الاقتصاد الجزائري معطَّلاً

عاشت الجزائر بلا رئيس للدولة لفترة تزيد على الشهرين، من دون ان يمس ذلك بحاكميةٍ غدت منذ زمن طويل بلا تأثير على الواقع ولا أثر فيه. امضى عبد العزيز بوتفليقة سبعين يوما في مستشفى باريسي، وعاد مطلع رمضان الى البلاد في كرسي متحرك، واهناً جسديا كما يبدو. ولم تثر عودته أي اهتمام عام. فالجزائر ماضية في حياتها على وقع فضائح الفساد العديدة والشائعات عن وراثة الرجل الذي لم يؤثر غيابه أو حضوره في
2013-07-31

عمر بن درة

خبير اقتصادي من الجزائر


شارك
| en
(من الانترنت)

عاشت الجزائر بلا رئيس للدولة لفترة تزيد على الشهرين، من دون ان يمس ذلك بحاكميةٍ غدت منذ زمن طويل بلا تأثير على الواقع ولا أثر فيه. امضى عبد العزيز بوتفليقة سبعين يوما في مستشفى باريسي، وعاد مطلع رمضان الى البلاد في كرسي متحرك، واهناً جسديا كما يبدو. ولم تثر عودته أي اهتمام عام. فالجزائر ماضية في حياتها على وقع فضائح الفساد العديدة والشائعات عن وراثة الرجل الذي لم يؤثر غيابه أو حضوره في السلطة السياسية، فهذه يمسك بها فعلياً رجال في الظل، بعيدا عن الانظار.

استُنفِدت في الجزائر القطيعة بين النخب العسكرية ــ الأمنية الحاكمة من جهة، والشعب من جهة ثانية. وكمثال، لم يشهد الخامس من تموز/يوليو أيّ احتفال رسمي بالذكرى الحادية والخمسين لاستقلال البلاد، عام 1962. وقد قامت فرق موسيقية، بإيعاز من السلطات، بإحياء المناسبة بطريقة أو بأخرى في ساحات المدن «المزيّنة» بصور عملاقة للرئيس الغائب، وكأنّ هذا التاريخ فقد معناه بالكامل، في بلد معروف عنه غيرته على تاريخه.

مستودع بضائع مستوردة

تنظيم السلطات لإحياء الذكرى جرى كأنه مطلوب، خلال سهرة استثنائية، إلهاء جيل من الشباب المتعطل والفاقد أية آفاق حقيقية. لا يخلق الاقتصاد الجزائري وظائف. فهو يعتاش فحسب على الضخّ المكثف للعائدات النفطية، كما يتلقى المريض مصلا. ورغم نفقات عامة فلكية، فهو لا يتجاوز إلا بصعوبة نسبة نموّ سنوية تناهز الـ2 في المئة. والجزائر العاجزة عن تأمين خدمات عامة أساسية، لديها اقتصاد «تافه»، هو عبارة عن مستودع لبضائع مستوردة تتزايد باستمرار منذ سنوات، وتتجه أكثر فأكثر، وبشكل خطير، نحو السلع الاستهلاكية، في ظل الشك بمصير صادرات النفط، كما الغاز، بل خصوصاً هذا الاخير.
وبحسب المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي (CNES)، بلغ الفائض العام لميزان المدفوعات 12 مليار دولار في العام 2012، بعدما وصل إلى 19.9 ملياراً في 2011. وقد تحقّق فائض 2012 بفضل ظروف مناسبة في السوق النفطية، وفّرت إيرادات مهمة عند التصدير، في ظل نتائج سلبية لسائر المؤشرات الخاصة بميزان المدفوعات، وفق تعبير المجلس إياه. وقد سجّل ميزان الخدمات عجزاً زاد على أربعة مليارات دولار في 2012، متأثراً بارتفاع تحويلات شركاء «سوناتراك» («المؤسسة الوطنية للتنقيب وصناعة ونقل وتحويل وتسويق المحروقات» الحكومية)، فضلاً عن انخفاض الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى 1.7 مليار دولار (1.5 مليار بحسب «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» CNUCED). ولم تنجُ المحصلة المالية العامة من هذا الاتجاه الانحداري، مسجّلة بذلك عجزاً في العام الماضي.

