في المدينة، يعمل علي كسفير غير رسمي للشؤون الإنسانية بالنسبة لقريته: يرافق الطلبة الجدد إلى الجامعات، يستقبل المرضى، ويذهب بهم إلى العيادات الخاصة والمستشفيات الحكومية، يبحث عن العجائز التائهين في "اللوكندات"، يُفرج بالوكالة عن رهونات الرجال العائدين إلى القرى بعائلاتهم، تاركين لدى البقَّالين وبائعي الخضار خواتم الزواج وأقراط الأمهات وأشياء أخرى كانت ثمينة وغالية قبل الحرب. يتلقى علي الاتصالات من "المندوب الرسمي"، والدته، ومن جميع الأهالي الذين لديهم مصلحة تخصهم في المدينة، لكنها أبعد وأخطر من أن يصلوها، وكذلك أقل ألفة ومحبة.
يتلقى هذه المرة اتصالاً يحمل طلبين اثنين: الأول أن يستقبل العجوز أحمد علي في محطة الحافلات، والثاني أن يرشده ليجد المعتقل الذي يرزح فيه حفيده. لم يكن الشيخ المسكين قد خطا بقدمه أرض المدينة المجنونة أبداً في حياته، شاب وكبر في جبال قريته وقريباً من المدينة الصغيرة على البحر. لم يقرر أن يجرب زيارة هذه المدينة حين كانت تلك الزيارة أقل رعباً وأخف وطأة من الآن. لكن بعد هذا العمر الطويل، الذي شاهد فيه كل أبناء جيله يموتون وشاهد أولاده يشيخون، مسّته الحرب بنارها مباشرة، ولم تترك لديه الخيار لأن ينأى بعقود سنينه السبعة بعيداً عنها. توفي ابنه الأكبر فجأة بذبحة صدرية، تاركاً ثلاثة فتية وبنتاً واحدة. كبر الأولاد تحت جناح الجد، وحين أقبلت الحرب، مدت أذرعها للقرى البعيدة، أصابت ما أصابت، واختطفت أرقاماً لا تحصى من شباب القرى.
كان علي قد توقف عن إحصاء عدد القتلى من شباب القرية على الجبهات. في إحدى حكاياته ركيكة اللغة، وصف كيف يلتقي أبناء عمومة على الجبهات، فمثلاً يعيش الشاب الأول في القرية التي تتبع إدارياً ما تبقى من الحكومة، بينما يعيش الشاب الآخر في المدينة التي تتبع الميليشيا، ويتفق كل أولاء الشباب على مصلحة واحدة: المال. يريدون مالاً بأيّة طريقة. ما الذي يفعله شبان العشرين إن لم يكن هناك عمل ومال وقوة؟ كانت الحرب هي الملجأ الأخير، وفّرت الدول الغنية داعمة الحرب كل الدعاية التي تصوِّر الحرب كفرصة عمل لا تفوَّت: رواتب شهرية مستديمة، حياة رغدة، أداء واجب ديني بالمعنى الحقيقي.. انطلق الشباب أفواجاً للحصول على مئة دولار شهرياً، قد تكلفهم حياتهم أو أجزاءً منها. لم يتبقَ بيت واحد في القرى لم تصله جنازة، بل إن أمه انتحبت لخمس دقائق على الهاتف، ناقلة له حرفياً قصة صاحب أول دكان في القرية، وكيف فقد أبناءه الثلاثة: " في كل عيد يا بني، عادوا إليهم بخبر موت، خبر فقط على الهاتف، ليس هناك من أجساد ليودعها الوالدان يا ولدي، حتى الجثث صارت صعبة يا بني"، ولم يسأل علي قط لماذا ذهب الجميع، لكنه فقط كان يسأل إن كان شخص جديد قد انضم. وكان دائماً هناك منضمّون جدد، بالجملة: ماذا نبقى لنفعل هنا؟
جلس العجوز بأعوامه السبعين على رصيف الشارع، بجانب كيس بلاستيكي بصورة مضخمة لعلبة سجائر، "لقد ارتدى أجمل وأجدد ما لديه" فكر علي وهو يشاهده بمعوزه البني وقميصه الرمادي. لكنها لم تكن زيارة تستحق التأنق. كان العجوز هادئاً مركِّزاً في نقطة واحدة من الشارع المقابل. استغرب علي أنه لم يكن مأخوذاً بالطبيعة الجنونية للمدينة، وحين وقف أمامه مرحباً، افترَّ العجوز عن ابتسامة كالأطفال. اقتاده علي للشقة التي في الأعالي، ترنّح العجوزعلى المظلم، ظل علي يسنده ويحمل عنه كيسه البلاستيكي. حين وصلا، كان علي قد أزاح قليلاً من الفوضى، وأخلى للعجوز فراشاً قديماً لينام عليه. ومثل أم رؤوم، لم يوفر جهداً ليُبقي العجوز هادئاً، دافئاً وممتلئاً.
