بفعل صدفة توقيت بحتة، تزامنت منذ أيام زيارة كريستين لاغارد، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، إلى الجزائر مع تظاهرة العاطلين عن العمل في جنوب البلاد، ما جعل الحدثين يحضران جنباً الى جنب في الصحف الجزائرية. وقد أسالت كل من الزيارة والتظاهرة الكثير من الحبر، وسط غياب فاضح لموقف السلطات الرسمية. الصوت الوحيد المسموع كان للسيدة لاغارد نفسها التي زارت البلاد شاكرة قرض المليارات الخمسة الذي قدّمته الجزائر لصندوق النقد (!)، ولكي تتكرّم ببعض النصائح الهادفة إلى تحقيق انفتاح أسرع للاقتصاد الجزائري، وانخراطه في العولمة الليبرالية.
ولم يتحدث رئيس الحكومة علناً إلا بعد يوم من تظاهرة آلاف المتروكين لمصيرهم في وَرڤلة (غير البعيدة عن حقول حاسي مسعود النفطية)، المتهمين من قِبل الأبواق المعتادة للنظام بكونهم عملاء للخارج، وانفصاليين. فلنعترف، أمام وضوح تظاهرة العاطلين عن العمل الضخمة، والمدعَّمة بشعارات ولافتات وطنية، أنّ منظِّميها لم يكونوا منفِّذي «ثورة ملوّنة»، أو استراتيجية ما لتحقيق الاستقلال الذاتي لمنطقة الصحراء، وضعت الدوحة وواشنطن السيناريو الخاص بها.
صمت بوتفليقة المريب
رئيس الدولة الذي لطالما عرفناه مُكثراً في الكلام، لم يعد يتوجّه بخطاباته إلى المواطنين منذ أشهر عدة. وظهوره الأخير في مداخلة متلفزة (تمّ الإعداد لها بشكل بالغ السوء، وتمّت منتجتها بشكل مضخَّم)، يعود إلى نيسان/أبريل 2011، غداة سقوط نظامي بن علي ومبارك. حينها، كان من الواجب الإقدام على بعض الانفتاح، مع مواصلة التركيز على الاختلافات (الحقيقية فعلياً) بين أوضاع بلدان «الربيع العربي» من جهة، وظروف الجزائر من جهة ثانية. ومنذ ذلك التاريخ، يغطّ النظام في صمت مميت. حتّى الاعتداء الدامي وغير المسبوق، والذي جذب التغطية الإعلامية بشدة في حقل «تيغنتورين» النفطي على الحدود مع ليبيا، في عمق الصحراء، لم يدفع بعبد العزيز بوتفليقة إلى الخروج من سُباته. ولا يزال التواصل الاعلامي للقصر الرئاسي مقتصراً على بيانات صحافية نادرة تبثّها وكالة الأنباء الرسمية. وتوالي الإعلانات الفضائحية في الصحافة الايطالية والكندية، حول الفساد الهائل لوزير النفط شكيب خليل، الذي لا يزال يحظى بحماية الرئيس، واستحداثه شبكة من الوسطاء الفاسدين مع الشركة الايطالية «إيني»، مؤلفة من أفراد الشريحة الحاكمة المدللة الجزائرية، كل ذلك لم يؤدِّ إلى أي نوع من التواصل الرسمي، لأي مستوى انتمى، باستثناء إعلان لا يتخطّى الحد الأدنى، صادر عن قاضٍ يؤكد فيه أنه «سيتم تسريع الإجراءات فور الحصول على الأجوبة عن الإنابات القضائية الموجهة إلى القضاء الإيطالي». غير أنّ الجميع يدرك أنّ شبكات الكوميسيون الإجرامية هذه، تنتمي إلى أرفع أجهزة السلطة، أي إلى رئاسة الجمهورية والمحيط العائلي لعبد العزيز بوتفليقة، وإلى قيادة جهاز الاستخبارات الذي يتحدّر منه الأوليغارشيون الذين يفرضون حالياً نفوذهم المالي والتجاري بشكل علني. في مواجهة هذه الفضائح ذات الدوافع المعروفة من الجميع، اتخذت السلطة وضعية التقوقع لتدافع عن نفسها، واعتمدت، مثلما فعلت إزاء الفضائح السابقة، على عامل الوقت والنسيان ومحو الذاكرة. مَن يتذكّر، من جملة الفضائح، قضايا مصرف خليفة، أو شركة BRC، العملاقة للمقاولات، وهي شركة مختلطة جزائرية ـ أميركية، وفرع لشركة «هاليبرتون» في الجزائر؟
فرنسا مجدداً في الجزائر!