تراجع صادرات النفط... والعائدات

إنّ المعطيات الاخيرة الصادرة عن البنك التجاري، والتي اعلنت عنها دائرة الجمارك الجزائرية حول الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري، تؤكد هذا التوجه «الاستهلاكي» الذي أرغم حاكم المصرف المركزي الجزائري على دق ناقوس الخطر حول هشاشة ميزان المدفوعات، قائلاً إنّ «الاقتصاد الجزائري يواجه صدمة خارجية مشابهة لصدمة العام 2009، يزيد من حدّتها انخفاض كبير في ميزان مدفوعاته على خلفية تراجع عائداته النفطية». هكذا، يظهر بحسب موقع «المغرب النامي» (Maghreb Emergent)، أن الانخفاض في أسعار النفط الخام، وفي كمية الصادرات، أدّيا إلى تقلص العائدات المالية للنفط الجزائري بأكثر من 3 مليارات دولار للفصل الأول من العام 2013 وحده. وببساطة، انتهى الفائض في ميزان المدفوعات الذي كان في الفصل الأول من العام 2012 لا يزال يزيد عن أربعة مليارات دولار. بالنسبة لحاكم المصرف المركزي الجزائري، فإنّ «هذه الوضعية لا تُطاق، وهي تشكّل خطراً شديداً على الحسابات الخارجية». وقد تأكد هذا الاتجاه التراجعي في أواخر شهر أيار/مايو 2013، عندما سُجِّل انخفاض في الصادرات بنسبة تزيد قليلاً عن 8 في المئة، بينما سجل ارتفاع في الواردات بنسبة 17.5 في المئة. أما الفائض التجاري الذي بلغ 12 مليار دولار أواخر أيار/مايو 2012، فقد انخفض بنسبة النصف، وقارب الستة مليار دولار.
ولجهة الصادرات، فالانخفاض الأساسي يخص المواد النفطية (بنسبة 9.8 في المئة)، بينما ترفع من نسبة الواردات السلع المخصصة للاستهلاك المستديم، وخصوصاً السيارات السياحية.

تبادل تجاري مختل

هكذا يظهر، من خلال التدقيق في الاحصاءات الجمركية، أن الاختفاء المرجَّح للفائض في ميزان المدفوعات، على الأقل في النصف الأول من العام الجاري، ليس مجرد فرضية فحسب. أما التطور العكسي للتبادل التجاري الجزائري، فهو مسؤول عن انخفاض الاحتياطي النقدي بنسبة تزيد عن مليار دولار بحسب المصرف المركزي، وذلك بين أواخر عام 2012 وآذار/مارس 2013، حيث انّ المستوى العام الحالي مريح للغاية، ويبلغ 208 مليارات دولار بحسب «المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي».
يتفق المراقبون على القول إنّ تأكّل هذه الاحتياطيات ليس مجرد حادث عرضي فحسب، بل هو يؤشر الى وجود اتجاه مثير للقلق. فمهما بلغ حجم الاحتياطي النقدي الجزائري وأهميته، فهو ليس أزليّا. ويبدو أن العام 2012 كان الأول في حلقة تحلل هذا الاحتياطي النقدي، ما يمكن أن يؤدّي في النهاية إلى اختفائه الكامل في غضون عقد من الزمن أو أكثر بقليل من ذلك. وقد أوضح تقرير نُشر في بداية العام الجاري، أعدّه خبراء جزائريون، أن الاحتياطي النقدي للبلاد «سيبدأ بالانخفاض ابتداء من العام 2016، ويحوم خطر حول نفاده بحلول العام 2024، وهو ما سيلزمنا بدءاً من ذلك التاريخ بالاستدانة بهدف تمويل عجزنا التجاري». ويبدو هذا السيناريو متفائلاً في ما لو قارنّاه مع نتائج الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري.