____________
من دفاتر السفير العربي
اليمن بعدسة ريم مجاهد
____________
في اليوم التالي بدأت رحلة البحث عن الشاب الأسير. كان علي يعرف منذ البداية أنها مهمة مستحيلة، لا يمكنك قط أن تزور أسرى في هذه المدينة. بإمكانك أن تقابل قادة الحرب أنفسهم، لكنك بأي حال لن تزور أسير حرب. كانت الميليشيا بالتعاون مع قوات "التحالف"، تقضي أولاً بأول على وجود الأسرى، إذ تتعمد الأولى تكديسهم في مكان واحد، ثم تهرول طائرات النجدة لتقصف المكان ذاته فتحيله بقايا بشرية. تنفض الميليشيا يديها. وفي صحف الدول الغنية تظهر صورة لبقايا دبابة من موقع ما حول العالم أو من فيلم ما، وخبر: "استهداف موقع عسكري.." لكن علي لم يشارك العجوز كل هذه الأخبار، كل ما كان هذا الأخير يعرفه عن الحرب هو جبهات بمسميات مختلفة وقتلى بدون إحصاء. التفاصيل لم تكن متاحة له، ولم يكن ليهتم بها حتى لو أتيحت. لكن مع كل المستحيل، لم يتوانَ علي عن استخدام ما استطاع من اتصالاته كي يجد خيطاً واحداً لمواقع المعتقلات، ومعرفة إن كان من الممكن زيارتها. وباسم الصبي وصورة قديمة من فيسبوك، ثم بأسماء الجبهات التي شارك فيها، وبمعلومات من تبقى على قيد الحياة من زملائه، عرف علي أن الصبي قد يكون في مدينة قريبة، وليس في المدينة ذاتها. يتبقى أن يحصل على إذن بالزيارة إن كانت هناك زيارة. وكان علي بطبعه البشري الأناني، بمقدار ما هو راغب بأن يساعد الشيخ ويذهب به إلى المعتقل، بمقدار ما كان خائفاً أن يورطه هذا بما هو أكبر منه ولا قدرة له عليه. سيكون اسمه في دائرة الشك، في الكشوفات غير المنتهية للمشكوك فيهم و"غير سليمي النية"، سينبش تاريخه حتى أبسط تغريدة على تويتر. لكنه وصل إلى النقطة التي لا تراجع فيها، وفي كل مرة ينظر فيها للعجوز ينهر ذاته بقسوة، وبأنه لربما يكون يوماً في المعتقل ذاته، ويبحث والده عمّن يمكن أن يقوده إليه.
حاملاً ورقة عليها توقيعات مختلفة، انكمش علي أمام الحراسة التي تحيط بالمكان، ردد الاسم أكثر من مرة، وشرح أن العجوز يريد فقط رؤية الشاب لا أكثر ولا أقل، وأنه قد تلقى الموافقة من الشيخ فلان الفلاني، والضابط فلان الفلاني، وها هي التواقيع. نظر الرجل ببندقيته الضخمة للورقة ورد ببرود: "نعرف ذلك، انتظرا في ذلك الممر". سار الرجلان ببطء نحو ممر صغير يفصل المبنى عن جدار السور الضخم، في منطقة ضيقة نمت فيها أشجار بدون أوراق. لم يكن هناك كرسي أو ما شابه، كان الشيخ متعباً، فجلس القرفصاء بجانب علي المتوتر، انتظرا لأكثر من نصف ساعة قبل أن يهل في البداية عسكري شاب بطاقية معوّجة، ثم يتبعه رجل مسلح بالزي المدني و"الجنبية" تحيط كرشه الضخم. تفحص المسلحان العجوز والشاب، ودارت محادثة مليئة بالشكوك والأخذ والجذب، ثم اختفى المسلحان. ومن جديد عاد الرجلان ينتظران بصمت. وفجأة قطع العجوز الصمت وقال : لن نراه، لن يَدعونا نلتقيه.. كان علي أيضاً على وشك اليقين بذلك، لكن لهجة العجوز أوصلته بسرعة لليقين، ومع هذا انبرى يشد من عزيمة العجوز، ويقنعه بأنهما سيلتقيانه وسيكون بخير. لم يعلق العجوز بكلمة، ولا حتى ب"إن شاء الله".
