عرفت العراق أول مرة صيف العام 1964، وكانت بغداد تعيش في ظل الحكم الذي خلع "ماكو زعيم الا كريم" أي الزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان بطل التغيير وانهاء الحكم الملكي فيصل الثاني واعوانه من السياسيين القدامى بعنوان نوري السعيد، وقد تم "اعدامهم" سحلاً في الشوارع وسط هتافات الجماهير الغاضبة.
ثم عرفت بغداد بعد "الانقلاب" الذي قام به الجيش بواسطة عدد من الضباط يتقدمهم احمد حسن البكر والى جانبه ابن شقيقته صدام حسين الذي كان يكره "العسكر" ولا يحب المدنيين. . وهو قد اطاح فعلاً بالضباط الذين كانوا شركاء خاله في الانقلاب، وتفرد بالحكم بعد ذلك، وان أبقى البكر رئيساً بلا صلاحيات.
ولقد عاشت بغداد وسائر العراق فترة قلقة حفلت بإعدام بعض السياسيين والكثير ممن اعتبروا "ضد الثورة" وألغاء الاحزاب الاخرى، ثم ألغى صدام حسين "البعث" ذاته لينفرد بحكم العراق حتى العام 2003.
وهو قام بحرب طويلة ومكلفة جداً ضد إيران – ثورة الخميني، وليس إيران الشاه، امتدت حوالي ثماني سنوات، ثم أقدم على اجتياح الكويت في خريف العام 1990... لكن المعسكر الغربي الذي دعمه في حربه ضد إيران أنشأ حلفاً مع القادة العرب الذين أرسل كل منهم بعض عسكره لكي يضفي على التحالف شكلاً عربياً، وانتهت هذه الحرب بإخراج صدام من الكويت ودخول قواتهم الى بعض جنوب العراق. ثم جاء الحصار التام للبلد لمدة 12 عاماً، قبل أن يقوم الاميركيون باحتلال العراق بأكمله في ربيع العام 2003. بعد لك قبض على صدام حسين في مزرعة خارج بغداد وقام الامريكان بتسليمه إلى "الشيعة" لتكون فتنة، خصوصاً وأن الغوغاء التي احاطت بمنصة المشنقة اطلقت هتافات طائفية بذيئة، في حين القى "ابو عدي" خطبة قومية عصماء..
تولى الاحتلال الاميركي الحكم مباشرة بشخص بول بريمر، وتمّ نهب المصارف والمتاحف والمكتبات بكل كنوزها، التماثيل والتحف التي لا يمكن تقدير قيمتها فضلاً عن كتب التاريخ والشعر والتراجم، كما سيطرت القوات الامريكية على مفاصل العاصمة وشبكة الطرق، وعمل بريمر على تغذية الفتنة بين الشيعة والسنة والعرب والكرد وسائر الاقليات.
ومرة جديدة عاش العراقيون عصراً من القلق والخوف على المستقبل، لا سيما حين باشروا الاستعانة بسياسيين هواة كانوا موزعين في المنافي البعيدة (لندن وواشنطن)، والقريبة (دمشق اساساً وبيروت وعمان والقاهرة)..
ولما جيء ببعض هؤلاء إلى السلطة نهبوا ما كان تبقى في خزائن الدولة من مال وذهب، وعبثوا بحقوق الناس، ودبت الفوضى في ظل الخرائب.. ثم ابتدعت خطة لبنانية "لتوزيع السلطة" على الشركاء في المنهبة، وبلغت ثروات بعض اركان "النظام الجديد" أرقاماً فلكية، حتى أن أحد "عملاء" النظام الجديد وقعت منه في مطار بيروت حقيبة ضخمة تبين انه "يهرب" فيها مئتي مليون دولار امريكي!
ضاربت بغداد على بيروت في تغيير الحكومات وقبل ذلك في تركيبة النظام بحيث يكون رئيس الدولة كردياً (كإعلان لحسن النية)، ورئيس الحكومة - صاحب الصلاحيات الواسعة - شيعياً، في حين يكون رئيس المجلس النيابي سنياً.. وكانت هذه قسمة ضيزى تسببت في تشريع الانقسام على قاعدة طائفية – مذهبية – عنصرية معرضة للارتجاج دائماً، وربما للسقوط.
الوضع في العراق مفزع بعدما جرت "لبننة" مواقع الحكم، بتقديم الطائفية على الوطنية والعروبة والنزعة التقدمية.
وإذا كانت الانتفاضة الحالية العظيمة قد تمددت حتى تجاوزت بغداد بميادينها إلى الوسط والجنوب وبعض الشمال (الموصل)، فقد كان من الملفت في هذا التحرك الشعبي العظيم أن أكثرية أهله فقراء، وهو الغني بنفطه وبالنهرين العظيمين، دجلة والفرات.. قبل أن تبني تركيا السدود الاعتراضية التي أنقصت كميات المياه التي تكمل مسيرتها عبر سوريا نحو العراق أو مباشرة إليه، فدجلة يخترق بغداد والفرات يلتقي معه في قضاء القرنة قبل أن يصيرا نهراً كالبحر شمال البصرة ليكملا المسيرة إلى المصب عند استدارة الخليج العربي.. غير بعيد عن الكويت.
وانه لأمر ملفت ومفرح أن تكون تظاهرات الغضب التي سقط فيها أكثر من مائة قتيل خلال الايام القليلة الماضية، قد تجاوزت العاصمة بغداد بضفتيها من حول دجلة إلى الجنوب والشرق وبعض الشمال، لان الجوع - كما الارهاب - لا يعرف الطائفية ولا يلتزم بها.
اعان الله شعب العراق على محنته التي عز فيها عليه من يناصره. فدول السعودية والخليج تسلك سياسة مذهبية بزعم مواجهة ايران، والطبقة السياسية تبدو عاجزة قليلة الخبرة يعطلها الانقسام الطائفي الذي يحاول "الشارع" في بغداد وسائر مناطق العراق تجاوزه والتصدي لتأثيراته على نظام الحكم، الذي كان المتهم الاول والاخطر في جريمة نهب الثروة الوطنية للعراقيين، وتدمير مكانة العراق عربياً ودوليا وتوزع ولاءاته بين طهران وواشنطن، وان كانت ترسبات فترة الاحتلال الاميركي تفعل فعلها، وتحد من استعادة الهوية والدور الذي يفتقده العرب.. ويزيد من احزانهم الكربلائية!
المطمئن، حتى الساعة، أن هموم العراقيين تجمعهم وتوحد موقفهم في المطالبة بحكم عادل يقوم على انصاف هذا الشعب العظيم التي توالت عليه النكبات في الخمسين أو الستين سنة الاخيرة، فجعلته يخسر مكانته ودوره بين اخوانه العرب، ثم يفقد هيبته في الداخل نتيجة عجزه عن الانجاز، بعدما نهب حكام المصادفة معظم دخله واصول ثروته وبعثوا بها إلى مصارف الخارج..
وماذا في أن يجوع العراقيون الذين يقيمون فوق ثروة هائلة من النفط وعلى ضفاف نهرين غزيرين، حتى بعد الاعتداءات التركية، وان لم يكونا بمثل غزارة نهر النيل!
حمى الله العراق من الفتنة التي طالما دمرت دولاً وأنهكت شعوباً ذات تاريخ مجيد، وفرضت عليها الفقر بينما كان يفترض أن تكون الأغنى والأقوى بين اشقائها العرب.