أسَّسَ الاستبدادُ وإنكارُ الحقوق الدائم، منذ بداية الحقبة الاستعمارية في القرن التاسع عشر وصولاً إلى ديكتاتوريات ما بعد الاستقلال، مبدأَ العنف في مجتمعات محتجزة في تخلفها وممنوعة من الانتقال إلى التقدم الاجتماعي والسياسي. استمرار هذا المبدأ هو تعبير عن تحرر غير منجز، وبرهان يلامس العبثية عن الواقع النيو كولونيالي في هذه المنطقة من العالم.
حروب الخاسرين
الحمقى وحدهم يرون رومانسية في العنف. فالثمن الاجتماعي لطريق السلاح هائل، وجراح الحروب الأهلية عميقة، وندوبها لا تشفى إلا ببطء شديد. إنّ تاريخ نضالات التحرر يشهد على ذلك، واللجوء إلى العمل المسلح هو الحل الأخير حينما تغلق الطرق السياسية كافة. بالطبع، فبمواجهة احتلال أجنبي ونزع الملكية والاستلاب، تصبح المقاومة المسلحة شرعية. قالها فرانز فانون، حينما كان في تونس، عاصمة الثورة الجزائرية آنذاك: العنف يصبح شرعياً حين يكون طريقاً للتحرير ونزع الاستلاب عمن يُنْكَر وجودهم وحتى إنسانيتهم.
وعدا هذه الشرعية التحررية، فإنّ منطق العنف السياسي يتطابق مع منطق الحرب الأهلية. ويؤكد ذلك التاريخ المعاصر، فهذه حروب الخاسرين، وهي بالتالي، ورغم المظاهر، لا تكرس سوى الهزيمة المؤكدة للشعوب التي ابتليت بها. وهي تعني سيطرة كاملة للابتزاز والفساد الممنهج، والبؤس للضعفاء ومن هم من دون حماية. ونفسه العنف الذي تحتكره «الدولة» يعبر عن تغليب المصالح الخاصة على الصالح العام، كما عن الاستخفاف بكل قواعد القانون من قبل هؤلاء الذين يفترض بهم تطبيقها. يعرف الشعب الجزائري بالخبرة هذه الحقيقة، فقد أتاحت الحرب القذرة في تسعينيات القرن الماضي إعادة توجيه الاقتصاد بشكل معادٍ للقضايا الاجتماعية، من خلال «التصحيح الهيكلي» الذي جرى بإشراف وزارة الخزانة الفرنسية وصندوق النقد الدولي، وبحسب اتفاق أيار/مايو 1994.
ويتضافر عنف السلطة المستمر مع الإرهاب لزعزعة استقرار المجتمعات، فيأخذان الشعوب رهائن ويمنعان التطور. وبوصفه وسيلة للإدارة الاجتماعية والسياسية، فالعنف هو أساس الاستغلال والتعسف. فهو يقصي الحلول القانونية بواسطة قوانين استثنائية، وعبر تكبيل القوى السلمية، لأن العنفيين لا يتعاطون إلا مع العنفيين، ولا يتقبلون سوى منطق اقتسام الغنائم وطمس الذاكرة. ويتضح ذلك في الجزائر، حيث قوانين العفو تمنع البحث عن حقيقة ما حصل أثناء الحقبات الأكثر بشاعة من الحرب الأهلية.
فتِّش عن الريع
إنّ الاختلال في التوازن الاجتماعي، وانعدام المساواة (الاجتماعية والمكانية) الظاهر للعيان، يقومان بتعزيز وترسيخ مبدأ العنف الذي أصبح، بأشكاله وكثافاته المتفاوتة، الخبز اليومي في العلاقات الاجتماعية ــ السياسية لمنطقتنا.
وبينما لم يشكل المغرب وتونس مناطق توطين ومستعمرات، ولا هما يحتويان على ثروات نفطية كبيرة تجعلهما ينتميان الى الاقتصاديات الريعية، فإن تلك الخصائص متوفرة في الجزائر، وهي تصلح كمرتكز لتحليل الأشكال الخاصة من العنف السياسي بحسب البلدان. تشكلت العلاقات بين الجماعات الاجتماعية والسياسية المختلفة في البلدان الثلاثة على مدى زمني طويل، إلا أن تلك العلاقات مرتبطة بالتراتبيات الاجتماعية الناجمة عن تنظيم الاقتصاد، وهذا ما يؤثر بشكل حاسم في شكل النُظم التسلطية في تلك البلدان. ومن هذه الزاوية، فالاقتصاديات غير الريعية التي حافظت على بورجوازيات وطنية، تأخذ بالضرورة الفاعلين الاجتماعيين بالاعتبار، أكانوا نقابات، أم أرباب عمل، أم من هذه أو تلك من الفئات الاجتماعية السياسية، مما يصح في أكثر الأنظمة التسلطية تصلباً.
