الثورة المصرية طالبت بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية. ولا يبدو أن المطالب تلك قد اقترب تحقيقها. تمكنت الحركة العمالية، التي انطلقت قبل الثورة بسنوات ــ بل مهدت لها ــ من بلورة مطالبها الرئيسية. وأصبح إقرار حد أدنى مناسب للأجور والحق في التنظيم النقابي المستقل أبرزها، بالإضافة لمطالب أخرى كاستعادة الشركات العامة التي خصخصت عبر صفقات فاسدة، وتثبيت العمالة المؤقتة، وحماية العمال من الفصل التعسفي. ففي شباط/ فبراير 2008، تظاهر أكثر من عشرة آلاف عامل من شركة غزل المحلة رافعين شعار «1200 جنيه حد أدنى للأجور»، وهو تقدمٌ هام في وعي الحركة العمالية، فعادة كانت الاحتجاجات ترفع مطالب جزئية وخاصة بكل شركة على حدة، كزيادة بدل الوجبة أو صرف الأرباح أو الحافز، وليس رفع الأجر ككل، وذلك بالرغم من تجميد الدولة منذ 1984 للحد الأدنى للأجور عند 35 جنيها شهريا (!). كما أن عمال المحلة الذين تظاهروا يومها لم يطالبوا برفع أجرهم فقط بل برفع أجور كل العمال.
تجاهل قبل الثورة، مماطلة بعدها
وحتى انطلاق ثورة «يناير 2011»، ظل العمال يطالبون برفع الحد الأدنى للأجور، وظلت السلطة تتجاهله، أو تسوف، كما عندما صدر حكم قضائي في نيسان/أبريل 2010 بإلزام الدولة بعقد المجلس القومي للأجور وتحديد الحد الأدنى. وقررت الحكومة حداً أدنى للأجر في الموازنة العامة 2011 ـ 2012، بلغ 700 جنيه شهريا، ولكنه يُحتسب على الأجر الشامل وليس الأساسي. قوبل ذلك باستهجان في الأوساط العمالية، إذ لم يختلف ما قررته «حكومة الثورة» عما كان يقترحه نظام مبارك. وفي فترة حكم محمد مرسي، دار العديد من النقاشات حول المطلب، ولكن لم يجر التوصل لقرارات فعلية، إلى أن جاءت سلطة الثالث من يوليو. فإزاء تصاعد التحركات العمالية، قررت الحكومة منفردة رفع الحد الأدنى للأجور إلى 1200 جنيه كما طالب العمال في 2008، ولكن على الأجر الشامل وليس الأساسي، وقبل خصم الضرائب وأقساط التأمينات. وإلى جانب انخفاض القيمة الفعلية لهذا المبلغ نتيجة موجات الغلاء بين 2008 و2014، فالقرار جاء مشوها، إذ شمل العاملين بالدولة فقط والذين لا يتجاوز عددهم ستة ملايين، سيستفيد منه أقل من ثلثهم، وهم الذين تقل أجورهم أصلاً عن 1200 جنيه. أما باقي العمال، في القطاع الخاص والهيئات الاقتصادية التابعة للدولة ولقطاع الأعمال، فلن يطبق عليهم القرار. وهؤلاء يتجاوز عددهم 18 مليون عامل، وسينتظرون قرار المجلس القومي للأجور الذي يشارك فيه ممثلون لرجال الأعمال يرفضون رفع الحد الأدنى للأجور. وما حدث أن تطبيق الحد الأدنى على مرتبات شهر كانون الثاني/يناير 2014 تسبب بموجة غلاء عانى منها بشكل مضاعف العمال الذين لم يطبق عليهم، وهم الأغلبية. وهكذا، وبدلا من تهدئة العمال، أثار القرار الغضب. فخلال شباط/ فبراير الماضي وحده، أضرب ما يزيد على 250 ألف عامل في تلك القطاعات، ما أدى لإطاحة حكومة الببلاوي التي أصدرت القرار. ولكن ذلك لم يعن الاستجابة لمطلب العمال. فما زال ممثلو رجال الأعمال في المجلس القومي للأجور يقاومون رفع الحد الأدنى في القطاع الخاص بحجة أن ذلك سيكون طاردا للاستثمار وسيزيد البطالة... بينما هؤلاء أنفسهم لديهم فروع لشركاتهم في الخارج، في دول تضع حدا أدنى للأجور يبلغ أضعاف ما يطالب به العمال في مصر، ويلتزمون به بالطبع!