ساعة أخرى عاد بعدها الرجل بزيه المدني وسلاحه الثقيل، مد يده مربتاً على كتف العجوز، قائلاً:
- عد إلى المنزل يا حاج، حفيدك في الداخل مرتاح يأكل ويشرب، لكنك لن تستطيع الدخول وهو لن يستطيع الخروج، لقد أعدنا التواصل مع فلان الفلاني وهو ألغى فكرة الزيارة، حاول أن تربي بقية أحفادك يا حاج، وأخبرهم ألا يقاتلوا مع الفئة الباغية، مع السلامة يا عم، روح ارتاح في البيت".
لم يكن علي في موقع يستطيع الاعتراض فيه، الجد الذي ثبت عينيه في عينيّ الرجل المسلح، حمل بيده الجافة الكيس البلاستيكي الذي يحوي ملابس الفتى من أمه وعلبة صابون وبسكويت، حملها، ولم يعلق بكلمة على توصيات الرجل. سار مبتعداً ببطء يحمل سنينه وأوزار الحرب كلها. كان يعرف هذا منذ البداية، ربما يكون الصبي قد مات، ربما لم يعيروا الاسم حتى اهتماماً، لكنه حين يعود، حين يصل القرية، وقبل أن يواجه نظرات الأم والصبية الآخرين، سيموت. وإن لم يفعل فسيصمت إلى الأبد، سيبدأ هذا الصمت منذ الآن.
حاول علي ما استطاع أن يفتح حديثاً في الطريق إلى المنزل، لكن العجوز كان قد انزوى في زاوية أبعد ما تكون عن ضجيج علي. فقط طلب منه أن يذهب به مباشرة إلى محطة السيارات لأنه ينوي العودة اليوم إلى القرية. "لكن ما زال لديك ملابس في المنزل!" شرح علي. رد العجوز بأنه لن يحتاجها بعد اليوم. توسل إليه علي أن يذهب به لتناول الغداء، لكن العجوز أمسك بيده راجياً إياه ألا يلحّ عليه. كانت سيارة البيجو المتهالكة ستنطلق تماماً بعد ساعة إلى مدينة أخرى، ومن هناك سيضطر العجوز لأن يستقل سيارة نقل ثانية توصله حتى حدود قريته. جلس العجوز بجانب شاب ناحل في المقعد الأوسط، وحين خرج الشاب للمرة الأخيرة قبل انطلاق السيارة، توسل إليه علي أن يهتم بالعجوز، وأن يحاول أن يأخذه معه ليأكل إن توقفوا للأكل. تأثر الشاب حتى كاد يدمع، ووعد علي أنه سيرعاه خلال الرحلة. أخيراً، أدخل علي رأسه من النافذة، قَبّل العجوز على رأسه ثم على خده، ثم ابتسم وهو يطلب منه أن يوصل السلام لأمه.
انطلقت السيارة، كان قلب علي مدهوساً بملايين الإطارات، كان قلب علي هو قلب العجوز، كان قلب علي هو قلب الفتى الذي لن يعرف أن جده ورائحة أحبائه كانت فقط على بعد حائط منه، كان قلب علي هو كل تلك القلوب التي دُهست، وعبر عليها العالم دون حتى أن يلتفت لأثر حذائه عليها.
موت
06-06-2019
نادية
14-06-2019
علي
27-06-2019
سلمى
18-07-2019
نادية: إكتشافات ما بعد الظهيرة
26-07-2019
علي: القصص الأخرى
08-08-2019
سلمى، ليالي الحب والحرب
16-08-2019
لقاء نادية بسلمى
29-08-2019