فانعدام المساواة المهول في المغرب، وكذلك غلبة المصالح الإقطاعية الخاصة بـ«المخزن» (النخبة الحاكمة التي تتمحور حول الملك وتتألف من الأعيان وملاك الأراضي وزعماء القبائل والعسكريين) لا يَحولان دون نشاطات القطاع الخاص، ووجود حياة اجتماعية ــ سياسية فعلية وإن كانت مقيّدة. وهو ما يشبه أخذ ديكتاتورية بن علي لبعض الفاعلين الاجتماعيين بالاعتبار، والتعامل معهم. وعلى النقيض من ذلك، ففي اقتصاد يلعب فيه الريع دوراً مسيطراً، مثلما هو الحال في الجزائر، لا تحتاج الديكتاتورية لوجود مُحاوِر (ولا تسمح به).
يجهد النظام لخنق اي نوع من التنظيمات المستقلة، ويكتفي بالتحاور مع نفسه. وبما أن النظام الديكتاتوري يعتمد على الأسواق الخارجية وعلى حلفائه الغربيين، من دون الحاجة الى التفاوض مع الفاعلين الاجتماعيين، فإنّه يسعى بكل الأثمان للحفاظ على سلطته المطلقة على الريع، وعلى كيفية تقاسمه، وعلى تحديد من يستفيد منه زبائنيا ومن هو محروم من الاستفادة.
في الجزائر، حيث سحَق الاستعمار البورجوازية الوطنية، تدير جماعة كومبرادورية جديدة، نشأت على يد تحالف العسكر والشرطة وتستند إليه، «تراكماً بدائيا» مقتلَعا بحكم تهريب الرساميل. السيطرة على الريع هو تحد مصيري بالنسبة للبورجوازية الجديدة التي تمتلك الخبرة والتدريب من دون التقاليد أو الثقافة الوطنية فعلياً.
وهذا التحدي المركزي يفسر، بمقدار ما يفعل التاريخ، المسالك الديكتاتورية في الجزائر.وحيث تضطر السلطة السياسية للتفاوض مع ممثلي مجموعات المصالح المختلفة لضمان استمرار النشاط الاقتصادي، تصبح السيطرة على المجتمع نسبية، كما تخف موضوعيا حدة العنف القائم عادة في الأنظمة غير الديموقراطية. فهنا نجد رغم كل شيء حداً أدنى من قواعد اللعبة وبعض احترام لقواعد القانون، وإن كانت هذه القوانين والقواعد تتعرض للتجاهل وللالتفاف عليها في معظم الأحيان.
الديكتاتورية الريعية من جهتها، لا تحتاج للقانون لأنها ليست بحاجة للقلق بشأن أي فعالية ضريبية أو ركيزة إنتاجية متبقية. استخراج الوقود الاحفوري (النفط والغاز) هو مبتدأ ومنتهى الاقتصاد الجزائري. ويتعلق الأمر بوضع جزء من العوائد الناتجة من التصدير بعيداً عن أي إشراف ديموقراطي، وتوزيع حقوق الاستيراد على المقربين من الفئة الحاكمة، والتحكم بالنفقات العامة.
يظهر ذلك بشكل واضح في النمو الهائل للاستيراد الذي يترافق مع تقلص مدهش في الإنتاج الداخلي. إنّ غياب المراقبة يسمح بإقرار سياسات عامة عبثية من دون نقاش، وصرف نفقات كبيرة جداً بفعالية شبه معدومة، من دون بروز أي اعتراض. ويبدو ذلك جلياً في إنفاق مبلغ خيالي، هو 500 مليار دولار، منذ وصول عبد العزيز بوتفليقة الى الحكم في 1999. يرتكز الاقتصاد السياسي هذا، المتميز بالفوضى وبطغيان الافتراس، على غياب القانون والعجز المتزايد للإدارة العامة في سياق إضعاف بُنى الدولة.
سمات مشتركة
وإذا كان الريع النفطي والحرب الأهلية خصائص جزائرية، فإنّ التخلي عن فئات واسعة من الشعب هو سمة مشتركة بين البلدان الثلاثة الأكثر كثافة سكانياً في المغرب العربي. الضعف الإداري والإهمال يبدوان واضحين في المناطق الداخلية، «غير المجدية»، التي تُركت للاقتصاد الموازي: التهريب، والخوة والاتجار بالممنوعات من كل الأصناف، وهي من مصادر تمويل المجموعات الإرهابية و/أو الإجرامية البحتة.في الديكتاتوريات، تكون المهمة الأولى للإدارة، عدا السيطرة البوليسية على الناس، هي تسهيل الجباية غير الشرعية والاختلاسات لمصلحة الفئات الحاكمة.