ما قامت به الحكومات المتعاقبة بعد الثورة تجاه الحركة العمالية كان نقيض المفترض. ففي آذار/مارس 2011، كان من أول قرارات المجلس العسكري الذي تسلم السلطة من مبارك إصدار مرسوم بقانون يجرّم حق الإضراب ويحيل العمال المضربين للقضاء العسكري، وتم بالفعل فض اعتصامات سلمية للعمال بالقوة، واعتقل العديد منهم. ولم يختلف حكم مرسي سوى في اتجاهه نحو الأسوأ، فتم في عهده القصير استخدام الكلاب المدربة لفض إضراب عمال شركة العامرية للأسمنت، ودُفع بالجيش لإنهاء إضراب عمال السكة الحديد. وأما السلطة الحالية، فافتتحت عهدها بفض اعتصام لعمال شركة السويس للصلب، ودفعت بالدبابات لساحة شركة المحلة أثناء إضراب العمال. ويستمر اعتقال العمال المضربين، وآخرهم عمال من شركة البروبلين ببور سعيد. وتضيف السلطة الحالية على إجراءات القمع إجراءات قاسية ضد الفقراء عموما، بعزمها إلغاء الدعم ورفع أسعار الوقود والطاقة، ما يعني موجة غلاء عنيفة تنذر بأزمة استثنائية.
التنظيم النقابي المستقل
مطلب الحق في التنظيم النقابي المستقل لم يكن مصيره أفضل بعد الثورة. استطاعت الحركة العمالية في ظل نظام مبارك وقانون الطوارئ أن تنتزع الحق في الإضراب وتفرض على المسؤولين الجلوس للتفاوض مع العمال المضربين. وتمكن العمال من كسر احتكار الدولة للعمل النقابي عبر التنظيم التابع لها، فأسسوا خلال إضرابات ما قبل الثورة نقابات مستقلة عن التنظيم الرسمي، كما أسس اتحاد عمال مستقل في ميدان التحرير، أعلن يوم 30 كانون الثاني/يناير 2011. وعلى الرغم من ذلك، فقد ظل قانون النقابات لا يعترف بالنقابات المستقلة ويعتبر التنظيم الرسمي هو الممثل الوحيد للعمال. وعقب الثورة، أصدرت وزارة القوى العاملة «إعلان الحريات النقابية» بالتعاون مع منظمة العمل الدولية، كتمهيد لإصدار قانون جديد للنقابات. وعُقِدت حوارات عديدة بين الحكومة وممثلي العمال ورجال الأعمال للوصول لصيغة للقانون، إلا أنه لم يصدر لا في عهد المجلس العسكري، ولا في عهد مرسي ولا بعد ذلك. على العكس، عاد اتحاد العمال الرسمي للظهور بقوة بعدما توارى عقب الثورة، مع اتهام قادته بتدبير «موقعة الجمل»، وبدأ يستعيد نفوذه وعلاقته بالسلطة الحاكمة، ونجح في منع إصدار قانون النقابات الجديد الذي يهدد احتكاره للعمل النقابي.أربع سلطات تتابعت، اختلفت في الكثير، ولكنها اتفقت على قمع واضطهاد العمال وتجاهل مطالبهم. أربعة أعياد للعمال مرت بعد ثورة، ولكن عمال مصر لم يستقبلوا عيدهم بعد.