سلطة بلا خطة ولا خيال

الحكومة التي ينقصها امتلاك سياسة اقتصادية، تحاول التأقلم مع هذا التطور من خلال اتباع ادارة أكثر صرامة للفوائض المالية المعرَّضة للتبخّر بالسرعة نفسها التي تراكمت فيها. في التاسع من أيار/مايو الماضي (2013)، تحدث وزير المالية علناً عن الفرضية التي تشير الى انخفاض محتمل للعائدات النفطية. هو سيناريو، بحسب السلطات الفاقدة لأي خيال، يمكن أن يعالج «من خلال حذر أكبر على مستوى إدارة السياسة المالية». وعلى أية حال، فأولى ضحايا هذه العودة إلى الصرامة كان التخلي، الى أجل غير مسمّى، عن مشروع زيادة البدلات السياحية، وهو مشروع ديماغوجي بالكامل ناهزت كلفته السنوية المليارَي دولار.
يترجم واقع التجارة الخارجية للجزائر، أزمة حاكمية بلدٍ يتراجع بشكل مطرد استيراده للمعدات التجهيزية، ويزداد بشكل مضطرد استيراده المستمر للسيارات السياحية. وقد كشف المستشار الرئيسي لحاكم المصرف المركزي الجزائري أخيراً عن انخفاض يزيد على 22 في المئة لواردات التجهيزات التصنيعية في الأشهر الثلاثة الأولى للعام 2013. في المقابل، «ينفجر» استيراد السيارات السياحية، ليصبح من الممكن أن تتجاوز الفاتورة لهذا العام 7 مليارات دولار، وهو ثمن حوالي 600 ألف سيارة مستوردة.
هذا الرقم الهائل يمكن مقارنته مع مؤشر ذي دلالة عن مدى جاذبية ودينامية البلاد، أي مؤشّر الاستثمارات الأجنبية المباشرة للعام 2012 الذي لم يتجاوز عتبة الـ1.5 مليار دولار مثلما ما ورد أعلاه.

إنّ غياب السياسة الاقتصادية، والمستوى الأسطوري للعقم الموجود في الحكم، يثيران القلق المشروع عند جيل الشباب الذي لا يجد وظائف ولا مساكن، في بلد تتوالى فيه فضائح الفساد، من دون أن يمثل المسؤولون عن هذا الفساد أمام المحاكم يوماً، على الرغم من أنهم معروفون تمام المعرفة. الحالة الصحية السيئة لرئيس الجمهورية، على شدتها، تبقى بسيطة مقارنةً مع مرض الاقتصاد الجزائري المعطوب، حيث ان أسسه، لنواحي الانتاج والانتاجية، تتدهور بشكل لا يُقاوَم، وذلك بفعل إدارة سياسية يتنافس فيها كل من انعدام الشرعية وانعدام الكفاءة.

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه

ما هي التغييرات الحاصلة في الرأسمالية المهيمنة؟

عمر بن درة 2024-03-07

يقع أصل التحولات الهيكلية الحالية للرأسمالية، في الفصل بين الإنتاج المادي البضاعي وبين الاقتصاد المالي. وقد ترافق هذا الفصل مع التفكيك المتدرج للتدابير التنظيمية المؤطِّرة للأسواق المالية وللبورصة في الولايات...

من الكفاح ضد الاستعمار إلى التعبئة من أجل الحريات: كرة قدم الشعب في الجزائر

عمر بن درة 2023-05-30

أصبح الملعب مركزاً للتعبئة الشعبية، ومنتجاً لدلالات سياسية عملية تناقلها الرأي العام بشكل واسع على اختلاف شرائحه الاجتماعية. والتحمس لهذه الرياضة ليس أمرا مستجدا. فقد لعبت كرة القدم دوراً مهماً...