروا المؤتمر كانوا من الصف الثاني والثالث، ولم يشارك فيه شيوخ القبائل الكبار.
هذه التحولات في الخارطة القبلية حالت دون تحقق التهديد بالحرب الأهلية التي كان الرئيس السابق يلوح بها. فلم تشارك القبائل الموالية للرئيس صالح في حربه التي شنها ضد الشيخ صادق الأحمر وأتباعه في الفترة من 23 أيار/مايو إلى 3 حزيران/يونيو 2011. وفضلاً عن اختلال توازن القوة القبلية لصالح الثورة، ولصالح الشيخ صادق الأحمر، فإن القبائل يمكن أن تنخرط في حرب بالوكالة ضد جماعة مذهبية أو حزبية أو سياسية أو حتى ضد الدولة، إلا أنها نادراً ما تنخرط في حرب بالوكالة ضد بعضها البعض.
إسقاط صالح لا يعني تأييد إصلاح النظام
على الرغم من تأييد معظم القبائل اليمنية لثورة الحرية والتغيير التي رفعت شعار إسقاط نظام علي صالح، إلا أن توجهاتها تجاه شكل الدولة والنظام السياسي والحكومة في المستقبل تتباين تبايناً كبيراً. وهي تتحدد في ضوء مصالحها الاقتصادية. فالنخب القبلية الجنوبية، التي شعرت بالظلم والتمييز خلال السنوات الماضية، التحقت بالحراك الجنوبي المطالب بالانفصال. وبعض القبائل في مناطق إنتاج النفط تسعى إلى التخلص من المركزية، وبناء نظام لا مركزي يمكِّنها من التحكم بالريع المحلي وبمواردها الخاصة. وأعلن بعض شيوخ القبائل في محافظة مأرب في نوفمبر/تشرين الثاني 2009 عن «حراك أبناء إقليم الصحراء» بهدف تأسيس كيان فيدرالي يتكون من محافظات حضرموت، مأرب، شبوة، الجوف، والمهرة. أما شيوخ قبائل حاشد وبكيل فإنهم يرغبون في بقاء الدولة المركزية الموحدة ذات الطابع الريعي، ويرفضون النظام الفيدرالي، حفاظاً على مصالحهم التي يضمنها لهم النظام. وربما يشكل هذا الموقف أول تصادم من قبل شيوخ القبائل مع متطلبات تغيير النظام وبناء الدولة المدنية.
ولا يستطيع الرئيس عبد ربه منصور هادي، ورئيس الوزراء محمد سالم باسندوة، في المدى المتوسط على الأقل، أن يتخلصا من اسالبيب علي عبدالله صالح في التعامل مع القبيلة. وقد وظف الرئيس هادي الانقسامات القبلية في التعامل مع «أنصار الشريعة» في أبين، فحرك قبائل العواذل ضدهم، ولم يستطع رئيس الوزراء باسندوة إيقاف التحويلات الحكومية لشيوخ القبائل عبر «مصلحة شؤون القبائل»، والتي تبلغ حوالي ثلاثة مليارات ريال سنوياً. وهو تعهد أمام وفد من شباب الثورة بالامتناع عن صرف التحويلات الإضافية التي كان علي صالح وجه باعتمادها خلال عام 2011 لشيوخ القبائل الموالين له، والتي تبلغ قيمتها الإجمالية 13 مليار ريال. ولكن رئيس الجمهورية الحالي أصدر توجيهاً لمجلس الوزراء ومجلس النواب باعتماد هذه التحويلات. وأقر ذلك مجلس النواب في موازنة 2012. ما يشير إلى تداخل القديم الراسخ بالجديد الذي يسعى للولادة... وصراعهما علاوة على الصراعات المعتادة.