هذا الصمت الرسمي يظهر كأنه استقالة، تحديداً في مواجهة المغامرات الغربية في ليبيا، والخضات التراجيدية السورية، والتدخل الفرنسي في مالي. فغياب الجزائر عن مسائل بذلك الحجم من الأهمية، يشكل قطيعة واضحة مع المبادئ التي أرست تقليدياً السلوك الديبلوماسي الجزائري. الغياب الجزائري الكبير عن جميع المحافل الدولية ، مادة لتفسيرات مختلفة، لكن من الواضح أنه يترجم قبل أي شيء آخر، التوجهات العميقة لأصحاب القرار الحقيقيين. ومثلما تمّ رمي «الجمهورية الاجتماعية» التي أرادها ثوار الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1954 في غياهب النسيان على يد اللبرلة الاقتصادية والتصحيح الهيكلي، فقد تمّ إخماد العقيدة المعادية للامبريالية والنضال من أجل نظام عالمي جديد. ويُختصَر دعم الجزائر لأنظمة القذافي وبشار الأسد «الشقيقة» بالامتناع عن التصويت خلال اجتماعات جامعة الدول العربية، أو بالاستضافة المحرَجة لأفراد من عائلة مرشد الجماهيرية الآفلة. بات النظام الجزائري معزولاً في الجبهة الداخلية، وهو لا يصمد إلا بفعل التسلط القائم على جبروت جهاز الاستخبارات، والجهاز الأمني الهائل. وفي حين بات النظام مفتقداً الشرعية الداخلية المقنعة، فهو لم يعد يجد الدعم إلا من الخارج، بدءاً بفرنسا التي تؤدي دور الضامن الدائم، وهو ما أمكنت ملاحظته مجدداً مع النهاية الدموية لأزمة الرهائن في «تيغنتورين». خلال تلك الحادثة، وقفت باريس بحزم إلى جانب الجزائر، وقد عرفت كيف تُسكِت كل الانتقادات، خصوصاً اليابانية والبريطانية، حول إدارة وخاتمة عملية عسكرية قامت بها السلطات الجزائرية، وأودت بحياة المهاجمين، لكنها أدت أيضاً إلى قتل 32 رهينة.
حتى وإن كانوا غير موافقين أبداً، (ولأسباب رديئة)، على تدمير القذافية، وعلى رقصة جز الرؤوس في سوريا، فإن المسؤولين الجزائريين مرغمون على التزام الصمت وعلى التعاون لمواصلة الاستفادة من الغطاء الدولي للراعي الفرنسي. ليس وارداً إغضاب الحامي القوي، وبالتالي لا مجال إلا لالتزام السقف الأدنى الممكن.
الهدف هو البقاء في الحكم
بالنسبة لفريق المسؤولين الصامتين بالكامل، والراكنين في الظل، والذين يبلغ متوسط أعمارهم الـ 75 عاماً، فليس هناك من هدف سوى البقاء في الحكم. الكثير من الجزائريين، وليس فقط من صفوف المعارضة، يلاحظون بمرارة، هدر الحكّام العجزة رصيدُ علاقاتٍ مع أفريقيا يعود إلى زمن حرب التحرير. وهي سياسة أفريقية شكّلت، إلى جانب دعم الشعب الفلسطيني، الحجر الأساس لديبلوماسية جزائرية جسدت سياسة عدم الانحياز بفعالية. إنّ اختفاء تأثير وفعل الجزائر في منطقة جنوب الصحراء، بقدر ما يثير الاستياء، فهو يترك الساحة مشرَّعة أمام حلفاء القوى الاستعمارية الجديدة، كالمغرب الذي استهلّ ملكه أخيراً جولة في أفريقيا الغربية بهدف «تسويق» خطة لاستقلال ذاتي لشمال مالي. استقلال ذاتي يبرّره الملك بالقول إنه مماثل لذلك المطبَّق من قبل المملكة المغربية في الصحراء الغربية المحتلة.
هكذا، فإنّ الجزائر التي يحكمها رسمياً رئيس بات وهنه ظاهراً، ويحكمها بالأمر الواقع مدير استخبارات لا يتزحزح وخفي بالمطلق، هي دولة صامتة وغير مرئية. في هذه الدولة، توكَل أدوار التحريك «السياسي»، وهي بشكل أساسي مجرد عملية إيماء من على المنابر بلا ترجمة حسّية، فضلاً عن مهام التمثيل الرسمي، إلى رئيس حكومة، من الواضح أن هوامش مناوراته محدودة، ومواقفه لا تمثّل إلا شخصه.
لقد وصل السُّبات العميق الذي تعيشه السلطات الجزائرية إلى أعماق غير مسبوقة منذ استقلال الجزائر العام 1962. الجزائر المجرّدة من أي صوت، لا تملك استراتيجية ولا برنامجاً، باستثناء الهرب إلى الأمام في إطار التكيُّف الدائم والمرتجَل مع شروط واقع متغيِّر. بحميع الأحوال، لم يسبق للديبلوماسية الجزائرية تاريخياً أن أظهرت شخصية ضعيفة بالشكل الذي تظهره حالياً، ونادراً ما رأينا في التاريخ المعاصر، مسؤولين على هذا القدر من الإقلال في توجّههم إلى شعب يفترض أنهم حكامه.