إنّ عدم فعالية السياسات العامة والنواقص في الإدارة يعودان بشكل أساسي الى حرف المؤسسات الذي يتسبب به الاستبداد بفضل غياب قواعد القانون التي تسري على الجميع، والى غياب الحسابات المالية الشفافة وأي محاسبة. ويتعلق الأمر بالعنف المتجدد والمتعدد الأشكال، أكثر منه بعدم كفاءة الموظفين الرسميين المعينين من قبل الأنظمة، وهو العنف الذي يغذيه سحق الحريات، والذي يفسر بمقدار كبير إخصاء القدرات الخلاقة، والتأخر في تطور بلداننا، والانزلاق المستمر نحو كل ما هو غير رسمي وغير مقنن في الإدارات العامة. ومن دون الغوص بعيداً في التحليلات، فإنّ عجز البيروقراطيات عن إرساء أسس اقتصادية مغاربية متكاملة تفرض نفسها بداهة، هو التعبير الأكثر بلاغة عن غياب التفكير بالصالح العام لشعوب منطقتنا.
تتشارك دول المغرب العربي الثلاث في تطبيق المسلمات الاقتصادية الليبرالية المفروضة من قبل كبار «شركائها» من دول الشمال، ومن قبل دائنيها، والمنظمات المتعددة الجنسيات. قبل أسابيع من حادث سيدي بوزيد وانطلاق شرارة الثورة التونسية، كانت هذه المراكز تقدم بثقة نموذج بن علي بوصفه يرمز إلى إدارة فعالة للاقتصاد الصاعد. التتمة معروفة...
وتدل البراهين أنّ سياسات التصحيح الهيكلي النيوليبرالية، عوض تحفيز ديناميات خلق الثروات والنمو، تعمق عدم المساواة، وتعزز هشاشة فئات كبيرة من الناس، وترسخ الاعتماد على الاقتصاديات المسيطرة، خصوصاً تلك العائدة للمستعمِر السابق.
النيوليبرالية والعنف
لكن عمل الغرب المحافظ ــ الجديد لا يتوقف على الدفع الى الانفتاح النيوليبرالي؛ إذ يستعيد التدخل الغربي أشكاله النيوكولونيالية (الاستعمارية الجديدة) الأكثر تقليدية حين يستحضر «حق الحماية»، وهو صنو «المهمة التحضيرية» (التي كان الغرب يعتبرها من وظائف الاستعمار «الايجابية»)، لتبرير قصف ليبيا مثلاً. إنّ تدمير البنى الدولتية الضعيفة اطلق العنان لعنف ميليشياوي موزع الأرجاء يقوم بتسريع وتائر تقسيم البلاد ويشجع بالتالي نهب الموارد. نحن إذًا على الأرجح أمام نوع التحول الذي تحبذه اوروبا والولايات المتحدة الاميركية للعالم العربي. ان اللجوء السينيكي الى الحرب في منطقتنا، والصمت الرسمي على ذلك، اظهرا ان الانظمة القائمة تقف عارية أمام الهيمنة الغربية.
وأما الخطابات المناهضة لحلف شمال الأطلسي، المنتشرة في بعض وسائل إعلامها، فهي لفظية بالكامل إن لم تتزاوج مع المطالبات الديموقراطية: فخط الدفاع الأكثر صلابة في وجه اعتداءات القوى النيوكولونيالية هو فعلياً الضمير المواطِني للشعوب. الى جانب الأخذ الفعلي بالاعتبار للحاجات الاجتماعية للفئات الأكثر هشاشة، فإنّ اللجوء إلى أدوات القانون من اجل إدارة المشاريع العامة وحل النزاعات يشكل الإطار القضائي ــ السياسي الوحيد المناسب لإيجاد علاقات اجتماعية ايجابية وتحرير الطاقات الخلاقة.
بهذه الشروط، تصبح ممارسة السياسة ممكنة من جديد، ويمكن ضمان المواطنة الكاملة، والوصول بالتالي الى تحقيق سيرورة التخلص من الاستعمار التي أوقفها الاستبداد.
المطروح اليوم هو مسؤولية النخب، الدينية والعلمانية معاً، في تحقيق عيش مشترك مبني على التسوية والحوار. وبالفعل، فمن الحيوي عزل المتطرفين، وإحباط الخطاب المعتد بـ«الى النهاية» الذي تنتجه المعسكرات المتناقضة ايديولوجياً ولكن المشترِكة في وراثتها للعقلية الرجعية وللآليات الشمولية. الهدف الأساسي هو إذًا الرفض النهائي لمبدأ العنف.
ويفترض أن تنصب جهود كل من يناضل من اجل أن تصبح مراحل التحول نحو المجتمعات الهانئة والمتطلعة نحو المستقبل، قصيرة ومنخفضة الكلفة للشعوب التي لم يرحمها التاريخ: تنصب على إحلال السلام في الفضاء العام بواسطة الديموقراطية وسيادة القانون والإقرار بالحريات العامة والخاصة. حينها يمكن لشعوب المغرب العربي أن تأخذ مصيرها بيدها، وتجسد تلاقيها الضروري، وتعيش أخيرا «بشكل مشترك حميمية رحلة متشابهة» على حد قول كاتب ياسين.